أجد صعوبة في التحدث والكتابة بالفصحى؟!

أيمـن بن أحمـد ذو الغـنى


* السؤال :


(( أنا معلمة لغة عربية ولكني أجد صعوبة في التحدث والكتابة باللغة الفصيحة!! ما السبيل لإجادتها وجزاكم الله خيرًا.))

* الجواب:

((أختنا الكريمة، نحييك ونشكر ثقتك الغالية بموقعك الألوكة،
ونحيي فيك اهتمامك، وحرصك على تطوير ذاتك، والارتقاء بمهاراتك وقدراتك..

لا شك أن إتقان التحدث والكتابة بالفصحى أمر ضروري جدًّا، لأبناء العرب عمومًا، وللمتخصصين باللغة العربية خصوصًا. ومن غير اللائق أن نجد في طلابنا وأبنائنا من لا يتقن التحدث والكتابة بالعربية، التي يُفترض أن يرضعها الجميع مع لبان أمهاتهم.

وسأذكر بين يدي الإجابة بعض الأمور توطئة لها وتمهيدًا:
• لا يُعد المرء متقنًا لغة ما -أيَّ لغة- ما لم يتقن مهاراتها الأربع: القراءة، والكتابة، والتحدث، والفهم.

• يُفترَض بمعلمي اللغة العربية أن يكونوا قدوة لطلابهم في فصاحة اللسان والقدرة على الإبانة، وإذا كان لا يَحسُن بالمعلمين للموادِّ العلمية أن يدرِّسوا بغير الفصحى التي هي لغة الكتاب المدرسي، فإن من العار أن تدرَّس مادة اللغة العربية بغير الفصحى!

• في الوقت نفسه أعذِر كل من لا يتقن التحدُّث بالفصحى بعض العذر؛ لأننا أبناءَ العرب نشأنا في بيئات فشت فيها العامية، على اختلاف العاميَّات، فاكتسبناها في مرحلة الاكتساب الفطري للغة، بدلَ أن نكتسبَ لغة ديننا وتراثنا وتاريخنا وحضارتنا؛ الفصحى!

• كان يُفترَض أن يكون في مقرَّراتنا المدرسيَّة مادة (محادثة باللغة العربيَّة)، يدرَّب الطلابُ في حصصها على الحوار والحديث، واستعمال اللغة عمليًّا؛ إذ لا يجوز الاكتفاء بتدريس القواعد والنحو العربي. ومن الغريب حقًّا أن مادة المحادثة مفقودة أيضًا في المناهج الجامعيَّة، أي أن طلابنا المتخصصين باللغة العربية يتخرَّجون في الجامعة دون أن يُدرَّبوا على المحادثة، ولو لساعة واحدة! في حين إذا انتسب أحدنا إلى أيِّ معهد لتعليم اللغات الأجنبية فإنه سيجد مادة المحادثة مقرَّرة جنبًا إلى جنب مع مادة القواعد.

• يُقال: فاقد الشيء لا يعطيه، فإذا كنا لا ندرَّب على استعمال العربية الفصحى في كلامنا استعمالاً صحيحًا بيِّنًا، فكيف نُطالَب بالتدريس بالفصحى؟!
لا شك أنها مشكلة، ولكننا لا يمكن -ولا يجوز لنا- أن نرضى بهذا الواقع، ولا أن نستسلمَ له.

• يظن بعض الناس أن دراسة النحو والقواعد تكفي لإقامة اللسان، وهذا غير صحيح، إذ النحو لا يُعلم اللغة، ومن أراد أن يحسن اللغة فسبيله استظهار روائعها، لا قراءة النحو واستظهار مسائله! ((إن إحسان اللغة إنما يكون في مصاحبة القرآن، والحديث، ونهج البلاغة، وديوان زهير، وجرير والفرزدق والأخطل، وبشار وأبي العتاهية، وأبي تمام والبحتري والمتنبي، وفي ملازمة الجاحظ، وأسألكَ بالله أن تستمسكَ بكتب الجاحظ، فإنها يَنبوع لغة وأدب لا ينضب، وفي ملازمة الأغاني فإنه مدرسةٌ لطواعية المفردات، في مواضعها من جَزل التراكيب. فاستظهر الروائع من كلِّ ذلك، واحفظها عن ظهر قلب كما تحفظ اسمَك. وأما النحو فيعلِّمك النحوَ، وشيئًا من القواعد..)). [عن مقدمة كتاب ((الكفاف)) ليوسف الصيداوي ص55- 56].

• ذكر العلامة ابن خلدون في مقدمته الشهيرة، سبلَ اكتساب ملكة اللغة فقال: ((اعلم أن ملكة اللسان المضريِّ لهذا العهد قد ذهبت وفسدت... إلاّ أن اللغات لما كانت ملكات... كان تعلُّمها ممكنًا شأن سائر الملكات. ووجهُ التعليم لمن يبتغي هذه الملكة ويروم تحصيلها أن يأخذَ نفسه بحفظ كلامهم القديم الجاري على أساليبهم من القرآن، والحديث، وكلام السلف، ومخاطبات فحول العرب في أسجاعهم وأشعارهم، وكلمات المولَّدين أيضًا في سائر فنونهم، وحتى يتنَزَّل لكثرة حفظه لكلامهم من المنظوم والمنثور مَنْزلةَ من نشأ بينهم ولُقِّن العبارةَ عن المقاصد منهم، ثم يتصرَّف بعد ذلك في التعبير عمَّا في ضميره على حسب عباراتهم، وتأليف كلماتهم، وما وعاه وحفظه من أساليبهم وترتيب ألفاظهم، فتحصلُ له هذه الملكة بهذا الحفظ والاستعمال، ويزداد بكثرتهما رسوخًا وقوة)). [مقدمة ابن خلدون 3/1285-1286].

• يقول الدكتور محمد حسان الطيان العضو المراسل في مجمع اللغة العربية بدمشق: ((الفصاحة معاناة ومزاولة، تشترك فيها جميع الحواسِّ والمدارك، تبدأ بالسماع وتمرُّ بالقراءة لتنتهي بالكتابة والكلام الفصيح، فهي عمل متواصل للأذن والعين واليد واللسان، إذ هي تمرّس وتدريب يتبع الاكتساب والتحصيل، ولا يغني فيها اكتساب عن تمرُّس، ولا تحصيل عن تدريب، إنما تحصل بمجموع ذلك كله، ولعل أثر التمرّس والتدريب أكبر من أثر التحصيل والاكتساب لما لهما من أهمية في نمو ملكة اللغة وتثبيت أركانها وتوطيد دعائمها، وكلما أكثر المرء من استعمال لسانه في ضروب من الفصاحة كان ذلك أطلقَ للسانه وأبلغ لبيانه وأعودَ عليه بزيادتها وبلوغ الغاية فيها)).

مما تقدَّم يظهر أن ملكة اللغة يمكن أن تحصَّل ببذل الجهد، وكثرة الحفظ والمطالعة للفصيح من الكلام، وبتدريب اللسان على التحدث بالفصحى واستعمال العربية السليمة.

ومن ثَم فإنني أنصح لك أختنا الفاضلة باتباع الخطوات الآتية:
1- يجب أن تعزمي عزمًا أكيدًا على إتقان التحدث بالفصحى، ومع الإرادة الصلبة والرغبة الجادَّة تهون كل عقبة.

2- لابد من تدريب اللسان على النطق بالفصحى، وتكون البداية بقراءة الكتب الجيدة، ذات الأساليب المشرقة، المضبوطة ضبطًا تامًّا سليمًا، قراءة بصوت مسموع.
ومن الكتب التي أقترحها عليك: صور من حياة الصحابة، وصور من حياة التابعين، كلاهما لعبدالرحمن رأفت الباشا (طبعة دار الأدب الإسلامي). والنظرات والعبرات لمصطفى لطفي المنفلوطي (الطبعة التي اعتنى بضبطها: بسام الجابي). ونصوص الأدب في الكتب المدرسيَّة تفي بالغرض أيضًا.

3- بعد الإكثار من قراءة النصوص المضبوطة بصوت مسموع، ابدئي في قراءة المقالات والقصص غير المضبوطة، على مسمع زميلة لك متقنة للعربية، تتابع قراءتك في نسخة أخرى، وتضع خطوطًا تحت الألفاظ التي لحنتِ في ضبطها. وبعد فراغك من قراءة النص تعرض عليك الأخطاء، وتعودين إلى قراءة الجمل التي أخطأتِ فيها على الصواب، وتكررينها مرات ليرسخ الصواب في الذهن.

4- حين تأنسين من نفسك إتقان قراءة النصوص غير المشكولة رسمًا، قراءةً صحيحة مضبوطة نطقًا، انتقلي إلى المرحلة التالية، وهي إلقاء قصص أو موضوعات أو دروس قصيرة في حضور زميلة لك متقنة، والتزمي في إلقائك الفصاحة وتحريك أواخر الكلمات بالحركات الصحيحة، وتقوم زميلتك بتسجيل العبارات التي أخطأتِ فيها، وبعد إتمامك الإلقاء تعرض عليك الأخطاء، فتعيدين العبارات على وجهها الصحيح وتكررينها مرات، حتى تستقر في ذهنك وأذنك على الصواب.

5- بعد هذه المراحل من التدريب ابدئي في تعويد لسانك التواصل مع زميلاتك -وبخاصة مدرِّسات اللغة العربية- بالفصحى، وابذلي من الجهد الغاية في التزامها داخل الفصل عند إلقاء الدروس وفي التواصل مع طالباتك، واعملي على تحبيب العربية إليهن، والأخذ بأيديهن شيئًا فشيئًا إلى إتقان المحادثة، وخصصي في بداية بعض الحصص وقتًا لحوارات تجرينها معهن بالعربية الفصيحة.

6- اجعلي الكتاب صديقًا دائمًا لك، واقتطعي وقتًا ثابتًا يوميًّا يخصَّص للقراءة، وانتقي من الكتب أفضلها، ومن القصص أحسنها، وأرغبك بكتب عدد من أئمة البيان المعاصرين مثل: مصطفى صادق الرافعي، وأحمد حسن الزيات، وعلي الطنطاوي، ومحمود محمد شاكر، ومحمود الطناحي.. وقبل كل هذا عليك بالوحيين القرآن الكريم وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ كل الخير فيهما.

7- وأنصحك بالانتساب إلى إحدى الدورات التدريبية على المحادثة التي يقيمها الدكتور عبدالله الدنَّان رائد تعليم الفصحى في العالم العربي بالفطرة والممارسة، أو أحد المدرِّبين المعتمدين من قبله في بلدك.

هذا ما يخص التحدث، أما إتقان الكتابة بأسلوب بليغ مبين، فيتطلب أيضًا الكثير من الدُّربة والمرانة، وأولى خطوات هذه السبيل كثرة القراءة الواعية لذوي الأساليب العالية المشرقة الرصينة. ثم بذل الجهد في تعويد النفس تدوينَ الخواطر، وكل ما يجيش في القلب من مشاعر، وعرض المكتوب على بعض الأدباء والمتمكنين من الأساليب ليبدوا ملاحظاتهم على ما كتبتِ.

ويمكن أن تختاري موضوعًا كتب فيه أحد الأدباء الأفاضل المتمكنين، فتنشئي في الموضوع نفسه مقالة، ثم توازني بين نصِّك ونص الأديب.

إنني لواثق إذا ما خطوت هذه الخطوات أن تجدي نفسك قد ارتقيت في قدراتك، وصرت قادرة على الحديث بالفصحى بطلاقة وسلامة، وكذلك التعبير عن مكنونات نفسك أحكم تعبير وأجمله.

نشكر لك أختنا الفاضلة تواصلك مع الألوكة.

ونسأل الله لك التوفيق في تحقيق ما تصبو إليه نفسك.

والحمد لله أولاً وآخرًا. ))

المصدر: الألوكة.