في كتابه "للحق والحقيقة" قال تحت عنوان: "بواعث القتال في الإسلام":

قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أُمِرت أن أقاتل الناس حتَّى يشهدوا أنْ لا إله إلا الله، ويُقيموا الصَّلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منِّي دماءهم وأموالَهم، إلاَّ بحقِّها، وحسابُهم على الله)).
لو لَمْ يرد في الجهاد غيرُ هذا الحديث لكفى ردًّا على المهزومين القائلين بأنَّ مشروعية الجهاد للدِّفاع فقط، فقد توهَّم بعضُهم أنَّ القتال في الإسلام لم يُشْرَع إلاَّ للدِّفاع؛ آخِذًا بظاهر الآية الكريمة: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم ْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190]، وخصوصًا بعض الكُتَّاب في هذا الزمان من الذين يدفعون عن الإسلام - بِزَعمهم - وَصْمة الإفرنج بأنه دينٌ قام على القوَّة والسيف، لا على الحجة والاقتناع، فقد ضبعتهم الدعاية الفاجرة، فأخَذوا في سبيل الدِّفاع عن الإسلام يزعمون أنَّ المسلمين صعاليك، لم يُؤمَروا بالجهاد إلاَّ للدِّفاع!
نعَم، لقد أعْمَتْهم الدعاية عن فَهْم النُّصوص، بل حتَّى عن طبيعة الحال؛ لأنَّ الدفاع أمر فطري، وقد كان بإمكانِهم أن يردُّوا عليهم من واقعِهم الخبيث، فهم الذين فجَّروا الحروب الصليبيَّة التي لا تزال آثارُها السيِّئة إلى اليوم، وهم الذين تَمْخر آلاتُهم الحربيَّة عباب البِحَار، وتَعْبُر جنودُهم ومعدَّاتُهم البراري لاسْتعمار الشعوب، واستغلال خَيْراتِها، وإفساد أخلاقها، وتذويب عقيدتها، وإرهاق بلادها، بينما يُقاتل المسلمون في سبيل الله؛ لإعلاء كلمته، وإقامة حُكْمه المُصْلِح لأهل الأرض، وقَمْع المفترين على الله، والمتسلِّطين على عباده بالقهر والإرهاب، وتحرير الشُّعوب من عبادة الأشخاص إلى عبادة الله، وإصلاح أخلاقهم إصلاحًا ينفعهم في الدِّين والدُّنيا.
لقد شهد كبار المؤرِّخين بالفاتح العربي، فقالوا: لم يعرف التاريخ فاتحًا أرحمَ من العرب، ولا أنفع للأُمَم المغلوبة، بدليل عدم خروج الأُمَم الأخرى من نطاق دولة الإسلام بعد أن دخلَتْ فيها، مع أنَّ الفرصة كانت سانِحَة في كثير من مراحل التاريخ الإسلامي، وهذا في حدِّ ذاته يُعدُّ دليلاً على أن الزَّحف الإسلامي زحْفٌ مقدَّس مَحبوب، بِخِلاف الزَّحف الوثَنِي الاستغلالي الاستعماري؛ ولِهَذا أمر الله - سبحانه وتعالى - نبيَّه - عليه الصَّلاة والسلام - أن يُجاهد مع المسلمين، ويقاتِلَ لرفع الظُّلم، ولِرَفْع كلمة الله في الأرض، ونشر الهداية والخير لبني البشَر.
ولا يُعاب الإسلام إذا أمر أهله بقتال أعدائه الذين يُحاربونه عسكريًّا وفِكْريًّا، ويُشكِّلون خطرًا على العقيدة، وأَمْن البلاد، ولا يُعاب عليه قتال المُفْتَرين على الله بتحريف وحْيِه، وانتقاصهم لِجَنابه الكريم، بِزَعْمِهم أنَّ له ولدًا، ونَقْضِهم لعهده المأخوذ عليهم من العلم بالتَّوراة والإنجيل المبشِّرَيْنِ بِمُحمَّد، والدَّاعيَيْن إلى وجوب الإيمان به.
ألاَ يستحقُّ القتالَ - لتأديبِه وإرغامه - كلُّ مَن أساء إلى حاكم من حُكَّام البشر، أو نقض عهده؟! فكيف بالمُؤْذِين لله والنَّاقضين عهودَه؟! إنَّ قتالَهم مِن أوجب الواجبات حتَّى يَفِيئوا إلى أمر الله، أو يُعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون؛ جزاءً وفاقًا، فما الحاجة إلى الالتواء في جواب المدَّعين: إنَّ مشروعية القتال للدِّفاع؟!
فمشروعيَّة الْجِهاد، وقِتال الكُفَّار، ليست للدِّفاع عن الأرض، ولا عن مُجرَّد الاستبقاء على النَّفْس، فإنَّ الأرض بِذاتِها لا اعتبار لَها ولا قيمة في الحُكْم الإسلامي إلاَّ بِقَدر ما يَقُوم بِها من سُلطان الدِّين، وتنفيذ شريعته، بِحَيث تكون محضنًا للإسلام، ومستقَرًّا لمنهجه، ومنطلَقًا لِمَدِّه من كل ناحية.
ولِهذا جعل الله الغاية من القتال زوالَ الفتنة عن الدِّين؛ لأنَّ قيمة العقيدة في القتال من أَجْلِها، والْمُوالاة والْمُعاداة في سبيلها، فالْجِناية على العقيدة أشدُّ من الجناية على النَّفْس والمال والوطن، وعليه؛ فلا تجوز مُسالَمة الجاني على العقيدة بِمُختلف الْمَطاعن في أيِّ وسيلة من وسائل النَّشر الظَّاهر، أو الدسِّ الخفيِّ في وسائل التَّعليم، وإنْ أبدى الْمُسالَمة والمصادقة رعاية لمصالِحه، فلا يجوز للقيادة الإسلامية ترْكُه يستجمُّ وينمو على حساب العقيدة أبدًا.
قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193].
فهذا أمْرٌ منه للمسلمين بتحطيم جَميع القُوَى المادِّية التي تَعْترض الزَّحف بالدَّعوة، وتقف في وجه المدِّ الإسلامي، سواء القُوَى الطبَقيَّة، أو القُوَى السِّياسية المحيطة بالجزيرة العربيَّة مِمَّن تُكَرِّس عبوديَّة الإنسان للإنسان، وتَحُول بينهم وبين حَصْر العبودية لله وحده، والتي تعمل على تَخْبيط الأدمغة بالتلبيس الفِكْري الذي فِتْنَتُه أشدُّ من القتل، وسبب غلطة كُتَّابنا - سامَحهم الله - كامِنٌ في خَلْطهم بين قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]، وبَيْن بواعث الجهاد الَّتِي هي تحرير الناس من عبادة الطَّواغيت المُسَيطرين على أبدانهم وعقولهم، ومطاردة شياطين الإنس من الطواغيت وأعوانِهم، وتحطيم سُلطانهم الذي فرضوه على الناس، وتقرير ألوهيَّة الله وحده في الأرض، وألاَّ يحكمهم أحد من البشر بأهوائه ونزواته التي يفرضها بلا برهان من الله؛ لِتَحصُل الحرِّية الكاملة للناس في سلوك ما يَختارون، مع قاعدة عدم الإكراه في الدِّين، فلا تَعارُض بينهما، ولا مَجال للالتباس فيهما، ولكنَّ المستشرقين الْخُبثاء وتلاميذَهم خلطوا بينهما؛ للتلبيس، حتَّى انتصب الكُتَّاب للدِّفاع عن الإسلام بأسلوب بعيدٍ عن واقعه.