الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه
أما بعد:
فنحن اليوم نعيش في عصر (( الإجتهاد للجميع )) فكل يوم تخرج علينا أطروحات جديدة لم نكن نسمع بها من قبل
وآخر هذه المضحكات المبكيات قول أحدهم أن قول شيخ الإسلام في القرآن يقتضي أن يكون القرآن مخلوقاً
ولو كان يفهم معنى كلمة يقتضي لما تلفظ بها
وهذا الغر أقام الدنيا وما أقعدها وراسل بعض الجهات المختصة
والأغرار على الشابكة أعانوه بقوة ونشروا هذيانه
والكلام على نقض هرائه على عدة فوائد
الفائدة الأولى في معرفة مذهب أهل السنة في القرآن ومقارنته بأقوال أهل الضلال
يذهب أهل السنة إلى أن كلام الله قديم النوع أي الله لم يزل متكلماً وأنه لم يكن معطلاً عن كماله ثم أصبح كاملاً كما هو مذهب المعطلة
وأنه حادث الآحاد
ومعنى حادث الآحاد أن آحاد كلام الله ليس قديماً إذ لا يعقل أن يكون متكلماً بالناسخ والمنسوخ معاً
والقديم لا يسبق بعدم
والأدلة على وقوع آحاد الكلام من رب العالمين بعد إن لم تكن كثيرة بالمئات
وخذ منها هذا الدليل المشهور في قوله تعالى (( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة ))
فالخطاب كما ترى موجه للملائكة ويستحيل أن يكون هذا في الأزل إذ أن الملائكة من مخلوقات الله
وقد خالف في هذا الأشاعرة والكلابية وقالوا بأن القرآن قديم وهذا القول مخالف لصريح المعقول وصحيح المنقول
علماً بأن أكابرهم قالوا بأن القرآن الذي بين أيدينا هو عبارة عن كلام جبريل
ومقتضى هذا أنه مخلوق !!
وهذه الآحاد غير مخلوقة مع كونها حادثة لأنها صفة لله عز وجل وصفاته لا تكون مخلوقة و لا يكون سبحانه محلاً للمخلوقات بإجماع المسلمين
فحتى الجهمية والمعتزلة قالوا بأن القرآن منفصل عن ذات الله عز وجل
وهم ينفون أن يكون الله محلاً للأعراض (يعني الصفات الذاتية ) والحوادث (يعني الصفات الفعلية ) فكيف يثبتون أن يكون محلاً للمخلوقات ؟
فقد أثبوا وجوده سبحانه وتعالى بحدوث ما سواه واستدلوا على حدوث المخلوقات بتعرضها للحوادث والأعراض
وعلى هذا سينقضون دليلهم الذي بنوا عليه تعطيلهم ويقع منهم في التناقض
الفائدة الثانية تقرير شيخ الإسلام أن الحوادث ( بمعنى الصفات الفعلية لله عز وجل ) ليست مخلوقة ولا يلزم من حدوثها ذلك
قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (6/322) ((وَتَلْخِيصُ ذَلِكَ أَنَّهُ إمَّا أَنْ يُقَالَ : الْحُدُوثُ أَعَمُّ مِنْ الْخَلْقِ فَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ حَادِثًا فِي نَفْسِهِ وَلَيْسَ مَخْلُوقًا ؛ أَوْ يُقَالَ : كُلُّ حَادِثٍ فَهُوَ مَخْلُوقٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَقُومُ بِذَاتِهِ حَادِثٌ ؛ أَوْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا قَامَ بِنَفْسِهِ إذَا كَانَ حَادِثًا فَهُوَ مَخْلُوقٌ فَإِذَا كَانَ الْحَقُّ هُوَ " الْقِسْمَ الْأَوَّلَ " لَمْ يَلْزَمْ إذَا لَمْ يَكُنْ مَخْلُوقًا أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا بَلْ قَدْ يَكُونُ حَادِثًا وَلَيْسَ بِمَخْلُوقِ ))
وقال أيضاً (6/320) (( وَإِذَا قَالُوا : نَحْنُ نُسَمِّي كُلَّ حَادِثٍ مَخْلُوقًا فَهَذَا مَحَلُّ نِزَاعٍ فَالسَّلَفُ وَأَئِمَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَكَثِيرٌ مِنْ طَوَائِفِ الْكَلَامِ - كالهشامية والكرامية وَأَبِي مُعَاذٍ التومني وَغَيْرِهِمْ - لَا يَقُولُونَ : كُلُّ حَادِثٍ مَخْلُوقٌ وَيَقُولُونَ : الْحَوَادِثُ تَنْقَسِمُ إلَى مَا يَقُومُ بِذَاتِهِ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ . وَمِنْهُ خَلْقُهُ لِلْمَخْلُوقَات ِ ؛ وَإِلَى مَا يَقُومُ بَائِنًا عَنْهُ ؛ وَهَذَا هُوَ الْمَخْلُوقُ ؛ لِأَنَّ الْمَخْلُوقَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ خَلْقٍ : وَالْخَلْقُ الْقَائِمُ بِذَاتِهِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى خَلْقٍ بَلْ هُوَ حَصَلَ بِمُجَرَّدِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ ))
قلت تأمل قوله ((ومنه خلقه للمخلوقات )) إذ أن الخلق آحاده حادثة فالله يخلق أموراً بعد إن لم يكن قد خلقها فلو قالوا أن هذه الآحاد مخلوقة لكان المخلوق قد خلق بمخلوق وهذا ممتنع
الفائدة الثالثة كل من أثبت الصفات الفعلية لزمه قبول قول أهل السنة في القرآن
ويقال لهذا المعترض أتقر بالصفات الفعلية غير المتعدية مثل المجيء والنزول والإستواء ؟
التي أثبتها السلف وقد رفعت عقيرتك بنصرة مذهب السلف
فإن نفيتذلك كنت معطلاً
وإن أثبت قلنا لك هل هي قديمة ؟
فسيكون الجواب قطعاً لا إذ لا يقول عاقل بأن الله لا يزال يجيء ولا يزال ينزل في الأزل
فيقال هل هي مخلوقة ؟
فسيقول قطعاً لا إذ لا أحد من العالمين يقول بأن أفعال الله مخلوقة
فنقول له ها قد أثبت حوادث غير مخلوقة !!
ومن فهم هذه المسألة تيسر له فهم مسألة تسلسل الحوادث في القدم وإثبات دوام فاعلية الله عز وجل
قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (6/299) (( . فَإِنْ قِيلَ : إذَا قُلْتُمْ : لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ لَزِمَ وُجُودُ كَلَامٍ لَا ابْتِدَاءَ لَهُ وَإِذَا لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا وَجَبَ أَنْ لَا يَزَالَ كَذَلِكَ ؛ فَيَكُونُ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامِ لَا نِهَايَةَ لَهُ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ مَا لَا يَتَنَاهَى مِنْ الْحَوَادِثِ فَإِنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ مَسْبُوقَةٍ بِأُخْرَى فَهِيَ حَادِثَةٌ وَوُجُودُ مَا لَا يَتَنَاهَى مُحَالٌ . قِيلَ لَهُ : هَذَا الِاسْتِلْزَامُ حَقٌّ وَبِذَلِكَ يَقُولُونَ : إنَّ كَلِمَاتِ اللَّهِ لَا نِهَايَةَ لَهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : وُجُودُ مَا لَا يَتَنَاهَى مِنْ الْحَوَادِثِ مُحَالٌ فَهَذَا بِنَاءً عَلَى دَلِيلِهِمْ الَّذِي اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ وَحُدُوثِ الْأَجْسَامِ وَهُوَ أَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ الْحَوَادِثِ وَمَا لَا يَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ وَهَذَا الدَّلِيلُ بَاطِلٌ عَقْلًا وَشَرْعًا وَهُوَ أَصْلُ الْكَلَامِ الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ وَهُوَ أَصْلُ قَوْلِ الجهمية نفاة الصِّفَاتِ وَقَدْ تَبَيَّنَ فَسَادُهُ فِي مَوَاضِعَ ))
قلت ها قد أثبت حوادث لا مبدأ لها وليست مخلوقةً بالضرورة وقد ذكرت في مقالة أخرى بعنوان (( معنى قولهم قديم النوع حادث الآحاد )) أدلة أهل السنة والجماعة على أن الله عز وجل لم يزل متصفاً بصفات الكمال
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم