الطاهر بن عاشور .. إمام تونس الكبير
بقلم/ أحمد زكريا
في خضم الثورة التونسية المباركة لابد أن نتذكر رجلا من رجال تونس العظام.. بل قل إن شئت: "أسد من أسودها".
هو عالم تونس الأول بلا منازع.. بل هو من أعلام الدنيا.. جمع بين العلم والعمل.
وقف في وجه الظلم والطغيان حين جبن الجميع.. وآثروا متاع الدنيا الفاني.
صدع بكلمة الحق غير هياب ولا وجل في وجه الطاغية السابق "الحبيب بورقيبة" حين حاول"الحبيبُ بورقيبة" الرئيسُ التونسي السابق.. دعوة العمالَ إلى الفطر في رمضان بدعوى زيادة الإنتاج.صدقالله وكذب بورقيبة
وطلب من شيخنا "الطاهر عاشور" أن يفتي في الإذاعةبما يوافق هذا، لكن الشيخ صرح في الإذاعة بحكم الإسلام الصحيح الذي يعرفه بعد أن قرأ آيةالصيام..وقال بعدها:"صدق الله.. وكذب بورقيبة".. وكان ذلك عام 1961م.
وإذا كان الأزهر في مصر منارة للعلم والعلماء.. فإن "الزيتونة" في تونس، منارة للعلم وقبلة للرجال الأفذاذ الذين قادوا الأمة وأناروا لهاالطريق.
ومن هؤلاء النجوم العالم الشجاع "محمد الطاهر بن عاشور" الذي حمل راية الإصلاح في تونسما يزيد عن نصف القرن من الزمان.. حيث كرس عمره الذي بلغ التسعين في خدمة العلموالإصلاح.
وهذه إطلالة على شيخ جليل نقدمه قدوة لشباب تونس في وقت هم أحوج ما يكونون للقدوة الصالحة.
نقدم لهم نموذجا يحتذي.. ومثلا أعلى في التضحية والرجولة والبذل والعطاء.. ليعلم شباب اليوم أن لهم سلفا حملوا الأمانة من قبلهم.. حتى لا يغرر بشباب تونس خاصة وشباب المسلمين عامة.. وتسرق ثورتهم تحت شعارات خادعة كاذبة.
لأن أعداء الأمة يريدون بكل السبل أن ينزعوا عنه ثوب الإسلام.. ومما يستوجب القلق والانتباه أنك ترى مع بعض شباب تونس المتظاهرين صورا لـ "جيفارا".. وهذا ما يريده البعض أن تنسب الثورة لأي أحد إلا الإسلام.
ولد محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور، الشهيربالطاهر بن عاشور، بتونس في (1296هـ .. 1879م) في أسرة علمية عريقة تمتد أصولها إلىبلاد الأندلس.المولد والنشأة
وقد استقرت هذه الأسرة في تونس بعد حملات التنصير ومحاكم التفتيش التي تعرض لها مسلمو الأندلس.. وقد أهدت هذه الأسرة للعالم الإسلامي علمين هما "الطاهر بن عاشور".. وابنه "الفاضلبن عاشور" الذي مات في حياة والده رحمهماالله.
أتم الطاهر القرآن الكريم، وتعلم اللغة الفرنسية، والتحق بجامع"الزيتونة" سنة (1310هـ ..1892م).. وهو في الـرابعة عشر من عمره.. فأظهر نبوغًا منقطعالنظير.
تخرج الطاهر من "الزيتونة" عام (1317هـ -1896م)، والتحق بسلك التدريسفي هذا الجامع العريق، ولم تمض إلاّ سنوات قليلة حتى عين مدرسًا من الطبقة الأولى.. بعد اجتياز اختبارها سنة (1324هـ - 1903م).وبدأت رحلة الكفاح
وكان الطاهر قد اختير للتدريس في المدرسة "الصادقية" سنة (1321هـ - 1900م)، وكان لهذه التجربة المبكرة في التدريس بين"الزيتونة" ذات المنهج التقليدي.. و"الصادقية" ذات التعليم العصري المتطور.. أثرهافي حياته.
إذ فتحت وعيه على ضرورة ردم الهوة بين تيارين فكريين ما زالا في طور التكوين، ويقبلان أن يكونا خطوط انقسام ثقافي وفكري في المجتمع التونسي، وهما:
تيارالأصالة الممثل في "الزيتونة".
وتيار المعاصرة الممثل في "الصادقية".
ودوّن آراءه هذهفي كتابه النفيس "أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ؟" من خلال الرؤية الحضارية التاريخية الشاملةالتي تدرك التحولات العميقة التي يمر بها المجتمع الإسلامي والعالمي.
عين "الطاهر بن عاشور" نائبا أول لدى النظارة العلمية بجامع "الزيتونة" سنة (1325 هـ - 1907).ابن عاشور مجددا ً
فبدأ في تطبيق رؤيته الإصلاحية العلمية والتربوية، وأدخل بعض الإصلاحات علىالناحية التعليمية.
وحرر لائحة في إصلاح التعليم وعرضها على الحكومة فنفذت بعض مافيها.
وسعى إلى إحياء بعض العلوم العربية.. فأكثر من دروس الصرف في مراحل التعليموكذلك دروس أدب اللغة.. ودرس بنفسه شرح ديوان الحماسة لأبي تمام.
ورأى أنّتغيير نظام الحياة في أي من أنحاء العالم يتطلب "تبدل الأفكار والقيم العقلية.. ويستدعي تغيير أساليب التعليم".
وقد سعى الطاهر إلى إيجاد تعليم ابتدائي إسلامي فيالمدن الكبيرة في تونس على غرار ما يفعل الأزهر في مصر.. ولكنه قوبل بعراقيلكبيرة.
أمّا سبب الخلل والفساد اللذين أصابا التعليم الإسلامي فترجع في نظرهإلى: "فساد المعلم.. وفساد التآليف.. وفساد النظام العام".. وأعطى أولوية لإصلاح العلوموالتآليف.
اختير ابن عاشور في لجنة إصلاح التعليم الأولى بالزيتونة في (صفر 1328هـ - 1910م)، وكذلك في لجنة الإصلاح الثانية (1342هـ - 1924م)، ثم اختير شيخا ً لجامع الزيتونة في (1351 هـ - 1932م)، كما كان "شيخ الإسلام المالكي".ابن عاشور شيخا للزيتونة
فكان أول شيوخ"الزيتونة" الذين جمعوا بين هذين المنصبين.. ولكنه لم يلبث أن استقال من المشيخة بعد سنة ونصف بسبب العراقيل التي وضعت أمام خططه لإصلاح الزيتونة، وبسبب اصطدامه ببعضالشيوخ عندما عزم على إصلاح التعليم في "الزيتونة".
أعيد تعيينه شيخا لجامعالزيتونة سنة (1364 هـ - 1945م)، وفي هذه المرة أدخل إصلاحات كبيرة في نظام التعليمالزيتوني؛ فارتفع عدد الطلاب الزيتونيين، وزادت عدد المعاهد التعليمية.
وحرصعلى أن يصطبغ التعليم الزيتوني بالصبغة الشرعية والعربية، حيث يدرس الطالب الزيتونيالكتب التي تنمي الملكات العلمية وتمكنه من الغوص في المعاني؛ لذلك دعا إلى "التقليل من الإلقاء والتلقين، وإلى الإكثار من التطبيق؛ لتنمية ملكة الفهم".
ولدىاستقلال تونس أسندت إليه رئاسة الجامعة الزيتونية سنة (1374هــ -1956م).
كان "الطاهر بن عاشور" عالما ً مصلحا ً مجددا ً، لا يستطيع الباحث في شخصيته وعلمه أن يقف على جانب واحد فقط، إلاّ أنّ القضية الجامعة في حياته وعلمه ومؤلفاته هي التجديد والإصلاح منخلال الإسلام.. وليس بعيدا عنه.التحرير والتنوير
ومن ثم جاءت آراؤه وكتاباته ثورة على التقليد والجمود..وثورة على التسيب والضياع الفكري والحضاري.
وكان لتفاعل "الطاهر بن عاشور" الإيجابي مع القرآن الكريم أثره البالغ في عقل الشيخ الذي اتسعت آفاقه فأدرك مقاصد الكتاب الحكيم وألم بأهدافه وأغراضه.. مما كان سببا في فهمه لمقاصد الشريعةالإسلامية التي وضع فيها أهم كتبه بعد التحرير والتنوير وهو كتاب (مقاصد الشريعة).
كان "الطاهربن عاشور" فقيها مجددا يرفض ما يردده بعض أدعياء الفقه من أنّ باب "الاجتهاد" قدأغلق في أعقاب القرن الخامس الهجري.. ولا سبيل لفتحه مرة ثانية.مقاصد الشريعة
وكان يرى أنّ ارتهانالمسلمين لهذه النظرة الجامدة المقلدة سيصيبهم بالتكاسل وسيعطل إعمال العقل لإيجادالحلول لقضاياهم التي تجد في حياتهم.
وإذا كان علم "أصول الفقه" هو المنهجالضابط لعملية الاجتهاد في فهم نصوص القرآن الكريم واستنباط الأحكام منه.. فإنّالاختلال في هذا العلم هو السبب في تخلي العلماء عن الاجتهاد.
ورأى أنّ هذاالاختلال يرجع إلى توسيع العلم بإدخال ما لا يحتاج إليه المجتهد، وأنّ قواعد الأصولدونت بعد أن دون الفقه، لذلك كان هناك بعض التعارض بين القواعد والفروع في الفقه.
كذلك الغفلة عن مقاصد الشريعة إذ لم يدون منها إلاّ القليل.. وكان الأولى أن تكونالأصل الأول للأصول لأنّ بها يرتفع خلاف كبير.
ويعتبر كتابه (مقاصد الشريعة)،من أفضل ما كتب في هذا الفن وضوحا في الفكر ودقة في التعبير وسلامة في المنهج واستقصاء للموضوع.
لم يكن "الطاهر بن عاشور" بعيدا عن سهام الاستعمار والحاقدين عليه والمخالفين لمنهجهالإصلاحي التجديدي، فتعرض الشيخ لمحنة قاسية استمرت 3 عقود عرفت بـ "محنة التجنيس".محنة التجنيس
وملخصها أنّ الاستعمار الفرنسي أصدر قانونا في (شوال 1328 هـ - 1910م) عرف بقانون التجنيس، يتيح لمن يرغب من التونسيين التجنس بالجنسية الفرنسية.
فتصدى الوطنيون التونسيون لهذا القانون ومنعوا المتجنسين من الدفن في المقابر الإسلامية؛ ممّا أربك الفرنسيين فلجأت السلطات الفرنسية إلى الحيلة لاستصدار فتوى تضمن للمتجنسين التوبةمن خلال صيغة سؤال عامة لا تتعلق بالحالة التونسية توجه إلى المجلسالشرعي.
وكان الطاهر يتولى في ذلك الوقت سنة (1352 هـ = 1933م) "رئاسة المجلس الشرعي لعلماء المالكية".. فأفتى المجلس صراحة بأنّه يتعين على المتجنس عند حضوره لدى القاضي أن ينطق بالشهادتين ويتخلى في نفس الوقت عن جنسيته التي اعتنقها.
لكنالاستعمار حجب هذه الفتوى، وبدأت حملة لتلويث سمعة هذا العالم الجليل، وتكررت هذهالحملة الآثمة عدة مرات على الشيخ، وهو صابر محتسب.
وقد توفي الشيخ المجاهد "الطاهر بن عاشور" في (13 رجب 1393 هـ 12أغسطس 1973م) بعد حياة حافلة بالعلم والإصلاح والتجديد والعطاء والجهاد.. وتقديم صورة مثلى للعالم المسلم الشجاع البصير بأحكام دينه العالم بواقعه وأحوال أمته.. الحريص على بذل أقصى جهده لنصرة هذا الدين.. وتحصين أبنائه من مؤامرات أعدائه المتربصين بهم ينتظرون الفرصة لينقضوا على بلاد المسلمين.. مفرقين شملهم ناشرين أفكارهم المسمومة.نهاية الرحلة
كل ذلك لينخلع أبناء الإسلام من دينهم – وكذبوا – فأبناء الإسلام في تونس وفي كل مكان يستشعرون هذا الخطر الداهم، ويعرفون ما يراد بهم وبدينهم وأوطانهم، ولذا هم مرابطون على ثغور الإسلام والأوطان، حتى لا يؤتى الدين والوطن من قبلهم.
نسأل الله العظيم أن يحفظ أوطاننا من مكر الماكرين، وكيد الكائدين، وأن يرد شعوبنا وأمتنا إلى الإسلام ردا جميلا ً.