إننا عندما نريد التعامل مع شيء عظيم ، فإنه يلزم التعرف على مميزاته وخصائصه قبل الولوج فيه، وذلك لاستثمار مافيه من المنافع والحصول على أعلى قدر من الفائدة ، وهذا لأنه عظيم . !
وهكذا القرآن فهو رأس في العظمة ، وهو كتاب إعجاز وتحدي ، فالجهود المبذولة للتعرف عليه مهما بلغت فهي قاصرة .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)
وإن من الأمور التي يجب لقارئ القرآن أن يعلمها أن هذا القرآن يتعامل مع القلوب أولاً ، فهو يحتوي على رسائل من رب الارض والسماء إلى هذا القلب، وقد قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: إن من كان قبلكم -يقول للتابعين في زمانه وأتباعهم- رأوا القرآن رسائل من ربهم، فكانوا يتدبرونها بالليل وينفذونها بالنهار ) ، وهذه الرسائل يفهمها القلب فهماً جيداً ، ولكن هيهات أن يكون كل قلب ، ولكنه القلب الطاهر المقبل على الحق الصادق في طلبه ، الراجي ما عند الله ، الخائف منه الوجل من يوم لقائه .
وفي الأثر عن عثمان بن عفان - الذي انتهت حياته وبين جنبيه مصحفاً يتلوه -:
والله لو طهرت قلوبكم ما شبعت من كلام ربكم .
عندما تطهر القلوب !
يا قوم .. متى ما أصلحنا القلوب فستصل الرسالة كما هي ، وسيصل النفع الموعود به والشفاء من كل داء ، نعم من كل داء فقد جاءت لفظة - شفاء – في مواضع ثلاثة في القرآن وجاءت اللفظة فيها كلها نكرة !
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِين َ ﴿57﴾ سورة يونس
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِين َ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ﴿82﴾ سورة الاسراء
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ۖ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ۗ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ۖ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ۚ أُولَـٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ﴿44﴾ سورة فصلت
وتأمل الألفاظ التالية : موعظة ، شفاء ، هدى ، رحمة ، وهذا التنكير جاء للتعظيم . !
يعلق هنا سيد – رحمه الله – فيقول في كلام بديع :
وإنه لتعبير عجيب عن حقيقة عميقة ، إن هذا القرآن شفاء لما في الصدور بكل معنى من معاني الشفاء ، إنه يدب في القلوب فعلاً دبيب الشفاء في الجسم المعلول! يدب فيها بإيقاعه ذي السلطان الخفي العجيب ، ويدب فيها بتوجيهاته التي توقظ أجهزة التلقي الفطرية ، فتهتز وتتفتح وتتلقى وتستجيب ، ويدب فيها بتنظيماته وتشريعاته التي تضمن أقل احتكاك ممكن بين المجموعات البشرية في الحياة اليومية ، ويدب فيها بإيحاءاته المطمئنة التي تسكب الطمأنينة في القلوب إلى الله ، وإلى العدل في الجزاء ، وإلى غلبة الخير ، وإلى حسن المصير .أ.هـ
ولمن تأمل في لفظة – شفاء - الواردة في سورة النحل - المتعلق بشراب العسل - وهو الموضع الرابع الذي ذكرت فيه هذه اللفظة وجد أن السياق قد تغير والنفع أصبح شاملاً لجنس البشر وليس للمؤمنين فحسب كما هو في شفاء القرآن ، فقد اختص الله عز وجل به المؤمنين في الآيات الثلاث السابقة .
حيث نص الآية في سورة النحل :
يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ .
بالفعل ، إنه كتاب عزيز ، فالنفع فيه مشروط بالإيمان !
ليس هذا فحسب ، بل هو يزيد الكافرين خسارة ورجس ، وهو عليهم عمى .
لَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ"...
فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِين َ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا
إن ملخص ما يراد من هذه المقدمة :
أن يعلم الشرط الذي بفعله يحصل الانتفاع من القرآن وهو الإيمان وتصفية القلب من الأمراض فالتخلية قبل التحلية ، وأن نعمل جاهدين لتنقية القلب فهو وعاء العلم كما عبر بذا ابن القيم – رحمه الله - .