بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه.
موضوع الخطبة: ثاني اثنين. الخطيب الظريفي.
25 محرم الحرام 1432 هـ 31 / 12 / 2010 م
الحمد لله الذي خلق الإنسان فهداه النجدين، فأكرم بالإسلام من شاء من الثقلين، وأشهد أن لا إله إلا الله جعل أبا بكر الصديق في الهجرة ثاني اثنين، كما جعله في الخلافة أفضل العمرين، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله أفضل من مشت قدماه على أرض الحرمين، وأحب الخلق إلى الله دون مين، صلى الله وسلم عليه وعى آله وأصحابه الذين كانوا في الشريعة وسطا بين بين، وعلى التابعين لهم بإحسان ما تخالف في الأجواء أنوار القمرين.
أما بعد فيقول الله تعالى:﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا..... ﴾.
أيها الإخوة المؤمنون! قد وقفنا بكم في الجمعة ما قبل الماضية عند قوله تعالى: ﴿إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾. وتعرفنا على حقيقة الذين كفروا.
وفي خطبة الماضية وقفنا بكم عند أصحاب رسول الله r عموما وعرفنا قدرهم ومكانتهم وما لهم من شريف المنزلة وعظيم المرتبة.
وخطبة اليوم سنقف فيها إن شاء الله عند قوله تعالى: ﴿ثاني اثنين﴾ لنتعرف على أعظم شخصية في التاريخ بعد رسول الله r .لنتعرف على صحابي جليل أسدى خدمات جليلة للإسلام والمسلمين، إنه أبو بكر الصديق t، الذي شرفه الله تعالى بثاني اثنين في الإسلام لأنه أسلم بعد أمنا خديجة رضي الله عنها، وبثاني اثنين في الخلافة لأنه الخليفة بعد رسول الله r وبثاني اثنين في القبر لأنه الثاني بعد قبر رسول اللهr، كما كان ثاني اثنين في الغار وثاني اثنين في الهجرة.
- إخوة الإيمان - إنه لا يمكن أن نسبر أغوار حياة أبي بكر في خطبة محدودة، ودقائق معدودة، نقف فقط في بعض المحطات الربانية من حياته، نستخرج منها وسائل الإصلاح لمجتمعنا، فكل موقف من حياته هو منبع تسيل منه فنون الموعظة، وتنبعث منه صنوف الحكم، بل إن أثر مواقفه لا تزال جديدة فياضة كلما عاود القلب تأملها، وعاود الدارسون مدارستها.
إن أبا بكر الصديق هو أول من آمن من الرجال، فعندما عرض عليه النبيr الإسلام أسلم دون تردد، وتقرب من النبي r بكل محبة وتودد، وأذعن إلى الله بكل خضوع وتجرد، ولم يكن إيمانه مجرد التمني ومجرد تصديق قلبي؛ بل إنه تحول إلى الأعمال، وتُرجم إلى الواقع، فكان دعوة صالحة إلى الله، فبدأ بدعوة أصدقائه إلى هذا الدين، لأنه يعلم أن إيمان المؤمن وحده لا يكفي، فاعتنق كثير من الصحابة الإسلام على يديه: منهم عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله، فكانوا من رجالات الإسلام الخيرين وبناة المجتمع العاملين.
لقد أحب أبو بكر رسول الله r ولم يكن حبه مجرد ادعاء أو إحساس؛ بل هو حب صادق، جعله يخاطر بحياته دفاعا عن رسول الله r، فذات يوم اجتمع المشركون على الرسول r وهو بالمسجد الحرام، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، فأحاطوا به من جانب، فأسرع إليه الصديق t مدافعا وهو يقول: «ويلكم، أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله، وقد جاء كم بالبينات من ربكم»، فترك المشركون رسول الله r وأقبلوا على الصديق ينهلون عليه ضربا وإيذاء، حتى اختلطت ملامح وجهه، فلم يُعرف أنفه من فمه، فخر مغشيا عليه، فلما أفاق كان أول سؤاله: ماذا صنع رسول الله r؟ إن محبته الصادقة هي التي جعلته لا يبالي بما حل به في سبيل رسول الله r.
وعندما جاءت هجرة النبي r اختارهr صاحبا ورفيقا فجند ماله وأولاده لحماية النبي r ثم صاحبه إلى الغار ثلاثة أيام فكان ثاني اثنين، يقول الله تعالى: «إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا»، لقد كان أبو بكر خائفا وحزنا؛ لكن ليس على نفسه؛ بل على رسول اللهr لقد كان وهو في طريق الهجرة يتقدم بين يدي النبي r تارة، ويتأخر خلفه تارة، فلما سأله النبي r عن ذلك قال: «يارسول الله أذكر الطلب فأمشي خلفك ثم اذكر الرصد فأمشي بين يديك لا آمن عليك»، هذا هو الصديق لا يفكر في نفسه قليلا أو كثيرا، وإنما كان تفكيره في رسول الله r يحرص على سلامته لأنه t يعلم أن موته موت رجل، أما موت رسول اللهr فموت أمة ونهاية عقيدة.
لقد وشح الرسول r قلب أبي بكر بمرتبة الصديقية، ولم يكن توشيح معرض ومظهر، بل إنه توشيح قلب وعمل، فعندما أكرم الله تعالى النبي r بمعجزة الإسراء، أراد كفار قريش أن يزعزعوا بها إيمان أبي بكر فقالوا له: إن صاحبك يخبر عن شيء عجيب، يرفضه العقل والواقع، يخبر أنه قام برحلة بين مكة والقدس في جزء من الليل قليل؛ فقال أبو بكر بكل صدق وإيمان: لئن قال ذلك فإني مصدقه، فسماه النبي r من أجل ذلك الصديق.
إن مرتبة الصديقية جاءت في القرآن بعد مرتبة النبوة يقول الله تعالى:﴿وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا، ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيمًا﴾.
لقد كان t تاجرا من أغنياء مكة، فسخر ماله في سبيل الله ونصرة دينه، يشتري العبيد المسلمين كبلال فيعتقهم، إنقاذا لهم من أذى المشركين. فأنزل الله فيه قوله:﴿وَسَيُجَنَّبُه َا الأَتْقَى، الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى، وَمَا لأحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى، إلا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى، وَلَسَوْفَ يَرْضَى﴾.
إنه الصديق الذي لا يسبقه أحد إلى الخيرات أبدا، حقيقة قررها عمر بن الخطاب t في منافسة شريفة بين الأنداد، فقد حاول أن يسبقه إلى امرأة عجوز يخدمها، ويحلب لها، فوجد أبا بكر قد سبقه، ودعا رسول الله r صحابته إلى الإنفاق في غزوة تبوك، فقدم عمر t نصف ماله قائلا:«اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما» إذا بأبي بكر يتصدق بكل ماله، فقال له الرسول r:«يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك؟» قال: أبقيت لهم الله ورسوله، فحينئذ أعلن عمر هزيمته في هذه المنافسة الشريفة بكل روح -لا أقول رياضية كما يقال- بل بكل روح إسلامية فقال:«لا أسبقك إلى شيء أبدا» رواه الترمذي.
وروى الإمام مسلم عن أبي هريرة t أن رسول الله r سأل أصحابه يوما فقال:«من أصبح منكم اليوم صائما؟ قال أبو بكر: أنا، قال:«فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكينا، قال أبو بكر: أنا، قال:«فمن عاد منكم اليوم مريضا؟ قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله r:«ما اجتمعن في امرىء إلا دخل الجنة».
لقد كان t من العشرة المبشرين بالجنة،فقد بشره المصطفى rبالجنة وهو يدب على الأرض.بل هو t أول من يدخل الجنة من هذه الأمة روى أبو داود والحاكم وصححه عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: «أما إنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي».ولم ينل هذه المرتبة اعتباطا، بل كان أهلا لها إيمانا وعملا، لقد كان ودودا أليفا، حسن الحديث لطيفا، طيب المعاشرة سهلا محبوبا، رفيق الطبع راجح العقل. كان ضعيفا في بدنه لكنه قويا في أمر الله، متواضعا في نفسه لكنه عظيما في تاريخ الإسلام.
لقد شهد له الرسول r بقوة يقين، وصدق إيمانه، مع أسبقيته إلى الإسلام، حتى أنه لو وزن إيمانه بإيمان الأمة لرجح إيمانه t.روى البيهقي في شعب الإيمان بسند صحيح عن ابن عمرtأن النبيr قال:«لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجحهم».
مع كل هذا، فقد كان متواضعا في غير مذلة، خائفا من الله في خشية، لقد كان يجذب لسانه من فمه فيقول في محاسبة نفسه وهو يبكي:"هذا الذي أوردني الموارد". إنه شديد الورع، بعيد عن الشبهات، لقد تناول ذات يوم لقمة من الطعام، فلما علم أن فيها شبهة، جعل يتقيأ حتى أخرجها، فقيل له: يرحمك الله كل هذا من أجل لقمة فقال:«لولم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها، سمعت رسول الله r يقول:«كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به» أخرجه الطبراني. وإذا كان أبو بكر هكذا وهو المبشر بالجنة، فما بالنا لم يخطر ببالنا أن نخاف الله من ذنوبنا؟ وإذا كان أبو بكر يخاف من لقمة فيها شبهة فلم لا يخاف من كان جيبه مليئا بملايين أو ملايير من الحرام دون شبهة؟
ولما تغير وجه التاريخ يوم وفاة الرسول r ظهر تماسك أبي بكر t عند هول الصدمة، وقدرته الفائقة على ضبط الأعصاب، ومواجهته المأزق بحزم وحسم، سيطر على الموقف برباطة جأش وحزم وحسم، فوقف في الجموع التائهة لهول ما حدث تاليا قوله تعالى: ﴿إنك ميت وإنهم ميتون﴾ وقوله تعالى:﴿وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين﴾ ثم قال: «من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ومن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات». وبعد وفاة رسول الله r تولى الخلافة فلم تغير تواضعه، ولم يتكبر بسلطته، ولم يتجبر بحكمه، فلما بويع بالخلافة قالت جارية من الفقراء: الآن من يأتي لنا بالحليب؟ فسمعها t فقال: «لأحلبنها لكم، وأرجو أن لا يغيرني ما دخلت فيه عن خلق كنت فيه» لقد كان t من أحزم الرجال، فهو وإن كان شيخا أسيفا وديعا أوابا، فقد قاد الأمة في خضم أمواج متلاطمة، كادت تزلزل أركانها وتهز كيانها، فالعرب ارتدت عن الإسلام فمنعوا الزكاة، وأطل الكفر برأسه، فرأى بعض الصحابة أن يتركوا المرتدين من مانعي الزكاة ما داموا يقيمون الصلاة، حتى يتفرغوا لحماية المدينة من شر المتربصين، وكان عمر t من أصحاب هذا الرأي ، فالتفت إليه أبو بكر t قائلا: «رجوت نصرتك وجئتني بخذلانك، والله لأقاتلن من فرق بين الزكاة والصلاة». فقابل الفتنة بحزم وحسم حتى استقرت الأمور، ولو أنه قبل إسلامهم ناقصا دون زكاة، لأحدث صدعا في صميم مبادئ الإسلام، ولجعله موضع مساومة، ولترك للأجيال من بعده سابقة خطيرة تحطم أركان الإسلام، وتأتي على مبادئه، ومن ثم كان موقف الصديق إنقاذا للمسلمين من الفتنة والضياع، وللإسلام من التشتت والتصدع. فسجل أبو بكر الصديق للتاريخ أنه أول حاكم يشن حربا لصالح الفقراء.
فرضي الله عن الصديق أبي بكر واجعل في قلوبنا محبته يارب العالمين.
هذا...