بمناسبة أحداث تونس التاريخية،
نفضتُ الغبارَ عن ديوان شاعرها العظيم أبي القاسم الشابي رحمه الله (الطبعة الأولى 1955)،
واقتطفت منه هذه المشاعل:
زئير العاصفة
تُسائلني: ما لي سكتُّ، ولم أُهِبْ * بقومي، وديجورُ المصائبِ مُظْلِمُ
وَسَيْلُ الرَّزايا جَارفٌ متدفّعٌ * غضوبٌ ووجهُ الدّهر أربدُ أقتمُ
سَكَتُّ، وقد كانت قناتيَ غضَّةً * تصيخُ إلى همس النسَّيم، وتحلمُ
وقلتُ، وقد أصغتْ إلى الرّيحِ مرّةً * فجاش بها إعصارهُ المتهزِّمُ
وقلتُ وقد جاش القَريضُ بخاطري * كما جاش صخَّابُ الأواذيِّ أسْحَمُ:
أرى المجدَ معصوبَ الجبين مُجدَّلاًً * على حَسَكِ الآلام يغمرهُ الدَّمُ
وقد كان وضَّاحَ الأساريرَ باسماً * يهبُّ إلى الجلَّى ولا يَتَبَرّمُ
فيا أيها الظلمُ المصَعِّرُ خدَّه * رويدكَ! إن الدّهر يبني ويهدمُ
سيثأرُ للعزِّ المحطَّمِ تاجُه * رجالٌ، إذا جاش الرِّدى فهمُ هُمُ
رجالٌ يرون الذَُلَّ عاراً وسبَّة ً * ولا يرهبون الموتَ والموتُ مقدمُ
وهل تعتلي إلا نفوسٌ أبيِّة ٌ * تصدَّع أغلالَ الهوانِ وتَحطِمُ
إلى الظالم المستبد
يَقُولونَ: صَوْتُ المُسْتَذِلِّين خَافِتٌ * وسمعَ طغاة الأرض أطرشُ أضخم
وفي صَيْحَة ِ الشَّعْبِ المُسَخَّر زَعْزَعٌ * تَخُرُّ لَهَا شُمُّ العُرُوشِ وَتُهْدَمُ
ولعلعة ُ الحقّ الغضوضِ لها صدى * وَدَمْدَمَة ُ الحَربِ الضَّروسِ لَهَا فمُ
إذَا التَفَّ حَوْلَ الحقِّ قَوْمٌ فَإنّهُ * يُصَرِّمُ أحْدَاثُ الزَّمانِ وَيُبْرِمُ
لَكَ الوَيْلُ يَا صَرْحَ المَظَالمِ مِنْ غَدٍ * إذا نهضَ المستضعفونَ وصمّموا!
إذا حَطَّمَ المُسْتَعبِدُون َ قيودَهُمْ * وصبُّوا حميمَ السُّخط أيَّان تعلمُ..!
أغَرّك أنَّ الشَّعْبَ مُغْضٍ عَلَى قَذًى * وأنّ الفضاءَ الرَّحبَ وسنانُ مُظلمُ؟
ألاّ إنَّ أحلام البلادِ دفينة ٌ * تُجَمْجِمُ فِي أعْماقِهَا مَا تُجَمْجِمُ
ولكن سيأتي بعد لأيٍ نشورُها * وينبثق اليومُ الذي يترنَّمُ
هُوَ الحقُّ يُغْفي ثُمَّ يَنْهَضُ سَاخِطاً * فيهدمُ ما شادَ الظلاّمُ ويحطمُ
غدَ الرّوعِ، إن هبَّ الضعيف ببأسه، * ستعلم من منّا سيجرفه الدمُّ
إلى حيث تجنى كفَّهُ بذرَ أمسهِ * وَمُزْدَرِعُ الأَوْجَاع لا بُدَّ يَنْدَمُ
ستجرعُ أوصابَ الحياة ، وتنتشي * فَتُصْغِي إلى الحَقِّ الذي يَتَكَلَّمُ
إذا ما سقاك الدهرُ من كأسِهِ التي * قُرَارَتُها صَابٌ مَرِيرٌ وَعَلْقَمُ
إذا صعق الجبّارُ تحتَ قيوده * يُصِيخُ لأوجاعِ الحَياة ِ وَيَفْهَمُ!!
سرُّ النهوض!
لا ينهضُ الشعبُ إلاَّ حينَ يدفعهُ * عَزْمُ الحياةِ إذا ما استيقظتْ فيهِ
والحَبُّ يخترقُ الغَبْراءَ مُنْدفعاً * إلى السماء إذا هبَّتْ تُناديهِ
والقيدُ يأَلَفُهُ الأمواتُ ما لَبِثوا * أمَّا الحيَاة ُ فيُبْليها وتُبْليهِ
إلى طغاة العالم
ألا أيها الظَّالمُ المستبدُّ * حَبيبَ الظَّلامِ عَدوَّ الحياهْ
سَخَرْتَ بأنّاتِ شَعْبٍ ضَعيفٍ * وكفُّكَ مخضوبةٌ من دِماهْ
وَسِرْتَ تُشَوِّه سِحْرَ الوجودِ * وتبذرُ شوكَ الأسى في رُباهْ
رُوَيدَكَ! لا يخدعنْك الربيعُ * وصحوُ الفَضاءِ وضوءُ الصباحْ
ففي الأفُق الرحب هولُ الظلام * وقصفُ الرُّعودِ وعَصْفُ الرِّياحْ
حذارِ! فتحت الرّمادِ اللهيبُ * ومَن يَبْذُرِ الشَّوكَ يَجْنِ الجراحْ
تأملْ! هنالِكَ أنّى حَصَدْتَ * رؤوسَ الورى وزهورَ الأمَلْ
ورَوَيَّت بالدَّم قَلْبَ التُّرابِ * وأشْربتَه الدَّمعَ حتَّى ثَمِلْ
سيجرفُكَ السيلُ سيلُ الدماء * ويأكلُك العاصفُ المشتعِلْ
رحم اللهُ تلك الروحَ الشريفة!