بسم الله الرحمن الرحيم، إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ الله وحْدَه لا شريكَ له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71].
أمَّا بعدُ، فإنَّ أصدقَ الحديث كتابُ الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل مُحدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إنَّ الحديثَ عن كتاب الله - عز وجل - المنزل على محمد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حديث لا تمله القلوب، ولا تشنؤُه النفوس، فبه تصفو القلوب وتلين وترق وتزكو النفوس وتطمئنُّ وبالإيمان تتحقق.
كتاب الله - عزَّ وجلَّ - كتابٌ علا عن الشكوك والرِّيَب، وسَما عن الشبه والشغب، واليقين كل اليقين أنَّه المصدق الصادق عن ربِّ البرية، والخالي من كلِّ عيب ونقص في لفظه ومعناه، لا يأتيه الباطل مِن بين يديه ولا من خلفه، تنزيل مِن حكيمٍ حميد.
يقول السيوطي في "معترك الأقران": "وبيان كون النَّظْم معجزًا يتوقف على بيان نظم الكلام، ثم بيان أنَّ هذا النظم مُخالف لما عداه من النظم".
فنقول: مراتِب تأليف الكلام خَمْس:
الأولى: ضم الحروف المبسوطة بعضها إلى بعض؛ لتحصل الكلمات الثلاث: الاسم، والفعل، والحرف.
والثانية: تأليف هذه الكلمات بعضها إلى بعض، فتحصل الجمل المفيدة، وهو النوع الذي يتداوله الناسُ جميعًا في مُخاطباتهم وقضاء حوائجهم، ويقال له: المنثور من الكلام.
والثالثة: ضم بعض ذلك إلى بعض ضمًّا له مَبَادئ ومقاطع، ومداخل ومخارج، ويقال له: المنظوم.
والرابعة: أن يُعَدَّ في أواخر الكلام مع ذلك تسجيعٌ، ويقال له: السجع.
والخامسة: أن يُجعل له مع ذلك وزنٌ، ويقال له: الشعر.
والمنظوم إما محاورة، ويقال له: الخطابة، وإما مكاتبة، ويقال له: الرسالة، فأنواع الكلام لا تخرج عن هذه الأقسام، ولكل من ذلك نظم مخصوص.
والقرآن جامع لمحاسن الجميع على غير نظم لشيء منها، يدُلُّ على ذلك أنَّه لا يَصِحُّ أن يقال له: رسالة أو خطابة أو شعر أو سجع، كما يصح أن يقال: هو كلام، والبليغ إذا قرع سمعَه، فصل بينه وبين ما عداه من النَّظم.
ولهذا قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41 - 42]؛ تنبيهًا على أن تأليفه ليس على هيئة نَظْم يتعاطاه البشر، فيُمكن أن يغير بالزِّيادة والنقصان، كحالة الكتب الأخرى.
قال: وأمَّا الإعجازُ المتعلق بصرف الناس عن معارضته، فظاهر أيضًا إذا اعتبر، وذلك أنَّه ما من صناعة كانت مَحمودة أو مذمومة، إلاَّ وبينها وبين قوم مناسبات خفيَّة واتِّفاقات فعليَّة؛ بدليل أنَّ الواحد يُؤثِر حرفةً من الحِرَف، فينشرح صدرُه بملابستها، وتُطيعه قواه في مُباشرتها، فيقبلها بانشراح صدر، ويزاولها بقلبه.
فلَمَّا دعا اللهُ أهلَ البلاغة والخطابة الذين يهيمون في كل وادٍ من المعاني بسلاطة لسانهم إلى معارضة القرآن، وعجزوا عن الإتيان بمثله، ولم يقصدوا لمعارضته، فلم يَخْفَ على ذوي البلاغة أنَّ صارفًا إلهيًّا صرفهم عن ذلك.
وأيُّ إعجازٍ أعظمُ من أن يكون البلغاء كافَّة عجزوا في الظاهر عن مُعارضةٍ مصروفةٍ في الباطن عنهم؟
فإن قلت: هل يُعْلَم إعجازُ القرآن ضرورةً أو لا؟
فالجواب: ظهور ذلك على النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُعْلم ذلك ضرورة، وكونه معجزًا يُعْلَم بالاستدلال.
قال أبو الحسن الأشعري: والذي نقوله: إنَّ الأعجمي لا يُمكنه أن يعلم إعجازه إلاَّ استدلالاً، وكذلك من ليس ببليغ.
فأمَّا البليغ الذي أحاط بمذاهب العرب وغرائب الصنعة، فإنَّه يعلم من نفسه ضَرورة عَجْزِه وعجز غيره عن الإتيان بمثله.
فإن قلت: إنَّما وقع العجز في الإنس دون الجن؟
فالجواب: أنَّ الجن ليسوا من أهل اللسان العربي الذي جاء القرآن على أساليبه، وإنَّما ذكروا في قوله - تعالى -: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ} [الإسراء: 88].
تعظيمًا لشأنه؛ لأن للهيئة الاجتماعية من القوة ما ليس للأفراد، فإذا افتُرِض إجماع الثقلين، وظاهر بعضُهم بعضًا، وعجزوا عن المعارضة، كان الفريق الواحد أعجز.
وقال بعضهم: بل وقع للجن أيضًا، والملائكة منويُّون في الآية؛ لأنَّهم لا يقدرون أيضًا على الإتيان بمثل القرآن.
وقال الرُّماني في غرائب التفسير: "إنَّما اقتصر في الآية على ذكر الجن والإنس؛ لأنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان مبعوثًا إلى الثقلين دون الملائكة.
فإن قلت: قد قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، وقد وجدنا فيه اختلافًا وتفاوُتًا في الفصاحة، بل نجد فيه الأفصح والفصيح.
والجواب: أنه لو جاء القرآن على غير ذلك، لكان على غير النمَط المعتاد في كلام العرب من الجمع بين الأفصح والفصيح، فلا تتمُّ الحجة في الإعجاز، فجاء على نَمط كلامهم المعتاد؛ ليتم ظهورُ العجز عن مُعارضته، ولا يقولوا مثلاً: أتيت بما لا قُدْرَةَ لنا على جنسه، كما لا يصح للبصير أن يقول للأعمى: قد غلبتك بنظري؛ لأنه يقول له: إنَّما تتم لك الغلبة لو كنت قادرًا على النظر، وكان نظري أقوى من نظرك، فأمَّا إذا فقد أصل النظر، فكيف تصح مني المعارضة.
وقيل: إنَّ الحكمة في تنزيه القرآن عن الشعر الموزون - مع أنَّ الشعر الموزون من الكلام رُتْبَته فوق رتبة غيره - أنَّ القرآنَ مَنبعُ الحق، وجمع الصدق، وقصارى أمر الشاعر التخيُّل بتصوُّر الباطل في صورة الحق، والإفراط في الإطراء، والمبالغة في الذَّمِّ والإيذاء، دون إظهار الحق، وإثبات الصدق؛ ولهذا نزه الله نبيَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - عنه، ولأجل شهرة الشعر بالكذب، سَمَّى أصحاب البرهان القياسات المؤدية في أكثر الأمر إلى البطلان والكذب: شِعْريَّة.
وقال بعض الحكماء: لم يُرَ متَدَيِّن صادق اللهجة مُفْلقًا في شعره.
وأما ما وجِد في القرآن مما صورته صورة الموزون، فالجواب عنه أنْ ذلك لا يسمى شعرًا؛ لأَنَّ من شرط الشعر القصد، ولو كان شعرًا لكان من اتَّفق له في كلامه شيء موزون شاعرًا، فكان الناس كلهم شعراء؛ لأنه قَلَّ أن يخلو كلامُ أحدٍ عن ذلك.
وقد ورد ذلك عن الفصحاء، فلو اعتقدوه شعرًا لبادروا إلى معارضته، والطعن عليه؛ لأنهم كانوا أحرصَ شيء على ذلك، وإنَّما يقع ذلك؛ لبلوغ الكلام الغايةَ القُصْوى في الانسجام.
وقيل: البيت الواحد وما كان على وزنه لا يُسمى شعرًا.
وأقل الشعر بيتان فصاعدًا.
وقِيل: الرجز لا يسمى شِعرًا أصلاً.
وقيل: أقل ما يكون من الرجز شعرًا أربعة أبيات، وليس ذلك في القرآن بحال" إلى آخر كلامه الماتع في كتابه المذكور.
ومما لا يَخفى أنَّ القرآن الكريم نزل أولَ ما نزل على مسامع أهلِ مكة، وللسان المكي عامة والقرشي خاصَّة مكانةٌ عُليا في فصاحة وبلاغة اللسان العربي ككل؛ ولهذا كان تحاكُم الشعراء والبلغاء إليهم وفيهم؛ ذلك أنَّ قريشًا كانت أشرفَ القبائل وأعظمها، فهي هامَة العرب الكبرى نَسَبًا وحَسَبًا، وكانت مكة مَحَطَّ أنظار العرب قاطبة، يقصدونها من كل حَدَب وصوب في الجاهلية والإسلام، وبذلك انصهرت العربيةُ، وأخرجت جمالَها وبراعتها اللُّغوية في اللسان القرشى.
يقول ابن فارس: "أخبرني أبو الحسين أحمد بن محمد مولى بني هاشم بِقَزْوين، قال: حدثنا أبو الحسين محمدُ بن عباس الخُشْنِكي، قال: حدثنا إسماعيل بن أبي عُبَيدالله قال: أجمَعَ علماؤنا بكلام العرب، والرُّواةُ لأشعارهم، والعلماءُ بلُغاتهم وأيامهم ومَحالِّهم - أنَّ قُرَيشًا أفصحُ العرب ألْسنةً وأصْفاهم لغةً؛ وذلك أن الله - جل ثناؤه - اختارهم من جميع العرب، واصطفاهم واختار منهم نبيَّ الرحمة مُحمدًا - صلى الله تعالى عَلَيْهِ وسلم - فجعل قُريشًا قُطَّان حَرَمِه، وجيران بيته الحرام وولاتهُ، فكانت وُفود العرب من حُجاجها وغيرهم يَفِدون إِلَى مكة للحج، ويتحاكمون إِلَى قريش فِي أُمورهم.
وَكَانَتْ قريش تعلِّمهم مَناسكَهم، وتَحكُمُ بَيْنَهم، ولن تزل العرب تَعرِف لقريش فضلَها عليهم، وتسمِّيها أهلَ الله؛ لأنَّهم الصَّريح من ولد إسماعيل - عَلَيْهِ السلام - لَمْ تَشُبْهم شائبة، وَلَمْ تنقُلْهم عن مناسبهم ناقِلَة؛ فضيلةً من الله - جلَّ ثناؤه - لهم وتشريفًا؛ إذ جعلهم رَهط نبيِّه الأدْنَيْنَ، وعِتْرته الصالحين.
وَكَانَتْ قريشٌ مع فَصاحتها، وحُسن لغاتها، ورِقَّة ألسنتها، إِذَا أتتهُم الوُفود من العرب، تَخيَّروا من كلامِهم وأشعارهم أحسنَ لغاتِهم، وأصفى كلامِهم، فاجتمع مَا تَخيَّروا من تِلْكَ اللغات إِلَى نَحائرهم وسَلائقهم الَّتِي طُبعوا عَلَيْهَا، فصاروا بذلك أفصحَ العرب.
ألاَ ترى أنَّك لا تَجد فِي كلامهم عَنْعَنَة تَميم، ولا عَجْرفيَّة قَيْس، ولا كَشْكَشَة أسَد، ولا كَسْكَسة رَبيعةَ، ولا الكَسْر الَّذِي تسمَعه من أسدَ وقَيْس، مثل: "تعلِمون"، و"نِعلَم"، ومثل "شعير"، و"بِعير"؟".
فلَمَّا نزل القرآن فيهم، وأعجزهم بلفظه ومعناه وأسلوبه، وغلبهم وقهرهم أن يأتوا بمثله، بل بمثل بعضه، مَيَّزَه عن سائر الكلام، وعرفوا له عُلُوَّ القدر والمكانة، زِدْ على ذلك أنَّ القرآن لم يكن يقرأ كسَائرِ الكلام العربي، بل إنَّ مُعجزته امتدت إلى قراءته فيما اصطلح عليه، وعرف بالتلاوة، وجعلت له أحكامٌ في تلاوته تُغايِر سائر الكلام.
ولهذا المدخل يغلب على الظنِّ، بل هو عندي بمثابة اليقين أنَّه ما اختلف فيه ولا في حرف منه بين أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم.
ولذلك وعلى تلك الأدلة المتظاهِرة القويَّة، التي سأعرض لبعضها في طريقِ تلك الرِّسالة - الذي يَعنينا بالمقام الأول هو مدى صِحَّةِ النسبة لشُبهة إنكار المعوذتين إلى ابن مسعود، وها هنا سؤالان مهمان:
الأول: هل كانت المعوذتان في العَرضة الأخيرة التي عرض النبي - صلى الله عليه وآله وسلم? وهل سمع ابن مسعود تلك العرضة أو لا?
الثاني: على أي منهج تَمَّ جَمْع المصحف في زَمنِ الخلافة الراشدة والصديق الأكبر أبي بكر الصديق? وهل وقَع الإجماع على مُصحف أبي بكر أو لا? وهل شَذَّ أحد من أصحاب النبي - صَلَّى الله عليه وآله وسلم?
ومع ذلك يبقى على الشبهة عدة تساؤلات:
متى ذهب ابن مسعود إلى الكوفة وعنه أخذت القراءة?
هل ذهب بمفرده، ولم يَفِدْ عليه أصحابُ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم?
ما موقفه - رضي الله عنه - من مُصحف عثمان?
ثم نعرج على أدلة ثبوت المعوذتين في قراءة ابن مسعود.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
أبو سعد الدين العتابي الرسي.
مبحث ثبوت المعوذتين في العرضة الأخيرة:
أولاً: قبل الخوض في تلك المسألة يَجب التنبيه إلى المراد بالعرضة الأخيرة، ولماذا الاهتمام بها?
العرضة الأخيرة مأخوذة من الحديث المشهور في عرض جبريل القرآن على النبي - صلَّى الله عليه وآله وسلَّم - في رمضان من كل عام.
روى البخاري في صحيحه في مَواضع، ومُسلم من طريق فراس، عن عامر عن مسروق؛ حدثتني عائشةُ أمُّ المؤمنين قالت: "إنا كنا أزواجَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عنده جَميعًا لَم تُغادر مِنَّا واحدة، فأقبلت فاطمة - عليها السلام - تَمشي، ولا والله، لا تَخفى مِشْيتها من مشيةِ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلما رآها، رَحَّب، وقال: ((مرحبًا بابنتي))، ثم أجلسها عن يَمينه أو عن شِماله، ثم سارَّها، فبكت بكاء شديدًا، فلما رأى حزنها، سارها الثانية، فإذا هي تضحك، فقلت لها أنا من بين نسائه: خَصَّكِ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالسر من بيننا، ثم أنت تبكين، فلما قام رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - سألتها: عَمَّ سارَّك؟ قالت: ما كنتُ لأفشي على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - سِرَّه، فلما توفي، قلت لها: عزمت عليك بما لي عليك من الحق لما أخبرتني، قالت: أمَّا الآن فنعم، فأخبرتني قالت: أمَّا حين سارَّني في الأمر الأول، فإنَّه أخبرني أنَّ جبريل كان يُعارضُه بالقرآن كلَّ سنة مرة، ((وإنه قد عارضني به العام مَرَّتين، ولا أرى الأجل إلاَّ قد اقترب، فاتَّقي اللهَ واصبري، فإني نعمَ السلفُ أنا لك))، قالت: فبكيت بكائي الذي رأيتِ، فلما رأى جَزَعي، سارَّني الثانية، قال: ((يا فاطمة، ألاَ تَرْضَيْنَ أنْ تَكوني سيدةَ نساء المؤمنين أو سيدةَ نساء هذه الأمة))، واللفظ للبخاري.
ولهذه العرضة الأخيرة - وكانت في رمضان - مَكانة خاصَّة؛ إذ إنَّها تضمنت السورَ، وترتيب الآيات فيها، وعزل المنسوخ من القراءة عن القرآن، وكذلك تضمنت الأحرف السبعة.
وقد ذهب غيرُ واحد أنَّها تضمنت ترتيبَ السور، كما هو مرتب الآن في المصحف العثماني.
ومن قيمة هذه العرضة أنها كانت الأساس في جَمْع المصاحف، والأساس الذي استقر إجماع الصحابة على قبول القراءة.
ينبغي أن نفهم أمرًا من هذه العرضة الأخيرة، وهو استقرارُ السور والآيات عليها وبعدها، بمعنى أنَّه ما نسخت هذه العرضة لا في حروفها، ولا في سورها، ولا في ترتيبها، وإن كان نزل قرآن بعدها، مثل آية البقرة التي هي آخر ما نزل من القرآن، نزلت قبل وفاة النبي - صلَّى الله عليه وآله وسلَّم - ببضع ليالٍ، وآية المائدة: اليوم أكملت لكم... الآية، التي نزلت يوم عرفة يوم جمعة في حجة الوداع، ومن البدهي أن النبي - صلَّى الله عليه وآله وسلَّم - ما استقبل رمضانَ بعد تلك الحجة.
وآية الربا وآية الكلالة، وهما نزلتا بعد حجة الوداع.
وهذا القرآن كان النبي - صلَّى الله عليه وآله وسلَّم - يقول في آياته: ضعوها في سورة كذا بين كذا وكذا.
وعلى أساس الترتيب للآيات والسور في هذه العرضة، كان الجمعان اللَّذان قام بهما الراشدان أبو بكر وعثمان، كما اعتمدا حروفَ القراءة فيهما عند كتابة المصحف، وصار ما سبق هذه العرضة مَنسوخًا من القرآن الكريم.
وقد جاء خَبَرُ هذه العرضة من حديث أبي هريرة وابن عباس وغيرهما.
وقد كانت قراءة ابن مسعود هي القراءة الأخيرة، وقد حضر العرضة الأخيرة، وعلم ما بدل وما نسخ، وكانت قراءته سواء مع قراءة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وهي مساوية لقراءة زيد بن ثابت، كما سنثبته في مبحثنا هذا.
العرضة الأخيرة شرط قبول القراءة بإجماع الصحابة:
أدلة ذلك حديثُ جمع المصحف على عهد أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -:
بَوَّب البخاري بابًا في كتابِ فضائل القرآن؛ قال: "باب جمع القرآن؛ حدثنا موسى بن إسماعيل، عن إبراهيم بن سعد، حدثنا ابن شهاب، عن عبيد بن السباق أنَّ زَيْدَ بن ثابت - رضي الله عنه - قال: أرسل إلَيَّ أبو بكر مَقْتَلَ أهلِ اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر - رضي الله عنه -: إنَّ عُمَرَ أتاني، فقال: إنَّ القتل قد استَحَرَّ يومَ اليمامة بقُرَّاء القرآن، وإنِّي أخشى أن يستحر القتلُ بالقراء بالمواطن، فيَذهب كثيرٌ من القرآن، وإنِّي أرى أن تأمُر بجمع القرآن، قلت لعمر: كيف تفعل شيئًا لم يفعله رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم؟ قال عمر: هذا والله خَيْر، فلم يَزَلْ عمر يُراجعني، حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر.
قال زيد: قال أبو بكر: إنَّك رجل شابٌّ عاقل لا نتَّهمك، وقد كنت تكتب الوحيَ لرسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فتتبع القرآنَ فاجمعه، فوالله، لو كلفوني نَقْلَ جبلٍ من الجبال ما كان أثقلَ عَلَيَّ مِمَّا أمرني به من جمع القرآن، قلت: كيف تفعلون شيئًا لَم يفعله رسولُ الله؟ قال: هو والله خير، فلم يَزَلْ أبو بكر يُراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - فتتبعت القرآن أجمعه من العُسُبِ واللِّخَاف وصُدور الرجال، حتى وجدت آخرَ سورةِ التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع أحد غيره: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة: 128].
حتى خاتمة براءة فكانت الصُّحف عند أبي بكر، حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر - رضي الله عنه".
ويُمكن تلخيص منهج الجمع فيما يلي:
1 - أن يأتي كلُّ مَن تلَقَّى شيئًا منَ القرآن من رَسُول اللهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - به إلى زيد بن ثابت ومن معه.
ويدُلُّ لذلك ما رواه ابن أبي داود من طريق يحيى بن عبدالرحمن بن حاطب أنَّ عمر بن الخطاب قام في الناس، فقال: مَن كان تلقى مِن رَسُول اللهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - شيئًا من القرآن، فليأتنا به، وكانوا كتبوا ذلك في الصُّحف والألواح والعُسُب، وكان لا يقبل من أحد شيئًا حتى يشهد شهيدان.
2 - ألا يُقبل من أحدٍ شيءٌ حتى يشهد عليه شهيدان؛ أي: إنَّه لَم يكن يكتفي بِمجرد وجدان الشيء مَكتوبًا حتى يشهد عليه شهيدان.
ويدل على ذلك أثرُ عمر السابق، وكذلك قول أبي بكرٍ لعمر بن الخطاب، ولزيد بن ثابت: اقعدَا على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله، فاكتباه.
وقد اختلف في المراد بالشهادة هنا:
فقال السخاوي: المراد أنَّهما يشهدان على أنَّ ذلك المكتوب كُتِب بين يدي رَسُول اللهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أو المراد أنَّهما يشهدان على أنَّ ذلك من الوجوه التي نزل بِها القرآن.
وقال ابن حجر: وكأنَّ الْمراد بالشاهدين الحفظ والكتاب، ثم ذكر احتمال الوجهين الأولين.
قال السيوطي: أو المراد أنَّهما يشهدان على أنَّ ذلك مِمَّا عُرض على النَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - عامَ وفاته.
والذي يظهر - والله أعلم - أنَّ المرادَ الشهادة على كتابته بين يدي النَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأنه مِمَّا عُرض على جبريل في العام الذي توفي فيه رَسُول اللهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذ القرآن كان مَحفوظًا في صدور كثير من الصَّحابة - رضي الله عنهم - فلو أرادوا الإشهاد على حفظه، لوجدوا العشرات.
3 - أن يكتب ما يؤتى به في الصُّحف:
ويدلُّ عليه قولُ زيدٍ في حديث جمع القرآن السابق: وكانت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر.
وما في موطَّأ ابن وهب عن ابن عمر قال: جمع أبو بكر القرآن في قراطيس.
وفي مغازي موسى بن عقبة عن الزهري، قال: لَمَّا أصيب المسلمون باليمامة، فزع أبو بكر، وخاف أن يذهبَ من القرآن طائفة، فأقبل الناسُ بما كان معهم وعندهم، حتى جُمِع على عهد أبي بكر في الورق، فكان أبو بكر أولَ من جمع القرآن في الصحف.
4 - ألا يُقبل مِمَّا يُؤتى به إلا ما تَحققت فيه الشروط الآتية:
أ - أن يكون مكتوبًا بين يدي النَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - لا من مُجرد الحفظ، مع المبالغة في الاستظهار والوقوف عند هذا الشرط.
قال أبو شامة: وكان غرضُهم ألا يُكتب إلاَّ من عين ما كُتب بين يدي النَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - لا من مجرد الحفظ.
ب - أن يكون مما ثبت عرضُه على النَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - عام وفاته؛ أي: في العرضة الأخيرة.
وذلك أنَّ ما لَم يثبت عرضه في العرضة الأخيرة، لم تثبت قرآنِيَّتُه، وقد مرَّ قريبًا احتمال كون الإشهاد على أنَّ المكتوب كان مِمَّا عرض في العرضة الأخيرة.
وعن محمد بن سيرين عن كَثِير بن أفلَحَ قال: لَمَّا أراد عُثمانُ أن يكتب المصاحف، جمع له اثني عشر رجلاً من قريش والأنصار، فيهم أُبَيُّ بن كعبٍ وزيد بن ثابت، قال: فبعثوا إلى الرَّبعَةِ التي في بيت عُمَرَ، فجِيء بِها، قال: وكان عثمانُ يتعاهدهم، فكانوا إذا تدارؤوا في شيء أخَّروه، قال محمد: فقلت لكَثِيرٍ - وكان فيهم فيمن يكتب -: هل تدرون لِمَ كانوا يُؤَخِّرونه؟ قال: لا، قال محمد: فظننت أنَّهم إنَّما كانوا يُؤَخِّرونه؛ لينظروا أحدثهم عَهْدًا بالعرضة الأخيرة، فيكتبونَها على قوله.
5 - أن تكتب الآيات في سُورها على الترتيب والضبط اللَّذَيْنِ تلقاهما المسلمون عن النَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم.
وقد التُزم في هذا الجمع كلُّ الضوابط السابقة بدِقَّة صارمة، حتى إنَّه رُوي أَنَّ عمر بن الخطاب أتى بآية الرجم، فلم تُقْبل منه؛ لأنه كان وَحْده.
فقد أخرج ابنُ أشتة في كتابِ المصاحف عن الليث بن سعد، قال: أوَّل من جمع القرآن أبو بكر، وكتبه زيدٌ، وكان الناس يأتون زيدَ بن ثابت، فكان لا يكتب آيةً إلا بشاهدي عَدْل، وإنَّ آخر سورة براءة لم توجد إلاَّ مع خزيْمة بن ثابت، فقال: اكتبوها، فإنَّ رَسُول اللهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - جعل شهادَتَه بشهادة رجلين، فكتب، وإنَّ عُمَر أتى بآية الرجم، فلم يكتبها؛ لأنَّه كان وَحْدَه.