شرطان في بيع :
عن عَمْرو بْن شُعَيْبٍ عن أبيه عن جده قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r «لاَ يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ ، وَلاَ شَرْطَانِ فِى بَيْعٍ ، وَلاَ رِبْحُ مَا لَمْ تَضْمَنْ ، وَلاَ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ»([1])
الشروط على ثلاثة أقسام ([2]):
الأول : شرط من مقتضى العقد ، فلا يفسده ، كأن يبيعه بشرط خيار المجلس ، أو تسليم السلعة ، أو الرد بالعيب ، فهذه شروط لازمة بمقتضى العقد أصلا ، واشتراطه من باب التأكيد عليه فقط.
الثاني : أن يشترط ما لا يقتضيه العقد ، ولكن فيه مصلحة للعاقدين ، كاشتراط الخيار ثلاثًا ، والرهن والضمان والشهادة ، أو أن يشترط في السلعة صفة معينة ، فهذا لا يفسد العقد بل يصح ويثبت المشروط.
قال ابن قدامة : لا نعلم في صحة هذين القسمين خلافاً.
الثالث : قال الخطابي رحمه الله([3]) : وأما ما يفسد البيع من الشروط فهو كل شرط يدخل الثمن في حد الجهالة أو يوقع في العقد أو في تسليم المبيع غرراً أو يمنع المشتري من اقتضاء حق الملك من المبيع.انتهى.
وهذا كأن يشترط ما ينافي مقتضى العقد ، كأن يكون البيع آجل ، والأجل مجهول ، أو يشترط إن باعه يبيعه له ثانية ، أو أن يشترط أن لا يؤجره ، أو لا يعيره ، أو لا يسافر به.
اختلف العلماء في حكم هذا الشرط من حيث البطلان وعدمه ، وسياتي إن شاء الله ذكر خلاف العلماء في ذلك.
والشروط من حيث صدورها مع أو قبل أو بعد العقد([4]) :
1- أن يكون الشرط مقارنًا للعقدِ ، فإنه يلتحق بالعقد ، فإن كان الشرط صحيحًا لزم الوفاء به ، وإن كان فاسدًا أفسد العقد.
2-أن يكون الشرط سابقًا على العقد ، فلا يلحق بالعقد ولا يؤثر فيه ، ولا يلزم الوفاء به ، ولا يفسد العقد به إن كان شرطًا فاسدًا ؛ لأن ما قبل العقد لغو.
3- أن يكون الشرط بعد تمام العقد ، فله حالان :
الأول : إن كان بعد لزوم العقد بانقضاء مدة الخيار فهو لغو قطعاً.
الثاني : وإن كان قبل لزوم العقد في مدة خيار المجلس أو الشرط ، فالصحيح أن الشرط يلحق به في مدة الخيارين جميعًا.
- من باع شيئا بشرط ينافي مقتضى العقد :
كأن يقول بعني سيارتك بعشرين ألفا ، وعليك إصلاحها ، وتجديد رخصتها مثلا.
فقد طلب منه السيارة بعشرين ألفا ، واشترط شرطين : إصلاحها ، وتجديد رخصتها.
أو قد يشترط عليه شرط واحد فقط ، كإصلاحها مثلا .
فهذا بيع باطل للجهالة بالثمن ، لأن العشرين ألفا جعلها ثمنا للسيارة وللإصلاح ولتجديد الرخصة ، فلا يُعلم : كم ثمن السيارة ؟ وكم ثمن إصلاحها ؟ فعليه كان ثمن السيارة مجهولا ، وإذا كان الثمن مجهولا كان البيع غير صحيح .
أو قد يشترط البائع ترك السيارة عنده شهرًا ليقضي عليها بعض مصالحه ، فإن كان مثل هذا الشرط على وجه الإلزام ، فلا يصح البيع به ؛ لأن الأصل في البيع أن يتملك المشتري السلعة بمجرد العقد ، نعم إن كان تركها له على وجه المسامحة والمنحة له جاز ، أما غير ذلك فلا .
- واختلف العلماء فيمن اشترط شرطا ينافي مقتضى العقد([5]):
1- قول الجمهور :
أن من اشترط شرطًا ينافي مقتضى العقد ، فالبيع باطل ، سواء كان شرطاً واحداً أم شرطين .
وهذا قول : عمر بن الخطاب t ([6])، وابن عمرt([7]) رضي الله عنهما ، وعائشة رضي الله عنها([8]) ، وعكرمة ، وسفيان ، والأوزاعي ، وعطاء([9]) ، وأبي حنيفة([10])، والشافعي ، وأبي ثور.
2- البيع صحيح والشرط صحيح :
قال به : محمد بن سيرين ، وعبد الله بن شبرمة وحماد بن أبي سليمان ، وشريح([11]) .
حجتهم في ذلك حديث :
أبي هريرة t قال : قال رسول اللهr (الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ)([12])
وبحديث جابر بن عبد الله t لما باع جمله للنبي r فقال جابر t (فَبِعْتُهُ فَاسْتَثْنَيْتُ حُمْلاَنَهُ إِلَى أَهْلِي)([13])
وفي لفظ عند البخاري : (فَبِعْتُهُ عَلَى أَنَّ لِى فَقَارَ ظَهْرِهِ حَتَّى أَبْلُغَ الْمَدِينَةَ)
3- البيع صحيح والشرط باطل لاغ ، قال به : الحسن البصري ، والنخعي ، وابن أبي ليلى.
واحتجوا بحديث بريرة وفيه قال النبي r (وَاشْتَرِطِى لَهُمُ الْوَلاَءَ) فصحح النبي r البيع وأبطل الشرط.
4- إن شرط المتعاقدان شرطاً واحدا صح الشرط ولزم البيع ، وإن شرط المتعاقدان شرطين فأكثر بطل البيع. قال بهذا([14]): أحمد بن حنبل وإسحاق.
وحجتهما : حديث عَمْرو بْن شُعَيْبٍ عن أبيه عن جده قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r «لاَ يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ وَلاَ شَرْطَانِ فِى بَيْعٍ وَلاَ رِبْحُ مَا لَمْ تَضْمَنْ وَلاَ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ»([15])
قلتُ : الراجح من هذه الأقوال : القول الأول ، لأنه أقطع للنزاع والشقاق ، فنعم فلربما يشترط عليه بقاء السيارة عنده أسبوع ، فتصاب بأي أذى ، فلا يرغب فيها المشتري ، مما يوقع بينهما عداوة وشقاق، فهو إن كان مازال في حاجة السيارة لمدة أسبوع ، فلما لا يؤخر البيع حتى تنقضي حاجته منها ؟
وهذا الذي اشتراها بثمن ثم اشترط إصلاحها من الثمن ، أليس الأولى به يقول للبائع : هي بخمسة عشر ألف ، بدلا من أن يقول له هي بعشرين ويشترط عليه إصلاحها.
وربما يصلحها له البائع ، فيُقَدَرُ أن تعطل سريعا ، فيعود ثانية مُتهماً له بأنه لم يُحسنْ إصلاحَها ، فيختلفان ويتنازعان ، وإن لم يتم التنازع فإنهما لا شك سيتباغضان ، ويتناولان عرض بعضهما البعض في كل مجلس يجلسانه.
نعم إن أراد سلعة اشتراها كما هي وعلى حالتها الموجودة وبالسعر الذي يناسبها دون شروط ، ويقبضها ثم يفعل فيها ما يشاء . والله أعلم.
واحتج أصحاب هذا القول بحديث :عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي r (نهى عن بيع وشرط)([16])
وبحديث: عائشة أن النبي r قال (أَيُّمَا شَرْطٍ لَيْسَ فِى كِتَابِ اللَّهِ فَهْوَ بَاطِلٌ ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ)([17])
فكتاب الله من شرطه قطع التنازع والشقاق بين المسلمين ، لهذا كان كل شرط يؤدي إلى التنازع والفرقة ، ليس من كتاب الله ، وكان باطلا كما أخبر النبيr.
- ويجاب على الأقوال الأخرى بما يلي :
أما من احتج بحديث (الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ) أنه لفظ عام يراد به الخصوص لاشك ، فيُراد منه الشروط الجائزة ، والشرط الذي يُحدث بين المسلمين نزاع ليس من الشروط الجائزة.
ويجاب على حديث جابر بأمور منها :
أن هذا لم يكن بيعا مقصودا ، وإنما أراد النبي r مساعدة جابر بطريقة لا يستحي منها ، ويدل على ذلك فعل النبي r معه ، فقد أعطاه المال والجمل . ففي الحديث : فَلَمَّا قَدِمْنَا أَتَيْتُهُ بِالْجَمَلِ ، وَنَقَدَنِى ثَمَنَهُ ، ثُمَّ انْصَرَفْتُ ، فَأَرْسَلَ عَلَى إِثْرِى ، قَالَ « مَا كُنْتُ لآخُذَ جَمَلَكَ ، فَخُذْ جَمَلَكَ ذَلِكَ فَهْوَ مَالُكَ »([18])
وقيل : بأن هذا لم يكن استثناء على سبيل الشرط ، بل كان إعارة من النبي r لجابر رضي الله عنه.
فمن ألفاظ هذا الحديث قال جَابِرٌ (أَفْقَرَنِى رَسُولُ اللَّهِ r ظَهْرَهُ إِلَىَ الْمَدِينَةِ)
وفي لفظ قال له النبي r (أَفْقَرْنَاكَ ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ) كل هذه الألفاظ عند البخاري. والإفقار في لغة العرب : يعني الإعارة.
ومما يؤكد هذا المعنى قول النبي r في لفظ آخر عند البخاري أيضا (لَكَ ظَهْرُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ)
ويُجاب عن حديث بريرة :
في قوله r (وَاشْتَرِطِى لَهُمُ الْوَلاَءَ) لفظ (لهم) معناها عليهم ، وسياق الحديث يدل على هذا ، فقد قال النبي r « خُذِيهَا ، فَأَعْتِقِيهَا ، وَاشْتَرِطِى لَهُمُ الْوَلاَءَ ، فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ »([19])
ويُجاب عن حديث «لاَ يَحِلُّ شَرْطَانِ فِى بَيْعٍ»
أن الاحتجاج به عن طريق مفهوم اللقب([20])، وهو غير معمول به عند الأصوليين باتفاق.
ويدل على دخول الشرط الواحد في إفساد العقد قول النبي r(أَيُّمَا شَرْطٍ لَيْسَ فِى كِتَابِ اللَّهِ فَهْوَ بَاطِلٌ ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ)([21])
فقال : (أيما شرط) بصيغة الإفراد ، فدل على أن الشرط الواحد الذي يخالف مقتضى العقد كفيل بإفساده.
وقال الخطابي رحمه الله : لا فرق بين أن يشترط عليه شيئا واحدا او شيئين ؛ لأن العلة في ذلك كله واحدة ؛ وذلك لأنه إذا قال بعتك هذا الثوب بعشرة دراهم على أن تقصره لي ، فإن العشرة التي هي الثمن تنقسم على الثوب وعلى أجرة القصارة ، فلا يدري حينئذٍ كم حصة الثوب من حصة الإجارة ، وإذا صار الثمن مجهولاً بطل البيع ، وكذلك هذا في الشرطين وأكثر.انتهى.([22])
مسألة :
من اشترى دارا أو سيارة أو بهيمة أو أي سلعة ، ثم اشترط البائع الانتفاع بها مدة معلومة :
أقوال للعلماء([23]):
الأول : الشرط باطل والبيع باطل ، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي .
القول الثاني : البيع جائز ، والشرط جائز ، وهذا قول : الأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي ثور ، ومحمد بن نصر ، وابن خزيمة ، وابن المنذر.
واحتجوا بحديث جابر السابق ذكره فيما سبق وفيه (فَبِعْتُهُ فَاسْتَثْنَيْتُ حُمْلاَنَهُ إِلَى أَهْلِي)([24])
والقول الثالث : إن كان اشترط ركوبًا إلى مكان قريب فجائز ، وإن كان مكانا بعيدا فمكروه ، هذا قول مالك.
قلتُ: القول الأول أصح ، وسبق الجواب على حديث جابر رضي الله عنه.
مسألة :
باع سلعة ، وقال للمشتري في العقد ، إن لم تأتِ بالثمن في وقت كذا فلا بيع بيننا.
خلاف للعلماء في ذلك([25]):
القول الأول : أن البيع باطل ، لأنه من باب تعليق البيع ، وربما لم يتمكن من إحضار الثمن أو إحضاره إلا جزء منه فيرفض البائع أن يعطيه السلعة ، أو يكون قد أعطاها له ، فيرفض المشتري ردها ، مما يوقعهما في النزاع والشقاق ، والشرع يراعي كل ما يمنع الشقاق بين المسلمين ، وهذا قول الشافعي.
القول الثاني ([26]): البيع جائز والشرط ثابت ، قال به أحمد والثوري وإسحاق.
القول الثالث : قال أبو ثور : إذا كان الشرط ثلاثة أيام فجائز ، وروي مثل هذا عن ابن عمر.
وقول رابع : قال أبو حنيفة : إن كان الوقت ثلاثة أيام فالبيع جائز ، والشرط باطل.
وإن كان أكثر من ثلاثة أيام فالبيع فاسد ، ثم قال : فإن نقده في ثلاثة أيام فالبيع جائز ، وهو لازم له.
وقال محمد بن الحسن : يجوز نحو عشرة أيام
وقول خامس : إن كان الأجل يومين أو ثلاثة أو نحو ذلك فلا بأس به ، وإن كان عشرين ليلة أو نحوه فسخ البيع.
قلتُ : القول الأول أصح لما سبق ذكره ، وأن هذه التحديدات لا أعلم لها دليلا .
[1] ) (سنده حسن) أبو داود [3506] الترمذي [1234] النسائي [4611] أحمد [6918]

[2] ) المجموع شرح المهذب [ج9 – ص447] معالم السنن للخطابي [ج3 ص 121] شرح السنة [ج8- ص147] المغني لابن قدامة [ج5- ص606]

[3] ) معالم السنن للخطابي [ج3 – ص122]

[4] ) انظر المجموع [ج9- ص461] ط الإرشاد .

[5] ) المجموع [ج9- ص463] معالم السنن للخطابي [ج3- ص121] الإشراف لابن المنذر [ج6- ص124] وشرح البخاري لابن بطال [ج6- ص293] شرح السنة للبغوي [ج8- ص159]

[6] ) مالك في الموطأ [1275]

[7] ) البيهقي في السنن [10612]

[8] ) مصنف عبد الرزاق [14292]

[9] ) مصنف عبد الرزاق [14299]

[10] ) انظر شرح فتح القدير لابن الهمام الحنفي [ج6 – ص 407] ط العلمية.

[11] ) مصنف عبد الرزاق [14298]

[12] ) (سنده حسن بشواهده) سنن أبي داود [3594] المنتقى لابن الجارود [637] وله شواهد من حديث عائشة ، ورافع بن خديج ، وأنس بن مالك ، وعمرو بن عوف المزني ، ولا تخلو من ضعف ، وحديث أبي هريرة أحسنها . وصححه الألباني ، انظر الإرواء [1303] وقال النووي في المجموع [ج9 –ص464] إسناده حسن أو صحيح.

[13] ) (صحيح) البخاري [2569]

[14] ) المغني لابن قدامة [ج5 – ص 605] ط دار الحديث.

[15] ) (سنده حسن) أبو داود [3506] الترمذي [1234] النسائي [4611] أحمد [6918]

[16] ) (سنده ضعيف جدا) الطبراني في الأوسط [4361] ورواه الطبراني عن : عبد الله بن أيوب القربي عن محمد بن سليمان الذهلي ، وبسنده : عبد الله بن أيوب: متروك الحديث. وكذالك رواه الحاكم في معرفة علوم الحديث [ص 186] ط العلمية. وبسنده عبد الله بن أيوب .ورواه الخطابي بإسناد إليه في معالم السنن [ج3- ص124] عَن مُحَمَّد بن هَاشم بن هِشَام عن عبد الله بن فَيْرُوز الديلمي عن محمد بن سليمان الذهلي.فتابع عبد الله بن فيروز ، عبد الله بن أيوب في روايته عن محمد بن سليمان الذهلي ، إلا أنني لم أقف على ترجمة لشيخ الخطابي محمد بن هاشم ، ولا عبد الله بن فيروز. ورواه أبو يعلى من حديث عتاب بن أسيد ، ذكره الحافظ في المطالب العالية [1441] وبه : ليث بن أبي سليم : وهو ضعيف ، مع انقطاع فيه بين عطاء وعتاب.

[17] ) (صحيح) البخاري [2424] مسلم [1504]

[18] ) (صحيح) البخاري [2569]

[19] ) (صحيح) البخاري [2424] مسلم [1504]

[20] ) يُقصد بمفهوم اللقب: دلالة اللفظ الذي عُلِقَ الحكم فيه بالاسم على نفي الحكم عن غيره. فالحنابلة : في قوله r «لاَ يَحِلُّ شَرْطَانِ فِى بَيْعٍ» علقوا الحكم بقوله (لا شرطان) ونفوه عما سواه كشرط ، والأصوليون قد اتفقوا على عدم الاحتجاج بمفهوم اللقب ؛ لأنه لا يُقصد بذكره التخصيص ولا الاحتراز عما سواه.

[21] ) (صحيح) البخاري [2424] مسلم [1504]

[22] ) معالم السنن [ج3 0 ص 121] ط العلمية.

[23] ) الإشراف لابن المنذر [ج6 – ص116] والمجموع [ج9 –ص467]

[24] ) (صحيح) البخاري [2569]

[25] ) الإشراف لابن المنذر [ج6 – ص122 ، 123] والمجموع [ج9 –ص468]

[26] ) كشاف القناع للبهوتي [ج4 – ص 1426] ط نزار.