مكتبة العلامة محمد بن الحاج العياشي سكيرج بمدينة طنجة :
التعريف بالعلامة محمد بن الحاج العياشي سكيرج :

هو العلامة الفقيه المؤرخ سيدي محمد بن الحاج العياشي سكيرج الأنصاري الخزرجي، من مواليد مدينة فاس في شهر ربيع الأول عام 1292 هـ أبريل 1875م، وبها نشأ وشب، فحفظ القرآن الكريم حفظا متقنا دون سن البلوغ، ثم أخذ العلم عن جماعة من كبار علماء القرويين كالفقيه الحافظ سيدي محمد بن المدني كنون، ومحمد بن جعفر الكتاني، وأحمد بن محمد ابن الحاج السلمي، وأحمد الطالب بن سودة المري، ومن في طبقة هؤلاء

ثم انتقل بعد ذلك إلى مدينة طنجة تلبية لطلب ابن عمه المهندس سيدي الزبير سكيرج، وكان حلوله بها بتاريخ 28 شعبان عام 1319 هـ 10 دجنبر 1901 م، وقد تقلب في وظائف ومهام مختلفة يطول بنا الأمر لو أردنا استقصاءها ضمن هذه النبذة اليسيرة. وكانت آخر وظائفه تعيينه أستاذا بالمعهد الديني بمدينة طنجة سنة 1359 هـ 1940 م، وقد قضى بهذا المعهد مدة تزيد على سبعة عشر سنة إلى أن أحيل على التقاعد سنة 1376 هـ 1957م، وكان مدير هذا المعهد حينئذ الأستاذ العلامة عبد الله كنون الذي كانت تجمعه به أخوة وصداقة ومصاهرة.

وله مؤلفات قيمة تناهز 90 مؤلفا، من أشهرها كتابه رياض البهجة في أخبار طنجة، يقع في خمس مجلدات ضخام سنعمل على تحقيقه وتقديمه للطباعة قريبا إن شاء الله تعالى. كما له مؤلفات في مجال أدب الرحلات، منها الرحلة المدريدية ويسميها أيضا قرة العين برحلة يومين، وقد أقدمنا على تحقيقها وطباعتها أخيرا، وهي رحلته التي قام بها للعاصمة الإسبانية مدريد ضمن الوفد المغربي الذي حضر حفلات عيد ارتقاء الجنرال فرانشيسكو فرانكو في شهر شتنبر 1940م.
ولا يفوتنا التنبيه على أن هذا الرجل هو أحد كبار رجالات الطريقة التجانية بمدينة طنجة، كما كان متصدرا لتلقينها هناك، ولا يفوتنا التنبيه على تلامذته الآخذين عنه والذين صاروا فيما بعد علماء وفقهاء وأساتذة كبارا. نذكر منهم مؤلف هذه الرحلة الأستاذ العلامة البشير أفيلال، والعلامة الحاج إدريس العراقي، والفقيه الحاج عمر السباعي المراكشي، والمقدم سيدي محمد المعافي، وآخرين.

توفي رحمه الله بمدينة طنجة يوم الأربعاء 3 محرم الحرام عام 1385 هـ 4 ماي 1965م، ودفن بها بضريح الولي الصالح سيدي محمد الحاج بوعراقية.

اعتناءه بمكتبة بيته:

إن كان لكل محترف أداة يتداول بها حرفته، ولكل مهني بلغة يتناول بها مهمته، فللعالم هو الآخر وسائل يبلغ بها القمة في العطاء، والمكانة في الاستزادة والسمو، ألا وهي مكتبته العلمية، التي هي مطيته إلى ذروة الجلال والجمال، وبها يبلغ نحو ما يرتجيه من آمال، ولئن سألت عالما أو متعلما عن أثمن شيء يملكه وأحسن ما يقتنيه ليجيبك دون تردد بأنه الكتاب، الذي هو رفيق دربه. وأنيس وحشته، فتراه يبذل في سبيل اقتنائه غالي الأثمان، لا يهمه من ذلك سوى أن يحظى بمكتبة يعبق طيبها، ويفوح أريجها، وتظم بين جنباتها أنفس المراجع والمصادر المختلفة.

وقد كان العلامة المؤرخ سيدي محمد سكيرج على هذا النمط والطراز، فقد ضمت مكتبته أمهات الكتب والمخطوطات والتقاييد والوثائق والمجلدات الضخام، التي هي ثروة في مواضيعها، ونافدة جليلة تطل على الدنيا فتكسوها معرفة وعلما ونباهة وجمالا، فإن رأيت خزانة كتبه حسبت من أول وهلة أنها لحجة الله الإمام الغزالي، أو للحافظ جلال الدين السيوطي، أو لسيبويه، أو لابن مالك النحوي، أو لغيرهم من كبار العلماء والرواد الآخرين.

ومهما يكن من أمر فإن هذه المكتبة لم تخلو من كتب التفاسير والحديث والعقيدة والفقه والسيرة والأدب والتاريخ واللغة والشعر، وما إلى ذلك من الموسوعات النفيسة التي قلما توجد في مكان آخر.

والمعروف عن الكتاب أنه يزداد رونقا في جماله إذا تمت صيانته والمحافظة عليه، فإذا تصفحه المطالع وقرأ فيه يداعبه بين يديه بعناية، ويقلب صفحاته ويفتحها بتأن ورعاية، فيظل مصانا على روعته وزهاوته، نظيفا في أتم نقاوته، وما هذه الألفاظ سوى صورة حية لمكتبة مترجمنا العلامة سيدي محمد سكيرج، فإن أمسكت كتابا منها تجده وكأنه حديث العهد بالطباعة، لم تؤثر عليه أيادي القراء، ولم يبليه الزمان، ولا أصابته الأرضة أو عَبَثَ فيه عابث.

ومرجع هذا كله للعلامة المذكور رحمه الله، فقد كانت له طريقة خاصة في تناول الكتاب وصيانته، كما لقن هذه الطريقة لأبنائه وأحفاده من بعده، كان رحمه الله يفتح الكتاب بتأن، ويقلب صفحاته، بتأن، ويحرص عند إغلاقه له من أن يصيب الإنكماش بعضا من صفحاته أو أن يقتحمها شيء ملموس كالغبار وغيره، فكان يمسح بأصبعه السبابة والإبهام رأس الصفحة إلى أسفلها، وذلك بتؤذة فريدة، حتى لا يعرض الصفحة إلى تمزق أو تكسر، ولا تكاد تسمع للصفحة صوتا لدى تقليبه لها، ولا يثنيها إذا ما انتهى من القراءة على عادة بعض الفقهاء، أضف إلى ذلك أنه كان يعظم الكتاب أيما تعظيم، فلا يضعه أرضا، أو يضع شيئا فوقه من حوائج وغيرها.

أما عن تنظيم مكتبته فقد أوتي في هذا المجال خبرة وحنكة، وكانت له فيه بديهة عجيبة، ينبئك عنها حسن ترقيمه للكتب وترتيبه للمجلدات والوثائق والكراريس المختلفة، وذلك وفق نظام متقن فريد، يساعد في تقريب الوصول إلى الكتاب المقصود بطريقة سهلة ومريحة، ولا ننسى أيضا اعتناؤه بدمج المواضيع الواحدة، ورعاية الأحجام والألوان، ونوعية صنف الكتاب، وما إلى ذلك من أمور آخرى.
ولم تقتصر مكتبة بيته عن خزانة واحدة ، بل وضع لها أكثر من ثلاث خزانات، وقد عبر عن ذلك من خلال إحصائية لمحتويات مكتبته (تقع في 34 صفحة) فرغ من كتابتها في شهر ربيع الثاني عام 1383م ـ شتنبر 1963، أي قبل وفاته بسنتين لا غير، قال في الصفحة الأولى منها: فبالخزانة الأولى عن يمين الداخل للصالة الكبرى. إلخ... ثم قال في صفحة آخرى: ومن الكتب بالخزانة عن يمين الداخل للبيت المجاور للحمام الجديد بفوقي الدار. إلخ.. ثم قال في صفحة آخرى: تقييد ما بخزانة المنزه.

وقد أخبرتني كريمته الأستاذة السيدة زبيدة أن والدها كان قد تبرع بجزء هام من مكتبته إلى بعض أهل العلم بفاس، وذلك قبل وفاته رحمه الله بما يناهز السنة، ثم علمت بعد ذلك أن الجهة المستفيدة من هذا التبرع كانت هي خزانة الزاوية التجانية الكبرى بالمدينة المذكورة، وذلك في شخص ناظرها ومحافظها العلامة المحدث سيدي إدريس بن العابد العراقي، الذي كانت تربطه به صداقة متينة، تشهد لها ما دار بين الطرفين من رسائل وأجوبة تفوق العشرات.

موقع الشيخ أحمد بن الحاج العياشي سكيرج