تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 8 من 8

الموضوع: « المصلحة عند الحنابلة » لفضيلة الشيخ العلامة سعـد بن ناصر الشثـري

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2007
    المشاركات
    3,515

    افتراضي « المصلحة عند الحنابلة » لفضيلة الشيخ العلامة سعـد بن ناصر الشثـري


    « المصلحة عند الحنابلة »
    لفضيلة الشيخ العلامة د. سعـد بن ناصر الشثـري
    عضو هيئة كبار العلمـاء
    وعضو اللجنة الدائمة للإفتـاء
    - سلمه الله -


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ


    [ مقدمة ] :
    الحمد لله الذي شرع للعباد ما ينفعهم في دنياهم وعند المعاد ، أحمده على إكمال دينه وإتمام نعمته ، ورضاه الإسلام لنا دينا ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، أخبر أنه لو اتبع الحق أهواء من في السماوات والأرض لفسدتا ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، المبعوث بالملة الحنيفية السمحة ، صلى الله عليه وعلى أصحابه وأتباعه وسلم تسليما كثيرا ، وبعد :

    فقد رأيت الحاجة لبحث المصلحة عند الحنابلة لتضارب النقل عنهم في ذلك وعدم ضبط مذهبهم فيها ، فلاقى ذلك رغبة ملحة في نفسي ، لأن المصلحة مما تضاربت أقوال الناس فيه ، وهو باب دخل علينا منه في العصر خفافيش عطلت النصوص ، وحاولت هدم الشريعة كلها نظرا لما يزعمونه من المصالح ، ولأنهم وجدوا كلمة متشابهة عند الطوفي فطاروا بها فرحا وتركوا أقوال الأئمة من العلماء لأن مقالة الطوفي - وهو من الحنابلة - توافق أهواءهم ، فخالفوا النصوص الكثيرة الناهية عن اتباع الهوى ﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ﴾ [ سورة القصص الآية 50 ]،﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ﴾ [ سورة الكهف الآية 28 ] .

    فهذا المنهج منهج ضال يخالف منهج أهل الإيمان الذين يستمعون جميع الأقوال ثم يقارنون بينها ويتبعون أحسنها ، فكانوا بذلك هم أولو الألباب وأصحاب الإيمان فلله درهم .

    وقد جعلت هذا البحث من مقدمة وتمهيد عن تعريف المصلحة لغة واصطلاحا وفصلين :

    الفصل الأول : في تتبع آراء الحنابلة في المصلحة :

    المبحث الأول : آراء متقدمي الحنابلة : الإمام أحمد وابن عقيل وابن قدامة وابن برهان والمجد .

    المبحث الثاني : آراء متوسطي الحنابلة : شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن النجار والطوفي .

    المبحث الثالث : آراء متأخري الحنابلة : ابن بدران والدكتور التركي والربيعة والدريويش والمنصور .


    الفصل الثاني : في حكم المصلحة عند الحنابلة :

    المبحث الأول : في المعتبرة .

    المبحث الثاني : في الملغاة .

    المبحث الثالث : في المرسلة .


    وخاتمة في خلاصة القول في هذه المسالة .

    وأسأل الله عز وجل أن يوفقني للحق وأن يلهمني الصواب بفضله ومنه .

    تمهيد في تعريف المصلحة لغة واصطلاحا :

    المبحث الأول: تعريف المصلحة لغة :

    المصلحة واحدة المصالح مأخوذة من الصلاح ضد الفساد ، والاستصلاح نقيض الاستفساد [ الصحاح: مادة '' صلح '' 1/ 383 - 384، القاموس المحيط 1 / 243] .


    المبحث الثاني: تعريف المصلحة اصطلاحا :

    اختلفت تعاريف العلماء للمصلحة بناء على مراد كل واحد منهم ، وذلك على أقسام :

    الأول : من أراد تعريف المصلحة مطلقا مثل ابن قدامة حيث قال: المصلحة هي جلب المنفعة ودفع المضرة [ روضة الناظر، ص 169] .

    وقال د . التركي : المصلحة الوصف الذي يكون في ترتيب الحكم عليه جلب منفعة للناس أو درء مفسدة عنهم [ أصول مذهب الإمام أحمد، ص 413] وهو أدق من الأول .

    وقال د . الربيعة : المصلحة في الاصطلاح : المنفعة التي قصدها الشارع الحكيم لعباده من حفظ دينهم ونفوسهم وعقولهم ونسلهم ومالهم ودفع ما يفوت هذه الأصول أو يخل بها [ الأدلة المختلف فيها، ص 190] . فهذا حصر للمصلحة في هذه الجوانب وهي لا تنحصر فيها .

    الثاني : من أراد تعريف المصالح المرسلة :

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية : المصالح المرسلة : هو أن يرى المجتهد أن هذا الفعل يجلب منفعة راجحة وليس في الشرع ما ينفيه [مجموع فتاوى شيخ الإسلام، 11 / 342] وهذا تعريف جيد .

    وقال د . المنصور : هي الأوصاف التي تلائم تصرفات الشارع ومقاصده ولكن لم يشهد لها دليل معين من الشرع بالاعتبار والإلغاء ويحصل من ربط الحكم بها جلب مصلحة أو دفع مفسدة عن الناس [ أصول الفقه وابن تيمية، 1 / 452] .

    الثالث : من أراد تعريف الاستصلاح قال الدكتور عبد العزيز الربيعة : هو استنباط الحكم في واقعة لا نص فيها ولا إجماع بناء على مراعاة مصلحة مرسلة [ الأدلة المختلف فيها، 221].


    الفصل الأول: تتبع آراء الحنابلة في المصلحة :

    المبحث الأول : آراء متقدمي الحنابلة :

    1 - الإمام أحمد :

    قال ابن دقيق العيد : الذي لا شك فيه أن لمالك ترجيحا على غيره من الفقهاء في هذا النوع - المصالح المرسلة - ويليه أحمد بن حنبل ، ولا يكاد يخلو غيرهما من اعتباره في الجملة ، ولكن لهذين ترجيحا في الاستعمال لهما على غيرهما [ أصول مذهب أحمد، ص 422] .

    وقال القرافي : هي عند التحقيق في جميع المذاهب لأنهم يقيسون ويفرقون بالمناسبات ولا يطلبون شاهدا بالاعتبار ، ولا نعني بالمصلحة المرسلة إلا ذلك [ المذكرة، للشنقيطي، ص 170] .

    ابن القيم رحمه الله حين عد أصول مذهب أحمد في أول كتابه: " إعلام الموقعين " لم يذكر المصالح المرسلة منها .

    وكثير من المتأخرين ينسب للإمام أحمد القول بالمصالح المرسلة ، لأنه حكم على قضايا كثيرة بأحكام معينة ، وهذه الأحكام توافق المصلحة ، فمن هنا فالإمام يقول باعتبار المصالح ، وهذا ليس بصحيح لأن الإمام أحمد لم ينص على أن موجب الحكم هو المصلحة ، ثم هذه القضايا بعضها ورد في أحاديث ، وبعضها يشمله عموم النصوص ، وبعضها ورد عن الصحابة ، فالإمام أخذ هذه الأحكام من ذلك .

    ولنضرب لذلك مثلا: أنهم قالوا : بأن الإمام أحمد قال بتغليظ الحد على من شرب الخمر في نهار رمضان لحرمة الشهر ، وقالوا: إن هذا عمل بالمصلحة المرسلة وليس كذلك بل هذا وارد عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - [ أخرجه الطحاوي، '' مشكل الآثار ''، 3/ 168] ، ومثله قتل الجماعة بالواحد ، قالوا: هو بناء على المصلحة المرسلة وليس كذلك ، بل لأنه قول صحابي ومن أصول أحمد العمل بقول الصحابي ما لم يكن نص ولا اختلاف بين الصحابة ، بل حكي ذلك إجماعا للصحابة [ المغني, 1/ 490] .

    2 - أبو الوفاء ابن عقيل :

    نقل ابن القيم عن ابن عقيل في الفنون أنه قال: جرى في جواز العمل في السلطنة بالسياسة الشرعية أنه هو الحزم ، ولا يخلو من القول به إمام ، فقال الشافعي : لا سياسة إلا ما وافق الشرع . . فقال ابن عقيل : السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يضعه الرسول . فإن أردت بقولك إلا ما وافق الشرع أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح ، وإن أردت لا سياسة إلا ما نطق به الشرع فغلط وتغليط للصحابة ، فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والتمثيل ما لا يجحده عالم بالسنن ، ولو لم يكن إلا تحريق عثمان المصاحف ، فإنه كان رأيا اعتمدوا فيه على مصلحة الأمة [ الطرق الحكمية، ص 13] .


    3 - أبو محمد ابن قدامة المقدسي :

    ذكر ابن قدامة في كتابه روضة الناظر بعض الأدلة المختلف فيها وذكر من ضمنها الاستصلاح وهو اتباع المصلحة ، وجعلها ثلاثة أنواع: معتبر بالشرع وهذا هو القياس ، وما شهد الشرع ببطلانه وهذا لا خلاف في بطلانه لمخالفته للنص .

    وما لم يشهد له الشرع بإبطال ولا اعتبار معين ، وهو ثلاثة أنواع: ما يقع في مرتبة الحاجيات ، وما يقع موقع التحسين والتزيين ورعاية حسن المناهج في العبادات والمعاملات ، فهذان الضربان لا نعلم خلافا في أنه لا يجوز التمسك بهما من غير أصل .

    والضرب الثالث: ما يقع في رتبة الضروريات ، وهي ما عرف من الشارع الالتفات إليها ، فذهب مالك وبعض الشافعية إلى أن هذه المصلحة حجة . . . والصحيح أن ذلك ليس بحجة . . ثم ذهب يستدل لقوله [روضة الناظر، ص (169 - 170)] .

    لكن قال الطوفي : قال بعض أصحابنا: ليست حجة - يريد المصلحة المرسلة - وإنما قلنا قال بعض أصحابنا ولم أقل أصحابنا لأني رأيت من وقفت على كلامه منهم حتى الشيخ أبا محمد - يعني ابن قدامة - في كتبه؛ إذا استغرقوا في توجيه الأحكام يتمسكون بمناسبات مصلحية يكاد الشخص يجزم بأنها ليست مرادة للشارع ، والتمسك بها يشبه التمسك بحبال القمر ، فلم أقدم على الجزم على جميعهم بعدم القول بهذه المصلحة خشية أن يكون بعضهم قد قال بها فيكون ذلك تقولا عليهم [ أصول مذهب الإمام أحمد، ص 424] .


    4 - المجد ابن تيمية :

    قال المجد : المصالح المرسلة لا يجوز بناء الأحكام عليها ، قاله ابن الباقلاني وجماعة المتكلمين ، وهو قول متأخري أصحابنا أهل الأصول والجدل [ المسودة، ص 450] .

    5 - أبو الخطاب :

    قال المجد : وقد ذكر أبو الخطاب في تقسيم الأدلة الشرعية أن الاستنباط قياس واستدلال ، والاستدلال يكون بأمارة وعلة ويكون بشهادة الأصول والاستدلال بالعلة أو الأمارة هو المصالح [ المسودة، ص451، وبحثت عنه في مظانه من التمهيد فلم أجده ] .

    المبحث الثاني: آراء متوسطي الحنابلة :

    1 - شيخ الإسلام ابن تيمية :

    قال: الطريق السابع المصالح المرسلة . . . فهذه الطريق فيها خلاف مشهور ، فالفقهاء يسمونها المصالح المرسلة ، ومنهم من يسميها الرأي ، وبعضهم يقرب إليها الاستحسان ، وقريب منها ذوق الصوفية ووجدهم وإلهاماتهم فإن حاصلها أنهم يجدون في القول والعمل مصلحة في قلوبهم وأديانهم ويذوقون طعم ثمرته ، وهذه مصلحة ، لكن بعض الناس يخص المصالح المرسلة بحفظ النفوس والأموال والأعراض والعقول والأديان ، وليس كذلك؛ بل المصالح المرسلة في جلب المنافع وفي دفع المضار ، وما ذكروه من دفع المضار . . . وجلب المنفعة يكون في الدنيا والدين . . . فمن قصر المصالح على العقوبات التي فيها دفع الفساد عن تلك الأحوال - الخمسة - ليحفظ الجسم فقط فقد قصر .

    وهذا فصل عظيم ينبغي الاهتمام به ، فإن من جهته حصل في الدين اضطراب عظيم ، وكثير من الأمراء والعلماء والعباد رأوا مصالح فاستعملوها بناء على هذا الأصل ، وقد يكون منها ما هو محظور في الشرع ولم يعلموه ، وربما قدم على المصالح المرسلة كلاما بخلاف النصوص ، وكثير منهم أهمل مصالح يجب اعتبارها شرعا بناء على أن الشرع لم يرد بها ، ففوت واجبات ومستحبات ، أو وقع في محظورات ومكروهات ، وقد يكون الشرع ورد بذلك ، وحجة الأول: أن هذه مصلحة والشرع لا يهمل المصالح بل قد دل الكتاب والسنة والإجماع على اعتبارها ، وحجة الثاني: أن هذا أمر لم يرد به الشرع نصا ولا قياسا ، والقول بالمصالح يشرع من الدين ما لم يأذن به الله غالبا ، وهي تشبه من بعض الوجوه مسألة الاستحسان والتحسين العقلي والرأي ونحو ذلك . . . لكن بين هذه فروق .

    والقول الجامع : أن الشريعة لا تهمل مصلحة قط ، بل الله تعالى قد أكمل لنا الدين وأتم النعمة ، فما من شيء يقرب إلى الجنة إلا حدثنا به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك . لكن ما اعتقده العقل مصلحة وإن كان الشرع لم يرد بها فأحد أمرين لازم له: إما أن الشرع دل عليه من حيث لم يعلم هذا الناظر ، أو أنه ليس بمصلحة وإن اعتقده مصلحة ، لأن المصلحة هي المنفعة الحاصلة أو الغالبة وكثيرا ما يتوهم الناس أن الشيء ينفع في الدين والدنيا ويكون فيه منفعة مرجوحة بالمضرة ، كما قال تعالى : ﴿ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ﴾ [ سورة البقرة الآية 219 ] وكثير مما ابتدعه الناس من العقائد والأعمال من بدع أهل الكلام وأهل التصوف وأهل الرأي وأهل الملك ، حسبوه منفعة أو مصلحة نافعا وحقا وصوابا وليس كذلك فإذا كان الإنسان يرى حسنا ما هو سيئ كان استحسانه أو استصلاحه قد يكون من هذا الباب [مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 11 / 342 - 345] .

    فخلاصة كلامه - رحمه الله -: أنه تردد في العمل بالمصلحة المرسلة حتى إنه ليكاد أن يمنعها لأسباب :

    1 - أن الله - عز وجل - قد أكمل الدين ، والدين من كماله استقصى جميع المصالح .

    2 - ما رآه من تصرفات الصوفية الذين اعتمدوا على الإلهامات والأذواق معتبرين ذلك مصلحة لا بد منها فدخل كثير من المغرضين من هذا الباب فشوهوا الإسلام وطمسوا محياه .

    3 - ما رآه من الجرأة على العمل بالمصالح بدون تثبت مما أدى إلى فتح باب الفوضى والاضطراب في الدين ، حيث رأى كثير من الأمراء والعباد مصالح فاستعملوها - بناء على هذا الأصل - ولم تكن كذلك وقد يكون منها ما هو محظور في الشرع لم يعلموه .

    4 - ما رآه من الشبه في بعض الوجوه بقول المعتزلة في التحسين والتقبيح العقلي ، وقد يؤدي إلى أن يشرع العبد من الدين ما لم يأذن به الله .

    5 - جر القول بالمصالح المرسلة إلى فتح الباب على مصراعيه بدون تقييد بنظام الشرع فجلب كثيرا من البدع في العقائد والأعمال ، كما اتخذها كثير من الملوك والحكام سلما وطريقا سهلا يسلكونه في ظلم الناس وإنزال الأذى بهم في أموآله م وأنفسهم [ أصول الفقه وابن تيمية، 2/ 467 - 468] .



    2 - ابن قيم الجوزية :

    قال : إن الشريعة مبناها وأساسها الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد ، وهي عدل كلها ، ومصالح كلها ، ورحمة كلها ، وحكمة كلها [ إعلام الموقعين، 3/ 14] لكن هذا في المصالح المعتبرة من الشارع لا المرسلة .

    وابن القيم حين عد أصول أحمد لم يذكر المصالح المرسلة منها .

    3 - نجم الدين الطوفي :

    نسب بعض المحدثين للطوفي رسالة في شرح الأربعين النووية تكلم في أثنائها على حديث : (( لا ضرر ولا ضرار )) وقال فيها بتقديم المصلحة على النص بطريق التخصيص والبيان بشرط أن يكون الحكم من أحكام المعاملات أو العادات أو السياسات الدنيوية أو شبهها ، لا أن يكون من أحكام العبادات أو المقدرات ونحوها ، لأن العبادات حق للشارع خاص به ، ولا يمكن معرفة حقه كما وكيفا وزمانا ومكانا إلا من جهته فيأتي به العبد بما رسم له ، فأحكام العبادات والمقدرات لا مجال للعقل في فهم معانيها على التفصيل [ شرح حديث '' لا ضرر ولا ضرار '' ملحق برسالة (المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفي) 16 - 46] .


    4 - ابن النجار الفتوحي :

    جعل المصلحة ثلاثة أضرب: معتبر بالشرع ، وباطل بالشرع ، والثالثة المرسلة حكى فيها الخلاف وأحال على الكلام في المناسبة [ شرح الكوكب المنير، 4 / 432] .

    وفي الكلام على المناسب جعله ثلاثة أضرب: أحدها: دنيوي وجعله أقساما: ضروري ومكمله ، وحاجي ومكمله ، وتحسيني ، فجعل المناسب من باب المصالح المرسلة ، وقال: وليست هذه المصلحة بحجة ، ونقل الخلاف فيها ، ودلل على عدم حجيتها . والثاني: أخروي ، والثالث: إضافي .
    ثم قسم المناسب إلى أقسام: مؤثر وملائم وغريب ، والغريب هو الذي لم يشهد له غير أصله بالاعتبار ، قال: والمرسل الغريب ليس حجة عند الجمهور ، والمرسل الذي ثبت إلغاؤه مردود بالاتفاق [ شرح الكوكب المنير، 4 /159 - 181].


    المبحث الثالث: آراء متأخري الحنابلة في المصلحة :

    ا - عبد القادر بن بدران :

    قال: ( والمختار عندي اعتبار المصالح المرسلة ، ولكن الاسترسال فيها وتحقيقها يحتاج إلى نظر سديد وتدقيق ، وإني أرى غالب الأحكام في أيامنا التي نحن فيها مسالكة على ذلك الأصل ومهيئة لقبوله سخطنا أم رضينا) . . . إلى أن قال: (من ذلك ما يقوله الحنابلة بالرجوع إلى العرف في القبض والحرز وكل ما لم يرد من الشرع تحديد فيه )[ شرح روضة الناظر '' نزهة الخاطر العاطر ''، 1 / 416] .

    وجعل العرف في ما لم يرد تحديده في الشرع من باب المصلحة المرسلة ليس بسديد .


    2 - الدكتور عبد الله التركي :

    عرف أولا المصلحة ثم ذكر أقسامها وحصر الخلاف في المصلحة المرسلة ثم قال: ( والخلاصة أن المصالح على القول بها لدى الحنابلة أو غيرهم ليست عملا بالرأي وحده وكل ما أفتى به الأئمة بناء على المصلحة فإنما هي مصلحة شهد الشرع لجنسها بالاعتبار وذلك اعتبار لها في الجملة) .

    قال: ( والذي أرجح وأراه أخيرا أن بناء الأحكام على المصلحة ليس مقصورا عليها فقط ، بل لا بد أن يكون الشارع اعتبر جنس هذه المصالح فلا يترك تحديد ما هو مصلحة أو مفسدة للبشر فهم لا يستطيعون ذلك استقلالا دون سند من شرع الله ، ولو قلنا أن البشر يستطيعون تحديد المصالح والمفاسد ثم يبنون عليها الأحكام وتكون تشريعا في حقهم لأجزنا لهم وضع التشريعات ، ثم إن القول بأن هناك مصالح أغفلتها الشريعة طعن في كمالها وشمولها وعمومها وقد دلت الأدلة القاطعة على إكمال الله للدين ، وحفظه من التغيير والتبديل ، وعليه فإذا كان جنس المصلحة قد اعتبره الشارع جاز بناء الحكم عليها إذا لم يوجد أي دليل آخر مقدم عليها .

    ولا يجوز للمسلم أن يتصرف في تشريع ما لم يجعل الله له ذلك الحق ، وكثير من الأمور المبنية على المصالح كالسياسة الشرعية والولايات العامة والخاصة والأنظمة كل هذه قد أعطى الله أصحابها حقوقا يتصرفون في دائرتها وإن لم ينص على جزئيات التصرف ) [ أصول مذهب الإمام أحمد، (432) وما بعدها] .

    فخلاصة كلامه: العمل بالمصالح المرسلة بشروط :

    1 - عدم معارضة دليل آخر لها .

    2 - اعتبار الشارع لجنس المصلحة ، بمعنى أن تكون ملائمة لتصرفات الشارع .

    3 - أن لا يكون للأهواء والشهوات فيها مدخل .

    4 - أن يكون القائمون على تحديدها هم أهل الفقه والدين والعلم بالشريعة .


    3 - شيخنا الدكتور عبد الرحمن الدريويش :

    ذهب - وفقه الله في رسالته - عن المصالح المرسلة إلى: أن المصالح المرسلة محتج بها في الشرع ، ومحتج بها عند الأئمة ودلل لذلك .

    واشترط لاعتبارها والعمل بها :

    1 - أن لا تخالف نصا من الكتاب أو السنة أو إجماعا .

    2 - أن تكون ملائمة لتصرفات الشرع .

    3 - أن يكودن تحديدها من العلماء .

    4 - شيخنا الدكتور عبد العزيز الربيعة :

    قسم المصالح المرسلة إلى : ما شهد الشرع باعتباره ، وما شهد بإلغائه ، وما لم يشهد له باعتبار ولا إلغاء .

    فما شهد الشارع باعتباره فهو حجة لا إشكال فيه ، وما شهد بإلغائه فليس بحجة اتفاقا ، لأن في اعتبارها مخالفة لنصوص الشرع ، وفتح هذا الباب يؤدي إلى تغيير حدود الشرائع ونصوصها ، ومن أمثلة هذا القسم القول بتساوي الأخ وأخته في الميراث ، ثم تكلم عن مذهب الطوفي وخرقه الإجماع وأدلته ومناقشتها .

    ثم ذكر النوع الثالث من المصلحة ، وهو ما لم يشهد له الشرع باعتبار ولا بإلغاء ، بل سكتت عنها الشواهد الخاصة في الشرع ( أي النصوص المعينة) التي تدل على أحد الأمرين الاعتبار أو الإلغاء ، وهو المصلحة المرسلة .

    وجعلها نوعين: ما ورد على وفق النص ، والملائم لتصرف الشرع . ثم تكلم عن الاستصلاح معناه وأمثلته ، ثم تكلم عن حكمه فقال: ( اتفقت كلمة العلماء على أنه لا يجوز الاستصلاح في أحكام العبادات؛ لأنها تعبدية ، والمقدرات لأنها مثل العبادات كالحدود والكفارات وفروض الإرث . . .

    وإنما اختلف العلماء في حكم الاستصلاح فيما عدا أحكام العبادات والمقدرات ، وذكر المذهب الأول بالمنع ونسبه للمتأخرين ، والمذهب الثاني بناء الأحكام على المصالح بشرطين:

    1 - أن تثبت المصلحة بالبحث وإمعان النظر والاستقراء أنها مصلحة حقيقية لا وهمية .

    2 - أن تكون المصلحة عامة؛ لأنها مقصودة للشارع بخلاف المصلحة الشخصية . ونسب هذا القول للأئمة الأربعة وغيرهم .

    والمذهب الثالث للغزالي العمل بها في الضروريات دون الحاجيات والتحسينيات . وحرر مذهبه ، ودلل لكل قول وناقش كثيرا من هذه الأدلة ) [ أدلة التشريع المختلف في الاحتجاج بها، 191 - 257] .

    ثم قال: (المذهب الراجح هو القول بحجية الاستصلاح سواء كانت المصلحة التي يراد بناء الحكم عليها واقعة في مرتبة الضروريات أم في مرتبة الحاجيات أم في مرتبة التحسينيات ، وأن المصلحة المرسلة أصل مستقل برأسه في بناء الأحكام عليها ، وهي داخلة ضمن مقاصد الشرع وراجعة إلى حفظ مقصد من مقاصده ، وليست راجعة إلى الأصول الاجتهادية الأخرى المتفق عليها بل هي آخذة صفة الاستقلال . . . ) .

    ثم قال: ( بل إن الاستصلاح هو أخصب الطرق التشريعية فيما لا نص فيه ، وأكثرها أهمية ، إذ فيه المتسع لاستنباط الأحكام التي تقتضيها تطورات الخلق ، وفيه الغناء لما يحقق مصالحهم وحاجاتهم . لكنه يحتاج إلى مزيد الاحتياط في توخي المصلحة وشدة الحذر من غلبة الأهواء؛ لأن الأهواء كثيرا ما تزين المفسدة فتراها مصلحة ، وكثيرا ما يغتر بما ضرره أكبر من نفعه ) [ أدلة التشريع المختلف في الاحتجاج بها، 257، 258] .

    5 - الدكتور صالح المنصور :


    قال: (ونختار . . العمل بالمصلحة المرسلة متى كانت ملائمة لتصرفات الشرع ولم تعارض نصا . . . . ، فإن كان ثم
    معارضة فالمصلحة باطلة ملغاة) .

    ثم قال: ( ولقد راعى الشارع مبدأ المصالح في تشريع الأحكام وذلك مما يغلب على الظن اعتبار المناسب المرسل فيجب العمل به لأن العمل بالظن واجب ، وأيضا فإن المصالح التي ألغاها الشارع نظرا لما تجره من المفاسد قليلة) .

    ثم قال: ( وإننا نستطيع أن نقول: يكاد العلماء أن يتفقوا على القول بها فهم يقولون برعاية الأحكام الشرعية للمصالح فكل حكم شرعي مربوط بحكمته ، وأن الحكمة هي التي دعت إلى تقريره ، ومرجع هذه الحكمة إلى جلب المصالح للعباد ودرء المفاسد عنهم ، وهذه الحكمة ظاهرة في أكثر الأحكام خصوصا المعاملات وقد تخفى في بعض العبادات ) [ أصول الفقه وابن تيمية، 2/ 600 - 602] .


    6 - رأي غريب :

    ذهب أحد المعاصرين إلى اعتبار المصلحة مطلقا وتقديمها على النصوص بدعوى أن هذا تقديم للنصوص الكلية على النصوص الجزئية [ جريدة الشرق الأوسط، عدد 4035 في 15 / 12 / 1989م. ] .

    وهذا صادر من غير المجتهدين ، فلا ينظر إليه ولا يعول عليه ولا عبرة به إطلاقا ، فإنه ليس لديه آلة هذا الشأن ، فإذا قال قولا علم أنه يقوله عن جهل ، بل الإجماع منعقد على أن العامي يعصي الله بمخالفة العلماء وأن مخالفة العلماء في حقه حرام [ إحكام الفصول، 392] فكيف يكون الهدى والإصابة في قول محرم ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ذم الرؤساء الجهال الذين يفتون بغير علم فيضلون ويضلون . والأخبار تقتضي إيجاب مراجعة العلماء ، قال تعالى: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [سورة النحل الآية 43 ] ، وعلى فرض تعارض النصوص الكلية العامة والنصوص الجزئية الخاصة ، فإن ذلك لا يفيد اطراح النصوص الجزئية الخاصة ، بل يعمل بها في مكان خصوصها .


    يتبع - بمشيـئة الله -

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2007
    المشاركات
    3,515

    افتراضي

    الفصل الثاني: حكم المصلحة عند الحنابلة

    المبحث الأول: حكم المصلحة المعتبرة :


    قال ابن قدامة : ( ما شهد الشارع باعتباره فهذا هو القياس وهو اقتباس الحكم من معقول النص أو الإجماع ) . ا هـ[ روضة الناظر، 169] .

    وهذا فيه نظر؛ لأن المصالح المعتبرة: المصالح التي تتعلق بأحكام منصوص عليها كحل البيع .

    قال الدكتور عبد العزيز الربيعة : ( ما شهد الشارع باعتباره فهو حجة لا إشكال في صحته إذ المصلحة في هذا يرجع حاصلها كما يقول الغزالي إلى القياس . . . والدليل قائم باعتباره ، فإنه نظر في كيفية استنباط الأحكام من الأصول المثمرة ، ومثال ذلك: حفظ العقل فإنه مصلحة اعتبرها الشارع ، فرتب عليها تحريم الخمر حفظا له ، فيقاس على الخمر في التحريم كل ما أسكر من مشروب أو مأكول حفظا لهذه المصلحة .

    وكذلك حفظ النفس فإنه مصلحة اعتبرها الشارع فرتب عليها وجوب القصاص في القتل بالمحدد ، وجعل لانضباط ذلك أوصافا وهو أن القتل عمدا عدوانا ، فيقاس على القتل بالمحدد في وجوب القصاص القتل بالمثقل بجامع القتل العمد العدوان حفظا لمصلحة حفظ النفس ). ا هـ [ أدلة التشريع المختلف في الاحتجاج بها، 191 - 192. ]

    ومما لا جدال فيه أن المصلحة التي اعتبرها الشارع متفق على اعتبارها .


    المبحث الثاني: المصلحة الملغاة :

    ا - آراء الحنابلة فيها :

    جميع العلماء على أن ما يتوهم أنه مصلحة إذا كان يخالف الأدلة الشرعية فإن المصلحة لاغية لا عبرة بها ، وقد وقع الإجماع على ذلك عدة قرون ، فتتابعت العصور على عدم اعتبار ما يظن كونه مصلحة إذا كان يخالف دليلا من الأدلة الشرعية .

    وخرق الطوفي هذا الإجماع ، فقال بتقديم المصلحة على النصوص من باب التخصيص والبيان ، وساق أدلة على مذهبه نسوقها:

    أدلة الطوفي :

    الدليل الأول : حديث : (( لا ضرر ولا ضرار ))

    فالضرر والمفاسد منتفية شرعا .

    ولو كان ذلك الضرر في اتباع النصوص فإن الضرر يزال شرعا ، مما يدل على تقديم المصالح على النص ، فنفي الضرر والضرار يستلزم رعاية المصلحة ، فيجب تقديمها إذن على جميع الأدلة عملا بهذا الحديث .

    وأجيب :

    أ - بأن الحديث فيه ضعف وأحسن درجاته أن يكون حسنا لغيره ، فيكون من أقل درجات الحديث المقبول ، فكيف يقدم على جميع الأدلة الشرعية .

    ب - أن هذا الحديث خبر آحاد ، وغيره من الأدلة متواتر نقلا ومعنى ، ولا يقول عاقل بتقديم خبر آحاد على المتواتر .

    ج - أن الحديث نفي للضرر والضرار ، والضرر هو كل ما عده الشارع كذلك ، فالأحكام الشرعية لا ضرر فيها ، فلا تعارض بينها وبين الحديث ، فكل له مجال يخالف الآخر ، إذ الحديث نهي للعباد بطريق النفي عن الإضرار بالغير ، كما قال تعالى: ﴿ لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا ﴾ [ سورة البقرة الآية 233 ] .

    د - أن الحديث عام ، والأدلة الشرعية الأخرى في مجالها خاصة ، وإذا تقابل العام والخاص قدم الخاص فيما يختص به .

    هـ - أن هذا الاستدلال مبني على أن المصالح يتصور أن تعارض النصوص وهو خطأ ظاهر .

    الدليل الثاني : أن الشرع اهتم بالمصلحة جملة وتفصيلا وبنى عليها الأحكام ، فإن أحكام الله معللة بمصلحة العباد ، فيجب علينا أن نسير على هذا المنهج فنحكم بالمصالح ولو خالفت النصوص .

    وأجيب :

    بأن هذا الدليل مبني على تضمن أحكام الشرع للمصالح ، وأصل المسألة حكم النصوص التي تعارض المصالح ، فالدليل يخالف الدعوى ويبطلها .

    الدليل الثالث : قال: من المحال أن يراعي الله - عز وجل - مصلحة خلقه في مبدئهم ومعادهم ومعاشهم ثم يهمل مصلحتهم في الأحكام الشرعية فهي أولى ، كيف وهي من مصلحة معاشهم .

    وأجيب :

    أ - أن هذا الاستدلال اعتراض على الله في فعله ، والله عز وجل لا يسأل عما يفعل وهم يسألون .

    ب - أن مقتضى هذا الدليل تضمن الأحكام الشرعية للمصالح ، فإذا كانت الأحكام الشرعية متضمنة للمصالح فكيف يوجد التعارض بينهما .

    الدليل الرابع : أن رعاية الشارع للمصلحة محل وفاق ، والإجماع محل خلاف ، والتمسك بما اتفق عليه أولى من التمسك بما اختلف فيه .

    وأجيب :

    أ - أن هذا الاستدلال مبني على الإجماع على المصلحة ، وهو يتضمن في نفسه تضعيف دليل الإجماع . وهذا تناقض .

    ب - لا تلازم بين القول برعاية المصالح ، وبين تقديم رعاية المصالح على الإجماع ، فالمسألتان تختلف كل واحدة منهما عن الأخرى ، وكل من قال بالمصلحة قدم الإجماع عليها .

    ج - أن الخلاف في المصالح قديم معروف ، ولا وجه لإنكار هذا الخلاف ، فالقائلون بالإجماع وحجيته أكثر من القائلين برعاية المصالح .

    د - أن المخالف في الإجماع شذاذ ، كالشيعة ، وبعض الخوارج والنظام ، وهم محجوجون بالأدلة الشرعية الكثيرة الدالة على اعتباره .

    هـ - أن الشيعة لا يقولون برعاية المصالح ؛ لأنها رأي ، والدين لا يقال بالرأي وإنما يتلقى عن المعصوم ، والخوارج مختلفون في أمرها ، وهم يقولون : إن الحكـم إلا لله ، ونقل عن النظام جواز اجتماع الأمة على الرأي والقياس ، ورعاية المصالح تعتمد على الرأي والقياس ، فكيف يقول النظام برعاية المصالح .

    و - أن المتفق عليه هو رعاية الشارع للمصلحة ، والمراد بالبحث هنا هو اتباعنا للمصلحة المخالفة للنصوص الشرعية ، وفرق بين رعاية الشارع للمصلحة وبين اتباع المصالح المخالفة للنصوص .

    ز - أن الدليل مبني على أن الشارع رعى المصالح ، ومعناه : أنه استقصاها فلم يبق شيء منها لم يرعه ، فنصوصه راعية للمصالح ، فالمصالح والنصوص دائما مجتمعة فكيف يتصور التعارض بين النصوص وما تضمنته من المصالح .

    الدليل الخامس : أن النصوص سبب للخلاف في الأحكام ، لأن كثيرا منها متعارض والمصلحة سبب للاتفاق ؛ لأنها لا تختلف ، واتباع ما يؤدي إلى الاتفاق مقدم على ما يؤدي إلى الخلاف إذ الخلاف مذموم شرعا .

    وأجيب :

    أ - أن النصوص يصدق بعضها بعضا فلا تتعارض ، فقد نفى الله عز وجل عنها الاختلاف والتناقض ، قال تعالى : ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [ سورة النساء الآية 82 ] .

    ب - أن المصالح مختلفة باختلاف الآراء والأهواء والأزمنة والأمكنة ، بخلاف النصوص فهي لا تختلف باختلاف ذلك .

    ج - أن هذا الاستدلال مبني على دعوى اختلاف النصوص ، سواء ما كان في العادات أو العبادات أو المعاملات ، فهذا يقضي أن تعطى النصوص كلها نتيجة واحدة من أجل هذا الاختلاف والتعارض ، لكننا نراه يفرق بين أحكام المعاملات - فيجعل المصالح أولى من النصوص - وبين العبادات فيجعل النصوص مقدمة على المصالح .

    الدليل السادس : أن هناك نصوصا قدمت المصلحة على النصوص ، ومن ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه بعد الأحزاب : (( لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة )) ، فصلى بعضهم قبلها ، فقررهم على ذلك إذ فيه تقديم المصلحة (مصلحة إدراك الوقت) على النص ، وحديث : (( لولا أن قومك حديثوا عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض ، وجعلت لها بابين بابا شرقيا وبابا غربيا ، وزدت فيها ستة أذرع من الحجر ، فإن قريشا اقتصرتها حيث بنت الكعبة )) .

    وهذا يدل على أن بناءها على قواعد إبراهيم هو الواجب ، فتركه لمصلحة الناس . وذكر في ذلك آثارا عن الصحابة .

    وأجيب :

    أ - أن المصلحة أن الإمام مطاع في كل أوامره ، وأن الشرع يقدم على أهواء الناس ، ولكنه ترك هذه المصلحة هنا للنصوص .

    ب - أن هذه القضايا حصلت في أمور العبادة ، والطوفي لا يقول بتقديم المصالح على النصوص في أمور العبادات .

    ج - أن المعارضة هنا ليست بين النصوص والمصالح ، بل بين النصوص والنصوص ، إذ من السنة إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - .

    د - ما ذكر من الآثار ما هي إلا اختلاف في الأفهام ، واجتهادات الصحابة منها ما أقروا عليها ، ومنها ما لم يقروا عليها ، وقول الصحابي إذا خالف النص فلا عبرة به ، وهذه المعارضة التي سلكها الصحابة رضوان الله عليهم لم تكن
    من قبيل النظر في المصلحة المجردة عن الدليل ، بل إنهم يستنـدون فـي ذلـك إلـى أدلـة أخرى ، فهذا اجتهـاد فـي النصوص .

    تنبيه :

    الطوفي بنى رأيه على فرض تضمن بعض النصوص ضررا يعارض مصلحة راجحة ، وهذا خطأ وباطل ، وعليه فتقديم المصلحة على النص والإجماع محال غير متصور الوقوع ، فإن فرض مخالفة المصلحة للكتاب والسنة والإجماع مجرد فرض لا واقع له ، ويشهد لذلك أنه لم يقدم لما فرضه مثالا واحدا من الواقع ، والأعجب من هذا أن الطوفي نفسه قد مهد لبيان كون هذا محالا إذ ساق الأدلة على أن كتاب الله جاء مهتما بمصالح الخلق متضمنا لها واستدل لذلك بقوله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [ سورة يونس الآية 57-58 ] ، وذكر سبعة وجوه لدلالتها على ذلك [ أدلة التشريع المختلف في الاحتجاج بها ، ص (127) ] .

    3 - أدلة الجماهير :

    الدليل الأول : أن النصوص الشرعية قد اشتملت على المصالح الراجحة فلا يحتمل أن تعارض المصلحة مطلقا .


    الدليل الثاني : لو فتح باب تغيير الأحكام الثابتة بالنصوص استنادا للمصالح ، لكان في ذلك اندراس معالم الدين بالكلية ، فهذا القول يفتح مجال العبث واللعب بأدلة الشريعة وأحكامها ، بحجة المصلحة بل قد يبيح الزنا وبعض المعاملات الربوية وبعـض المسكرات ، وتوضع القوانين البشرية وتوجد المحرمات ويحارب شرع الله بحجة المصلحة المزعومة ، أعاذ الله الأمة الإسلامية من ذلك. [ أصول الفقه وابن تيمية ، ص (464) ] .

    الدليل الثالث : أن النصوص مراعية للمصالح بالإجماع ، فلا سبيل لتعارض المصالح مع النصوص .

    الدليل الرابع : أن العلماء مجمعون من العصور الأولى إلى عصر الطوفي على أن العبرة بالنصوص ، ولا يلتفت لما يتوهم كونه مصلحة ما دامت معارضة للنصوص .

    الدليل الخامس : قوله تعالى : ﴿ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ﴾ [ سورة البقرة الآية 219 ] فقد أثبت مصالح في الخمر والميسر ومع ذلك فهما محرمان بالاتفاق لقوله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [ سورة المائدة الآية 90 ] .

    المبحث الثالث : المصلحة المرسلة :

    1 - تحرير محل النزاع :

    أ - نقل كثير من العلماء عدم جواز الاستصلاح في أحكام العبـادات ، لأنهـا تعبدية وليس للعقل سبيـل إلـى إدراك المصلحة الجزئية لكل منها .

    وكـذا لا يجـوز اللاستصـلاح فـي أحكـام المقـدرات كالحدود والكفارات وفروض الإرث وشهور العدة بعد الموت أو الطلاق ، لأنها مثل أحكام العبادات حيث استأثر الشارع بعلم المصلحة فيما حدد به .

    واختلف العلماء في بناء الأحكام على المصلحة المرسلة فيما عدا أحكام العبادات والمقدرات .

    ب - حكى ابن قدامة في "روضة الناظر" [ ص (169) ] الاتفاق على عدم جواز بناء الأحكام على المصالح المرسلة في رتبة الحاجيات والتحسينيات ، وحصر الخلاف فيما كـان في رتبة الضروريات .

    ويلاحظ عليه عدم الضابط الدقيق الذي يمكن به معرفة الضروريات من الحاجيات ، ثـم إن النزاع موجود أيضا في رتبة التحسينيات والحاجيات .

    2 - منشأ الخلاف :

    قال د . التركـي : معظم الغموض في هذه القواعد منشؤه الاكتفاء بالتراجم والمعاقد دون التهذيب بالأمثلة [ أصول مذهب الإمام أحمد ، ص (414) ، وإرشاد الفحول ، ص (208) ] .

    وقال د . صالح المنصور : هذا النوع - المصالح المرسلة - لم يذكر له العلماء مثالا صحيحا مطابقا له ، بل يكاد يكون متعذرا إذ أن المصالح التي قال بها الأئمة مصالح مشهود لجنسها بالاعتبار ، ولا يتصور أن توجد واقعة مسكوت عنها في الشرع ، لأنه يلزم منه عدم إكـمال الدين والنعمة ، وهذا خلاف ما أخبر الله به .[ أصول الفقه وابن تيمية ، ص (459) ] .

    وقال الغزالي : والصحيح أن الاستدلال المرسل في الشرع لا يتصور حتى نتكلم فيه بنفي أو إثبات ، إذ الوقائع لا حصر لها وكـذا المصالح ، وما من مسألة تفرض إلا وفي الشرع دليل عليها إما بالقبول أو بالرد ، فإنا نعتقد استحالة خلو واقعة عن حكـم الله تعالى . [ المنخول ، ص (395) ] .

    3 - نوع الخلاف :

    قال د . صالح المنصور : في الواقع أن الذين يعتبرونها - المصالح - لا يعتبرونها أصلا قائما بذاته من غير أن يكون دالا على اعتبارها نصوص الكتاب والسنة ومقاصد الشريعة ، فهم في الواقع يعتبرون الأصل النصوص ومقاصد الشريعة ، فصار ذلك خلافا لفظيا فحسب. [ أصول الفقه وابن تيمية ، ص (469) ] .

    وقال د . عبد العزيز الربيعة : يرجع اختلاف العلماء في حكـم الاحتجاج باللاستصلاح إلى الأسباب الآتية : أنهم لم يحددوا المقصود باعتبار الاستصلاح عند نقلهم الخلاف فيه ، فهل المقصود اعتباره أصلا مستقلا من أصول الاجتهاد ، أو المقصود اعتباره في جملة دلائل الاجتهاد الأخرى ورده إليها ، فمن أنكره أنكر استقلاله ، ومن احتج به أراد دخوله في دلائل الاجتهاد الأخرى . [ الأدلة المختلف في الاحتجاج بها ]

    وهذا فيه نظر ، فإن من نفى اعتبار المصالح لم يجعلها من جملة دلائل الاجتهاد .

    4 - أقوال الحنابلة في المصالح المرسلة :

    أ - جمهور متقدمي الحنابلة على عدم جعل المصلحة المرسلة أصلا شرعيا تبنى عليه الأحكام .

    ب - وبعض المتقدمين وأكثر المتأخرين على جواز بناء الأحكام الشرعية على المصالح المرسلة .


    5 - أدلة اعتبارها :

    الدليل الأول : أن بناء الأحكام على المصالح المرسلة فيه تحقيق لمصالح الناس ، والأحكام الشرعية إنما شرعت لتحقيق مصالح الناس ، فتكون الأحكام المبنية على المصلحة المرسلة شرعية ، حيث إن فيها تحقيقا لمصالح الناس ، وإذا كانت شرعية فالاستصلاح حجة . [ مصادر التشريع ، ص (90) ، أدلة التشريع المختلف في الاحتجاج بها ، ص(237) ، روضة الناظر ، ص (170) ] .

    لكن المنازع ينازع في تحقيق المصالح بالاستصلاح ، فيقول : إن الشرع بأدلته قد استكمل المصالح وقام بتحصيل جميعها ، فلا حاجة لبناء الأحكام على المصالح المرسلة ، وهذا يدل على عدم اعتبار الاستصلاح .

    الدليل الثاني : أن الشريعة الإسلامية عامة لكل الناس وخاتمة للشرائع كلها ، ومستوعبة لمصالح البشر على اختلاف وقائعهم وأمكنتهم وأزمانهم وأحوآله م ، ولن يتأتى وصفها بذلك إلا إذا قلنا بأن الاستصلاح حجة .

    وأجيب :

    بأن الله - عز وجل - قد بين في كتابه أنه قد أكمل الدين وأتم النعمة ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ﴾ [ سورة المائدة الآية 3 ] فالشرع قد استكـمل المصالح ، فالمصالح مستكملة منذ ذلك الحين فلا حاجة بالاستصلاح .

    الدليل الثالث : أن المصالح التي بنيت عليها أحكام المعاملات ونحوها معقولة ، فقد شرع لنا ما يدرك العقل نفعه وحرم علينا ما يدرك العقل ضرره ، فالحادثة التي لا حكـم من الشارع فيها يكون حكـم المجتهد فيها بناء على ما يدركه عقله فيها من نفع أو ضرر مبنيا على أساس معتبر من الشارع [ أدلة التشريع المختلف في الاحتجاج بها ، ص (240) ، مصادر التشريع فيما لا نص فيه ، ص (91) ] .

    وأجيب :

    أ - بأن العقل لا يدرك نفع جميع ما شرع الشارع ، ولا يدرك قدر جميع ما نهى عنه الشارع ، فقد شرع لنا كل أمر فيه مصلحة راجحة ، ولو لم يدركـها العقل ، وحرم علينا كل ما فيه مضرة راجحة ولو لم يدرك العقل ضرره .

    ب - أن نظر العقل واستحسانه ليس أساسا معتبرا من الشارع مطلقا .


    الدليل الرابع : إلحاق المصالح المرسلة بالمصالح المعتبرة لوجود المعنى المناسب فيه .

    وأجيب :

    بأن المصالح المرسلة كـما أنها من جنس المصالح المعتبرة ، هي أيضا من جنس المصالح الملغاة ، فيؤدي إلى كون الوصف الواحد معتبرا ملغيا بالنظر إلى حكـم واحد وهو محال .

    ونوقش هذا الجواب : بأن ترجيح إلحاق المصالح المرسلة بالمصالح الملغاة على إلحاقها بالمصالح المعتبرة ، ترجيح بلا مرجح ، والأصل هو اعتبار الأوصاف لا إلغاؤها .

    وردت هذه المناقشة : بـأن إلحـاق المصـالـح المرسلة بالمعتبرة ترجيح بلا مرجح ، ثم الأصل هو الإلغاء للمصالح المرسلة ، لأن الأصل في الأشياء أن لا تكون دليلا ولا حجة ، فمن قال بخلاف الأصل فقال بكونها حجة طلب منه الدليل ، فالأصل هو إلغاء حجية الأمور المستدل بها حتى تثبت حجيتها بالأدلة ، والأصل لا يطلب الدليل عليه ، فكان الأصل هو إلغاء المصالح المرسلة .

    الدليل الخامس : أنه إذا لم يفتح باب الاعتماد على المصالح المرسلة جمد التشريع الإسلامي ووقف عن مسايرة الأزمان والبيئات .

    وأجيب :

    أ - أن هناك وسائل أخرى سلكتها الشريعة لتنظيم أحوال البشر باختلاف الأزمنة والأمكنة والبيئات ، مثل القواعد العامة ووسائل تطبيقها ، فيأتي المجتهد فيجتهد في تطبيقها على الوقائع الحادثة .

    ب - أن هذا الاستدلال معارض بما هو مثله فيقال : أن بناء الأحكام على المصالح المرسلة ، يفتح بابا للطعن في الشريعة بكونها من وضع البشر ، وفيها نسبة للشريعة بالنقص .

    الدليل السادس : أن الصحابة - رضي الله عنهم - ومنهم الخلفاء الراشدون عملوا بالاستصلاح فيما طرأ لهم من حوادث لم يكن فيها حكـم من قبل ، وليس لها نظير فتقاس عليه ، فحكموا فيها بأحكام مبنية على مصالح لم يقم دليل معين على اعتبارها فدل ذلك على أن الاستصلاح حجة .

    ومن تلك القضايا :

    أ - جمع أبي بكر - رضي الله عنه - القرآن ، لكن هذا المثال فيه نظر فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بكتابة القران وبحفظه ، والجمع في مصحف واحد من باب الكتابة والحفظ ، فهذا نوع من الحفظ فله أصل معين فلا يصح الاستدلال به هنا .

    ب - أن عمر جلد شارب الخمر ثمانين . ، وهذا إما أنه من باب التعزير والسياسة الشرعية لما رأى الناس عتوا وفسقوا [ كما ورد مصرحا به في رواية الشيخين ] ، أو قياسا على حد القذف ، كما ورد عن عبد الرحمن بن عوف إذا شرب هذى وإذا هذى افترى فأرى أن جلده حد الفرية .

    ج - وقف عمر لتنفيذ حد السرقة عام الجماعة [ رواه عبد الرزاق في المصنف 10 / 242 ، وابن أبي شيبة في المصنف 10/ 27 ] ، وهذا قياس على المضطر فله أصله في الشريعة ، والحدود تدرأ بالشبهات .

    د - ما ورد عن علي - رضي الله عنه - من تضمين الصناع ، لكن هذا من باب السياسة الشرعية .

    هـ - قتل الجماعة بالواحد [ أخرجه البخاري ، (12/ 226) كتاب الديات : باب إذا أصاب قوم من رجل . . . من فعل عمر ] ، لكن هذا يدخل ضمن النصوص العامة ، كحديث : (( من قتل له قتيل فهو بخير النظرين ، إما أن يؤدى وإما أن يقاد )) . وهذا عام في القاتل الواحد والجماعة ، أو من باب قياس الجماعة على الواحد .

    الدليل السابع : أنه يلزم من عدم اعتبار المصلحة المرسلة

    خلو كثير من الحوادث عن الأحكام ضرورة كون النصوص متناهية والحوادث غير متناهية ، وعموم الشريعة وخلودها وعدم تفريطها في شيء يأبى ذلك. [ أدلة التشريع المختلف في الاحتجاج بها ص 348 ] .

    وأجيب :

    بأن هذا الاستدلال يعارض قوله تعالى : ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ﴾ [سورة المائدة الآية 3 ] وقوله : ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [ سورة الأنعام الآية 38 ] . وإن من إعجاز النصوص كونها شملت جميع الأحكام لجميع الوقائع ، إما مباشرة أو دلالة واستنباطا ، فالحوادث لا يمكن خلوها من الأحكام الشرعية مطلقا .

    ثم ذلك لا يستلزم العمل بالمصالح المرسلة لأنه قد يصار إلى البراءة الأصلية فلا حاجة إلى المصالح المرسلة .

    6 - أدلة المانعين :

    الدليل الأول : قوله تعالى : ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ [سورة النساء الآية 59 ] ، وقال : ﴿ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ﴾ [ سورة الشورى الآية 10 ] .

    وجه الاستشهاد :

    أ - أن بناء الأحكام على المصالح المرسلة ليس مشروعا لأن الاستصلاح ليس كتابا ولا سنة ، والآيات حصرت ما يرجع إليه في الكتاب والسنة عند الاختلاف وما كان زائدا عنهما فليس بحجة ، وبهذا يتبين أن الاستصلاح ليس بحجة .

    ب - أنه في هاتين الآيتين أمرنا برد المتنازع فيه والمختلف عليه إلى الكتاب والسنة . وبرد الاستصلاح إلى الكتاب والسنة لا نجده فيهما .

    وأجيب :

    بأن الاستصلاح يرجع إلى حفظ مقصود الشارع ، فإنها وإن كانت مرسلة عن دليل معين من الشرع على اعتبارها ، إلا أنها معتبرة جملة ، وبهذا يكون إسناد الأحكام إلى المصالح المرسلة طريقا من طرق الرد المشروعة. [ أدلة التشريع المختلف في الاحتجاج بها ، ص 345 ]

    الدليل الثاني : أن الشرع قد استكمل المصالح فرعاها كلها بأحكامه ، لأن الدين قد أكـمل في العهد النبوي قال تعالى : ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ﴾ [ سورة المائدة الآية 3 ] . والقـول بالاستصلاح يعني : أن هناك مصالح باقية لم يكفلها الشرع ، وهذا ينافي ما تقدم من إكـمال الدين وإتمام النعمة .

    الدليل الثالث : أن الدليل إنما يكون شرعيا إذا جعله الشرع كذلك ، وليس هناك في دليل صحيح صريح على جعل الاستصلاح حكما شرعيا .

    الدليل الرابع : أن الشرع لم يعتبر المصالح المرسلة ، فالمصلحة المرسلة ليست مشروعة لعدم اعتبار الشرع لها .

    الدليل الخامس : أن المصالح المرسلة مترددة بين المصالح الملغاة والمصالح المعتبرة وليس إلحاقها بأحدهما أولى من الآخر .

    وأجيب :

    أ - بأن هذه المصلحة وإن كانت مرسلة عن دليل معين من الشارع على اعتبارها ، إلا أنها معتبرة منه على سبيل الجملة ، فكان إلحاقها بالمعتبر أولى من إلحاقها بالملغي .

    ب - أن عدم الاحتجاج بالاستصلاح يعني إلحاق المصالح المرسلة بالمصالح الملغاة ، وليس إلحاقها بها أولى من إلحاقها بالمصالح المعتبرة إذ هو ترجيح بلا مرجح .

    ورد بأن الأصل عدم كون الأمور المستدل بها أدلة حتى يأتي الدليل الصحيح على كونها أدلة ، فمع ترددها بين الاعتبار والإلغاء يصار إلى الأصل وهو عدم حجيتها .

    وأيضا أن ترددها بين المصالح الملغاة والمعتبرة يلزمنا بالتوقف فيها ومعنى التوقف فيها عدم استخدامها دليلا .

    الدليل السادس : أن في العمل بالمصالح المرسلة مجالا للأهواء والشهوات والأغراض فقد يغلب على المرء هواه فيرى المفسدة مصلحة والمضرة منفعة ، فالإنسان مهما كـمل لا يأمن أن يغلب هواه عليه وأن يزين له السوء ويجعله حسنا .

    الدليل السابع : أن العقل قد تخفى عليه بعض وجوه الضرر والفساد ، فالعقل مهما نضج لا يأمن من أن يخفى عليه بعض وجوه النفع والضرر .

    الدليل الثامن : أن بناء الحكم على المصالح المرسلة بدون العلم بأن الشارع أثبت الأحكام حفظا لهذه المصلحة وضع للشرع بالرأي وحكـم بالعقل المجرد وما كان كذلك فلا يصح التمسك به ، فالاستصلاح ليس بحجة .

    وكون الشارع اعتبرها بالجملة لا يعني أنه عرف من الشرع المحافظة على ذلك بكل حكم يكون طريقا من طرق المحافظة على المصلحة ، فإنه لم يعرف من الشارع المحافظة على الدماء بكل طريق ، ولذلك لم يشرع المثلة وإن كانت أبلغ في الردع والزجر ، ولم يشرع القتل في السرقة ، فإذا ثبت حكما لمصلحة من هذه المصالح لم يعلم أن الشرع حافظ على تلك المصلحة بإثبات ذلك الحكـم ، كان وضعا للشرع بالرأي وحكما بالعقل المجرد . [ روضة الناظر ، ص 170 ] .

    وأجيب :

    أ - بأن الشارع حافظ على كل واحدة من المصالح بالأحكام المناسبة لحفظها ، لا بكل حكـم يكون طريقا من طرق المحـافظـة عليهـا دون نظـر لـلأنسـب ، والمجتهـد فـي الاستصلاح مأمور ببذل جهده في اختيار الحكـم الأنسب لحفظ المصلحة ، وهي وظيفة منحها الله إياه وجعل تأديته لها على الوجه المطلوب أمانة في عنقه ، فلا نسلبها منه بحجة أنه لم يعرف من الشارع أنه حافظ على كل واحدة من المصالح بكل حكـم يكون طريقا من طرق المحافظة عليها .

    ب - أن الأحكام المبنية على هذه المصالح من قبيل التعزيرات لا من قبيل الحدود ، والتعزيرات لا مانع من تغييرها بتغير البيئـات والأحوال والأمكنـة والأزمنـة حفـاظا علـى المصلحة ، أما الحدود فلا تتغير ، وإذا كان كذلك بطل ما أثاروه .

    الدليل التاسع : أنه لو جاز الاستصلاح لما احتجنا إلى بعثة الرسل .

    الدليل العاشر : أن جواز الاستصلاح يترتب عليه مفاسد كثيرة من وضع الشرع بالرأي ، ومساواة العامي للعالم في ذلك ؛ لأن كل واحد يعرف مصلحته ، ونسبة النقص إلى النصوص .

    فإذا عملنا بالاستصلاح وجعلناه دليلا شرعيا ، فإن مما يدل عليه عدم الاحتجاج بالاستصلاح ذاته لما يترتب عليه من أضرار .

    وهذا استدلال ضعيف ؛ لأنه احتجاج بالاستصلاح على عدم حجيته .

    الدليل الحادي عشر : أن القول ببناء الأحكام على المصالح المرسلة حصل منه اضطراب في الدين عظيم ، فكثير من الأمراء والعلماء والعباد رأوا مصالح فاستعملوها بناء على هذا الأصل وقد يكون منها ما هو محظور في الشرع ولم يعلموه .

    فالقول بالمصالح المرسلة يشرع فـي الدين ما لم يأذن به الله غالبا . بل إن النصارى إنما ضلوا بجعل المصالح من شرعهم. [ مجموع فتاوى شـخ الإسلام ابن تيمية ، 11 / 342 ] .

    الدليل الثاني عشر : أن القول بالاستصلاح يشبه في كثير من الوجوه التحسين العقلي ، فالتحسين العقلي قول بأن العقل يـدرك الحسـن وحـده ، والحسـن هـو المصلحـة . فـالقـول بالاستصلاح من جنس قول المعتزلة بالتحسين العقلي .

    الدليل الثالث عشر : أن العقول تختلف فبعض العقول تجعل المصلحة في جانب ، وعقول أخرى تجعل المصلحة في جانب مناقـض له ، فأيهما يعتمد والمصالح أمور تقديرية تختلف باختلاف الآراء والعقول والبيئات .

    7 - شروط اعتبار المصلحة عند من قال بها :

    1 - عدم معارضة دليل أقوى منها من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس .

    2 - اعتبار الشارع لجنس المصلحة ، فتكون المصلحة المرسلة ملائمة لتصرفات الشرع . وإن لم يكن لها أصلا معينا .

    3 - أن يكون المحدد للمصلحة مجتهدا ؛ لأن تقدير المصالح من باب الاجتهاد وشروط الاجتهاد لا بد من توفرها فيه .

    4 - أن تكون المصلحة حقيقة لا وهمية ، ويعرف ذلك بإنعام النظر والبحث والاستقراء .

    5 - أن تكون المصلحة عامة لا شخصية .

    6 - أن لا يكون للأهواء والشهوات فيها مدخل .

    7 - أن لا تكون في العبادات ولا في المقدرات .


    قال الذين يحتجون بالمصالح المرسلة : إنه باستكمال المصلحة لهذه الشروط لا يبقى لمن منع الاحتجاج بها دليل صحيح . مما يدل على حجية الاستصلاح .

    وهذا فيه نظر من جهتين :

    الأولى : أن هناك أدلة للمانعين من الاحتجاج بالمصالح المرسلة لا تزول ، كالاستدلال باستكمال الشرع للمصالح ، والاستدلال بخفاء وجوه الضرر والصلاح ، وشبه الاستصلاح بالتحسين العقلي ، واختلاف العقول .

    الثاني : أن المانعيـن للاحتجـاج بـالاستصلاح يكفيهـم التمسك بالأصل ، فالأصل عدم حجية ما يستدل به الخصم ، حتى يقيم الخصم الدليل الصحيح القوي .

    8 - الترجيـج :

    بالنظر في أدلة الفريقين : وجدت أنه لا حاجة إلى تقرير الاستصلاح دليلا مستقلا ، بل يكـفـي عنه عدة قواعد أخرى صحيحة منها :

    أ - ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .

    ب - الوسائل لها أحكام المقاصد .

    ج - الأصل في العقود والشروط الجواز والصحة .

    د - تصرف الإمام منوط بالمصلحة . (ومثله أهل الولايات في ولاياتهم) .

    هـ - صحة العمل بالقرائن في الأحكام والقضية .


    9 - ثمرة الخلاف :

    ذكر في : " تخريج الفروع على الأصول " مثال واحد لهذه المسألة (المسألة السادسة من كتاب الجراح) ، وذكر الدكتور مصطفى الخن في : " أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء" مثالين ، والدكتور مصطفى البغا في : " أثر الأدلة المختلف فيها في الفقه الإسلامي " ذكر خمسة عشر مسألة ردها إلى الاختلاف في الأخذ بالمصلحة المرسلة ، ويمكن رد النزاع في جميع هذه الأمثلة إلى أصول أخر .

    هذا ما يبدو لي والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم .



    المصدر : (( مجلة البحوث الإسلامية )) ع :47 ص 276

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    May 2007
    المشاركات
    105

    افتراضي رد: « المصلحة عند الحنابلة » لفضيلة الشيخ العلامة سعـد بن ناصر الشثـري

    شكرا لك ... بارك الله فيك ...

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Apr 2008
    المشاركات
    133

    افتراضي رد: « المصلحة عند الحنابلة » لفضيلة الشيخ العلامة سعـد بن ناصر الشثـري

    سبحان الله. بحث متقن

    هذا الرجل ( أي الشيخ سعد الشثري ) من الناس الذين اذا رأيتهم احس بإجلال وهيبة عظيمة. والله إنه من أعلم من رأيت في حياتي فلا تكاد تجده يسأل عن شيء إلا وكأنه متخصص في هذا الشيء. مرة سألته عن الفرق بين الأشاعرة والماتريدية في مسألة الفعل والمفعول وسمعت منه جوابا عظيما واضحا أزال كثيرا من الإشكالات عندي. وسالته مرة عن بعض رجال الإسناد فيذكرهم ويذكر كلام أهل الجرح والتعديل فيهم كأنه متخصص في علم الرجال. وأما الفقه وأصول الفقه فهو فيه لا يجارى ولا يبارى إذ هو تخصصه الأكاديمي. ولا يعني هذا أنه يوافق في كل ما يقول إذ ليس ذاك لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    أسأل الله أن يرزقنا وإياه وإياكم الإخلاص وقول الحق في الامن والخوف. وأن يعفو عنا وعنكم.

    مشكور يا شيخنا سلمان أبو زيد.

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2007
    المشاركات
    3,515

    افتراضي رد: « المصلحة عند الحنابلة » لفضيلة الشيخ العلامة سعـد بن ناصر الشثـري

    جَزاكُمَا اللَّـهُ خَيْرًا ، وبَارَكَ فِيكُمَا.

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Nov 2007
    المشاركات
    770

    افتراضي رد: « المصلحة عند الحنابلة » لفضيلة الشيخ العلامة سعـد بن ناصر الشثـري

    بارك الله فيك اخي المكرم سلمان
    اذا امكن ان تصور لنا البحث
    و تعلمنا بالخاص

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Oct 2007
    المشاركات
    406

    افتراضي رد: « المصلحة عند الحنابلة » لفضيلة الشيخ العلامة سعـد بن ناصر الشثـري

    لو تصور لنا البحث أخي سلمان حتى يكون سهل التنزيل على شكل ملف
    بارك الله فيك

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2007
    المشاركات
    3,515

    افتراضي رد: « المصلحة عند الحنابلة » لفضيلة الشيخ العلامة سعـد بن ناصر الشثـري

    بَارَكَ اللَّـهُ فِيكُمَا ،وَجَزَاكُمَا خَيْرًا.

    http://majles.alukah.net/showpost.ph...7&postcount=24
    2636 ـ وَالعِلْمُ يَدْخُلُ قَلْبَ كُلِ مُـوَفَّـقٍ * * * مِنْ غَـيْـرِ بَـوَّابٍ وَلَا اسْـتئْذَانِ
    2637 ـ وَيَرُدُّهُ الـمَـحْرُوْمُ مِنْ خِذْلَانِـهِ * * * لَا تُـشْـقِـنَا الـلَّهُـمَّ بِالـحِـرْمَـان ِ
    قاله الإمامُ ابنُ قيِّم الجوزيّة .« الكافية الشافية » [ ج 3، ص 614 ]. ط بإشراف شيخِنا العلّامة بكر أبو زيد.

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •