طَرَائِفُ الْأَدَبِ مِنْ لَهَجِاتِ الْعَرَبِ (الْجُزْءُ الثَّانِي)
قبل عام مضى كتبت الجزء الأول من طرائف لهجات العرب، ولم أكن أتوقع أن يحظى بكل هذا الاهتمام من قبل الناس، فقد تناقلوه في منتدياتهم، ونشروه على صفحات المواقع، والعَلّامة "قوقل" يشهد لما أقول، هذا الأمر دفعني لكتابة الجزء الثاني الذي سأخصصه لدراسة كلمات من اللهجات العربية، وتحليلها، والموازنة بينها، علّني أقدم لكم المفيد الطريف في هذا الباب، فمن هذا كلمات التحبب (تُأْبُرْنِي) و(فَدَيْتُكَ) و(يا بعد رأسي)، وكلمات إجابة الطلب (حَاضرين) و(من عيني) و(على عيني) و(على خَشْمِي) و(أَبْشِر)، وكلمات الغضب (جبْ) و(اُسْكُتْ) و(اِخْرَسْ)، وكلمات الأسف والحسرة وخيبة الأمل (اِخْسَ عَلَيْك) و(أَفَاعَلَيْك) و(يَا عَيْبَ الشُّوم عَلَيْك)، وألفاظ السخرية (مَسْخَرَهُ) و(هَزّأَهُ) و(بَهْدَلَهُ):
أولاً_ كلمات التحبب (تُأْبُرْنِي أي: تَقْبُرَنِي) و(فَدَيْتُكَ) و(يا بعد رأسي):من كلمات التحبب المستخدمة في اللهجة الشامية (تُأْبُرْنِي) وأصلها (تَقْبُرَنِي) أي: تدفنّي في القبر، والمعنى المراد منها: جعلني الله فداءك، ويقابلها في اللهجة الخليجية (فَدَيْتُكَ)، أو(يا بعد رأسي)، والخليجية هنا _في رأيي_ أفضل من الشامية؛ لأن الفداء بالنفس ورد في كلام البلغاء كما في شعر حسان وعمر بن أبي ربيعة حين قال:اِذْهَبْ _فَدَيْتُكَ_ غَيْرَ مُبْتَعِدِ ... لَا كَانَ هَذَا آخَرَ الْعَهْدِ
وأما (تقبرني) فلا أراها بمستوى (فَدَيْتُكَ) في العذوبة والرقة، واسمع إلى قول القائل:
فَاحْكُمْ _فَدَيْتُكَ_ بَيْنَ جِسْمِيَ وَالْهَوَى... فَالْحُكْمُ مِنْكَ عَلَى الْجَوَارِحِ مَاضِ
وَارْحَمْ جُفُوناً مَا تَجِفُّ مِنَ الْبُكَا ......................... في ليلةٍ مَسْلُوبَةِ الإغْمَاضِ
ولم أجد في اللهجة المصرية ما يقابل (فديتك)، أو(تقبرني)، ولعل الإخوة في مصر أراحوا أنفسهم من المجاملات، وأخذوا بقول القائل: (ألف أم تبكي، ولا أمي تبكي).
ثانياً_ كلمات إجابة الطلب (حَاضرين) و(من عيني) و(على عيني) و(على خَشْمِي) و(أَبْشِر): إذا طلبت من أحدهم شيئاً، فالجواب يكون في مصر بقولهم: (حاضرين). وفي الشام يقولون: (من عيني). وفي رواية (على عيني). وفي الخليج يقولون: (على خشمي) أو (أَبْشِر). وكل هذه الألفاظ فصيحة وصحيحة، وأفضِّل في هذا المقام اللهجة الشامية (من عيني) على اللهجات الأخرى، لأن العين أكرم الأعضاء، وعبارة (من عيني) ألطف من عبارة (على خشمي)، وعبارة (حاضرين). وقد قال الشاعر قديماً:
وَهَبْتُ قَلْبِي لَهُ، فَقَالَ عَسَى . ..... . دَمْعَكَ أيْضاً، فَقُلْتُ: مِنْ عَيْنِي
وقال ذو الرمة:تَصَرَّفُ أهوَاءُ القُلُوبِ، وَلا أرَى ... نَصِيبَك مِنْ عَيْنِي لِغَيرِك يُمنَحُ
ثالثاً_ كلمات الغضب (جبْ) و(اُسْكُتْ) و(اِخْرَسْ): في حالة الغضب يقول الطرف الأول للطرف الثاني (جَبْ) في اللهجة الخليجية، وقد يرد عليه الطرف الثاني إذا أسعفته شجاعته (أنت جَبْ)، وهذه اللفظة فصيحة، أصلها (كب). قال ابن منظور:(كَبَّ الشيءَ يَكُبُّه... وكَبَّه لوجهه فانْكَبَّ أَي: صَرَعَه، و...يقال: كَبَّ اللّه عَدُوَّ المسلمين). لسان العرب_مادة _كبب.
وفي اللهجة الشامية يقال عند الغضب (اُسْكُتْ)، ويشبعون حركة الكاف المضمومة فيصبح اللفظ"اسْكوت". وفي اللهجة المصرية يقابلها (اِخْرَسْ) وفي رواية أشد (قطع لسانك)، وجميع هذه الألفاظ صحيحة وفصيحة، ولكن لا ننصح باستخدامها، وخير منها كلها (لا تغضب).
رابعاً_كلمات الأسف والحسرة وخيبة الأمل (اِخْسَ عَلَيْك) و(أَفَاعَلَيْك) و(يَا عَيْبَ الشُّوم عَلَيْك):هذه الكلمات كلها صحيحة _بنظري_ فعبارة (اخس عليك) في اللهجة المصرية جاء في لسان العرب حولها: (العرب تقول: أَخَسَّ اللَّهُ حَظَّه... إِذا لم يكن ذا جَدٍّ ولا حَظٍّ في الدنيا،... وأَخسَّ فلانٌ إِذا جاء بخَسِيس من الأَفعال). وأما في اللهجة الخليجية فيقولون: (أَفَا عَلَيْك). وهي صحيحة أيضاً لأن لفظ (أف) فيه عشرات اللغات عند العرب قال في القاموس المحيط :( أَفَّ يَؤُفُّ ويَئِفُّ تَأَفَّفَ من كَرْبٍ أو ضَجَرٍ. وأُفِّ كَلِمَةُ تَكَرُّهٍ...ولُغ تُها أربعون)، و(يا عيب الشوم) في اللهجة الشامية، ومعناها عار الشؤم يلحق بك إن فعلت هذا.
خامساً_ألفاظ السخرية (مَسْخَرَهُ) و(هَزّأَهُ) و(بَهْدَلَهُ):
إذا استهزأ شخص بآخر يقال (مَسْخَرَهُ) في اللهجة الخليجية أي جعله: مسخرة. وفي المصرية يقال: (هَزّأَهُ). واللفظان صحيحان، وفي اللهجة الشامية يقال: (بَهْدَلَهُ). والبَهْدَلة معناها: الخِفَّة. وهذا المعنى موجود في كثير من كتب العربية، والمراد بـ(بَهْدَلَهُ): استخف به، وهزأه. ومجمع اللغة العربية في القاهرة اعتبر (بهدل) محدثة ولم يقرها، وعلى كل حال نحن ننصح بما هو أفضل من هذه الكلمات كلها، إننا ننصح بالأخذ بالآية الكريمة: (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ).
وفي هذا القدر كفاية، على أمل اللقاء في دراسات وبحوث قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.