دمعتان:
كنت على متن الحافلة الحكومية التي تنقل من ساحة أول ماي إلى القبة القديمة واقفا مثل غالب الركاب في النقل الجزائري بحيث تجد زحمة من البشر متلاظين أو متقاربين يمسك كل واحد منهم بعضد الآخر و حجزه و كتفه أو بعمود أو بأي شيء !! المهم أن يحافظ على توازنه ..
زحمة من البشر فيهم الشيخ العجوز و العجوز الطاعنة و الطاعنة بسهام أعينها في قلوب الشباب و شباب مهموم و مهموم يرى كل ذلك فتختلجه الأفكار و تمهد له السبل ليختار أيها المناسب للحل........حل ماذا ؟
ثم يرى من بين ذلك فلا يلفت انتباهه إلا فتاتان:
أما إحداهما فمتحجبة مستورة متحفظة من الرجال تدمع عينها و تكد تبكي لعلة أصابتها و لا شك أنها كانت في المستشفى الكبير مصطفى باشا، فسارعت عند الغروب حتى تصل إلى بيت أهلها و توفيهم بنفسها قبل هجوم الليل و ما فيه، فهي متأثرة بثلاثة أوجاع:
في سويداء حبيبتيها - و ما أغلاهما عند كل إنسان، تخاف أن يدركهما شر خطير، و تلك الداهية الجسيمة و الغاشمة العميمة التي تخذل الرجل الشجاع فما بالك بالمرأة الضعيفة؟ و تهدم نفوس السلاطين فما بالك بالعواني؟
و في عرضها و شرفها فهي تحتط و تريد أن لا يقع في ساحتها و لا بين يدي عفافها و طهرها ما يدنسها من أشلاء القتلى و لو برائحة كريهة، و لستُ أزعم أنها جميلة أو آخذة بمجامع القلوب أو ساحرة ألباب الرجال بذاك القدْر الذي تتصوره، و لكن الأنثى لا يكمل جمالها إلا بترفعها عن منازل السفهاء و لحاقها بمدارج الفضلاء، و من ظرت بهذا ما فقدتْ شيئًا..
و في أهلها إذ لا يمكن أن تبقى جزءً من الليل خارج البيت فهذه جرحة ينبغي أن تتوقى منها، و ترى أنها لو علت ذلك فكأنها أتتْ كبيرًا من الفعال.
فحق على صاحب الحافلة أن يسرع ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فإن هنا من أهل الأدب و الفضل من ينبغي أن يحافظ على وقته فلا يقتله في الهوينى و التثاقل ، بل لا يختار إلا الرمل و الخبب و الوضع و السعي، و يحافظ على نفسه البيضاء أن تتلطخ بين عيون الأفاعي و نفوس الذئاب، و أن يبذلها لكل غملج فارغ: عظيم الجثة ... لكنه في الداخل : أجوف ما بين الجنبين ...
فرجاءً يا قائد الركب أسرعْ!
أما الفتاة الأخرى فبضة شقراء، و بكرة حسناء، تتفجر جملا و تنبض حياء، حتى كأن عينيها تدمعان حياءً استحال في صدرها خوفا و جزعا ، فإذا رفعت طرفها ثمَّ ردَّتْهُ : تحسب أنها تكفكف عبراتها لا تظهر أمام القوم،
و لكنها بين تقلب طرفها: قد مدَّتِ الأفئدة و جزرتْ ...
فيا قمرًا قد مدَّ مهجة عاشقٍ *** كفاك فإني سوف يقتلني الجزْرُ!
غير أنها قد اكتست حلة إفرنجيَّةً، فما أسرع أني لم آمنْ حياءها ! و لم يطمئنَّ قلبي على وقارها و سمْتِها الباهر، و كان الشاب الذي يقابلها في المقعد على نفس النمط، و الطراز الأوروبي الحديث ، برنيطة إسبانية و لحية مثلثة في أسفل الذقن، و نظارة سوداء هي للزينة لا غيرُ، ثم دثار لاصق بجسمه كأنه شعار، و بنطلون فضفاض كثير التجاعيد، قد وضع سماعة في أذنيه ليتمتع بما يشتهي و ما لا يشتهي من الأغاني الفرنسية و موسيقى الجاز و الراب المثيرة للأعصاب ....و الأشواق!!!
يتلمح الفتاة الجميلة و يسرق منه صورًا فاتنة و ساعدته في ذلك النظارات فإنهن خداعات، حتى إذا رأى منها مطلبًا أسرع،
قائلا: أختي تريدين شيئًا ؟
قالت: لا، شكرا جزيلاً...
قال: ما بال سماعاتك؟
قالتْ: البطارية ضعيفة فلا يمكنني السماع..
هؤلاء قوم لا يعيشون إلا بالسماع..
قال: يمكنني أن أعيرك .
قالت - و قد ابتسمتْ و احمرَّت وجنتاها -: آه، شكرًا...
و أنا في كل ذلك يغشاني من الحسرة ما يكاد يبكيني و يبعث في وجداني رثاء أطلال الفضيلة:
فيا دارها بعد الرحيل كأنَّها *** هياكلُ من عهدٍ قديم تبلَّتِ
ثم دخلا في محادثة طويلة باللغة الفرنسية، فأتقناها أيَّما إتقانٍ، و هي تتكرم عليه - بل علينا جميعًا - في خلال كلامه بابتسامة عريضةٍ، أو انكسار طرف و تمريضه، و هو - بل نحن جميعًا - آخذون يمينًا و شمالا كما تشاء المُقَلُ، كأن هذا هو كل ما تريده تلك الشابة الفاتنة المفتونة ، المائلة المميلة ، المغرورة بالكلام العسلي من حبيبها و خِدْنِها الذي اتخذتْه في الحافلة ..
و تعسًا لحُبٍّ نشأ في الحافلة!!
ليستمتع كلُّ شق بالآخَرِ و لا أدري بعد ذلك من المُلامُ ؟
أيلام الشاب لأنه أتبع النظرة الأخرى فحاول أن يظفر بكلام منها؟
أتلام الفتاة لأنها أسفرتْ عن محاسنها و رآءتْ بحسناتها؟
أم يلام والداها لأنهما ربَّياها على هذه الثقافة الغربية المتفسخة؟
أم يلام الناس كلهم لأنهم رضوا عما ينكرونه بقلوبهم؟
أم يلام الدهر لأنه أتى بما فيه، و جرَّ علينا مثالبه و مساويه؟
أم ألام أنا ، لأني علمتُ شرَّها فوقيْتُ سِرَّها ؟
مجال حيرة و لا بدَّ...
سوف تصاب بغثيان لو خطفتَ نظرتين عاجلتين من الفتاة الأولى بسترها و حيائها و بلائها، و الفتاة الأخرى بجمالها و ترجلها و ابتذالها ، فلا تكاد تجتمع لديك هذه المعاني حتى ينتابك دوار و شقيقة فتخشى -معها- أن تذهب بِلُبِّكَ و فكرِكَ، فتفسدَه إلى الأبد...
من منا لا يحب المرأة و لا يريد كرامتها ؟
من منا تحلو له إهانة القوارير ؟
من منا يضمر المكر و الغِلَّ و الحقد للحبيبات الكريمات ؟
مجرم ذلك القلب الذي ينطوي في أحشائه على هذه النبضات ..
و مطرود عنَّا من يشغل نفسه بأدنى شيء من هذه الأفكار..
فنحن لا نقبل خائنًا يريد أن يوقع الفضليات في شباك الرذائل و مهاوي الفاحشة، و يريد أن يجعلها صورة معلَّقةً :
نظرة بمئة دينار،
و قُبلة بألف دينار،
و ما وراءهما: ربحٌ عظيمٌ يجنيه ( بفضْل ) إشاعته للرذيلة، و طمسه للفضيلة، و هدمه لمنار الحياء في ظلمات الانحلال و الإباحية المشروعة...
و الله المستعان!
أخوكم : أبو محمد الطيب بن محمد العامري الجزائري.
ضحى الجمعة 07 جمادى الآخرة 1431هـ
وفقَ 21 ماي 2010 م