بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فبعد أن رأيتُ كلام الكثير في الإمام النسائي، وبعد قرأتي لكتاب الخصائص فقد رأيتُ أن أُبين ما توصلتُ إليه وما قيل فيه، والله أسأل التوفيق والسداد.
ترجمة الإمام النسائي.
اسمه ومولده:
هو الإمام الحافظ الثبت، شيخ الإسلام، ناقد الحديث، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب ابن علي بن سنان بن بحر بن دينار، الخرساني، النَّسَائي، القاضي.
وقد ذكر ابن خلكان، وابن كثير أنه: أحمد بن علي بن شعيب([1]).
والقول الأول هو الصحيح، وذلك لأمرين:
الأول: وهم ابن خلكان فقد خالف الكثير ممن ترجم للنسائي، وأخذه عنه ابن كثير فهو ينقل عنه كثيراً في تاريخه.
الثاني: أن الطحاوي، والطبراني، وهما من تلاميذ الإمام النسائي قد سمياه أحمد بن شعيب بن علي([2]).
أما مولده فقد ولد بنسا في سنة خمس عشرة ومئتين.
وكانت ولادته بمدينة نساء والنسبة الصحيحة إليها نسائي وقيل: نسوي أيضاً وكان من الواجب كسر النون وهي مدينة بخراسان بينها وبين سرخس يومان وبينها وبين مرو خمسة أيام وبين أبيورد يوم وبين نيسابور ستة أو سبعة([3]).
رحلته في طلب العلم:
وطلب العلم في صغره، فارتحل إلى قتيبة في سنة ثلاثين ومئتين، فأقام عنده ببغلان سنة، فأكثر عنه.
جال في طلب العلم في خراسان، والحجاز، ومصر، والعراق، والجزيرة، والشام، والثغور، ثم استوطن مصر، ورحل الحفاظ إليه، ولم يبق له نظير في هذا الشأن([4]).
وفاته:
فبعد حياة حافلة بالعلم والعبادة توفي الإمام الحافظ أبو عبد الرحمن النسائي في يوم الأثنين لثلاث عشرة خلت من صفر سنة ثلاث وثلاثمائة في مدينة الرملة التي كانت تعد عاصمة فلسطين آنذاك عن ثمان وثمانين سنة.
وقيل: إنه لما امتحن في بدمشق وضرب وأخرج حُمل إلى مكة ومات بها، وهو قول الدارقطني، وذكره الحاكم عن محمد بن إسحاق الأصبهاني عن مشايخه المصريين([5]).
والقول الأول هو الصحيح، وهو قول ابن يونس، والطحاوي.
قال الذهبي: ((قال أبو سعيد ابن يونس في "تاريخه": كان أبو عبد الرحمن النسائي إماماً حافظاً ثبتاً، خرج من مصر في شهر ذي القعدة من سنة أثنتين وثلاث مئة، وتوفي بفلسطين ... .
قلت –أي الذهبي- : هذا أصح، فإن ابن يونس حافظ يقظ، وقد أخذ عن النسائي، وهو به عارف))([6]).
ورجحه كذلك ابن كثير في تاريخه([7])، وكذلك ياقوت الحموي([8]).
ثناء العلماء عليه:
لقد احتل هذا العالم الكبير مكانة عالية بين من عاصره، حتى استحق الثناء الكبير من النقاد الكبار، فلم يكن له نظير في زمانه، وهذا بعض كلام الأئمة عنه.
قال الحاكم: ((سمعت علي بن عُمَر الحافظ غير مرة يقول : أبو عبد الرحمن مقدم على كل من يذكر بهذا العلم من أهل عصره)).
وقال أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي الصوفي: ((سألت أبا الحسن علي بن عُمَر الدارقطني الحافظ، فقلت: إذا حدث محمد بن إسحاق بن خزيمة وأحمد بن شعيب النَّسَائي حديثًا من تقدم منهما ؟ قال: النسائي لأنه أسند، على أني لا أقدم على النسائي أحدا وإن كان ابن خزيمة إماماً ثبتاً معدوم النظير)).
وقال الدارقطني: ((أبو عبد الرحمن مقدم على كل من يذكر بهذا العلم من أهل عصره)).
وقال المزي: ((أحد الأئمة المبرزين والحفاظ المتقنين والأعلام المشهورين))([9]).
وقال الذهبي: ((وكان من بحور العلم، مع الفهم، والإتقان، والبصر، ونقد الرجال، وحسن التأليف))([10]).
مؤلفاته:
1- التفسير.
2- خصائص علي رضي الله عنه، وهو داخل في السنن الكبرى.
3- الضعفاء.
4- عمل اليوم والليلة، وهو من جملة السنن الكبرى. (في بعض النسخ).
5- الكنى، وهو كتاب حافل.
6- المجتبى (السنن الصغرى)، وهو على خلاف هل هو للنسائي، أم لتلميذه ابن السني.
7- مسند علي.
8- مسند مالك([11]).
كتاب الخصائص وما أخذ عليه.
إن كتاب الخصائص من الكتب التي اعتنى بها علماء أهل السنة حتى قال الحافظ ابن حجر: ((وأوعب من جمع مناقبه من الأحاديث الجياد النسائي في كتاب "الخصائص"))([12]).
قال ابن تيمية: ((النسائي فإنه صنف خصائص علي وذكر فيها عدة أحاديث ضعيفة))([13]).
فلا تعارض بين كلام ابن حجر وابن تيمية في وصف كتاب الخصائص، إذ لا يلزم من كلام ابن حجر أن في كتاب الخصائص أحاديث ليست ضعيفة، ولا يلزم من كلام ابن تيمية أنه لا توجد أحاديث صحيحة، إذ قد صح من الأحاديث في كتاب الخصائص ما يقارب ثلثي الكتاب كما حققه من اعتنى بالكتاب.
وكان سبب تصنيف الإمام النسائي لكتابه الخصائص هو أنه: عندما دخل دمشق ووجد المنحرفين عن علي بها كثير، فصنف كتاب "الخصائص" ليبين فضل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكذلك رجاء أن يهديهم الله تعالى.
قال أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب: ((سمعت قوماً ينكرون عليه كتاب "الخصائص" لعلي رضي الله عنه وتركه لتصنيف فضائل أبي بكر وعُمَر وعثمان رضي الله عنهم، ولم يكن في ذلك الوقت صنفها، فحكيت له ما سمعت، فقال: دخلنا إلى دمشق والمنحرف عن علي بها كثير، فصنفت كتاب "الخصائص" رجاء أن يهديهم الله.
ثم صنف بعد ذلك فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرأها على الناس، وقيل له وأنا حاضر: ألا تخرج فضائل معاوية ؟ فقال: أي شيء أخرج ؟ ! "اللهم لا تشبع بطنه" ! وسكت وسكت السائل))([14]).
فكان كتاب خصائص علي بن أبي طالب رضي الله عنه من الأمور التي أخذت على الإمام النسائي واتهموه بالتشيع، وكذلك غضه من معاوية رضي الله عنه، وعدم ذكر فضائله، وممن تكلم في الإمام النسائي هم:
1- ابن تيمية في معرض كلامه عن الحاكم قال: ((وتشيع أمثاله من أهل العلم بالحديث كالنسائي وابن عبد البر وأمثالهما لا يبلغ إلى تفضيله على أبي بكر و عمر فلا يعرف في علماء الحديث من يفضله عليهما بل غاية المتشيع منهم أن يفضله على عثمان أو يحصل منه كلام أو إعراض عن ذكر محاسن من قاتله ونحو ذلك))([15]).
2- الذهبي: ((إلا أن فيه قليل تشيع وانحراف عن خصوم الإمام علي، كمعاوية وعمرو، والله يسامحه))([16]).
3- ابن كثير: ((وقد قيل عنه: إنه كان ينسب إليه شيء من التشيع))([17]).
4- ابن خلكان قال: ((قال محمد بن إسحاق الأصبهاني: سمعت مشايخنا بمصر يقولون: إن أبا عبد الرحمن فارق مصر في آخر عمره، وخرج إلى دمشق، فسئل عن معاوية وما روي من فضائله، فقال: أما يرضى معاوية أن يخرج رأساً برأس، حتى يفضل وفي رواية أخرى: ما أعرف له فضيلة إلا لا أشبع الله بطنك. وكان يتشيع))([18]).
فلا بد أن نعرف أولاً ما معنى التشيع الذي قصده وما الذي دعاهم إلى القول في الإمام النسائي أنه تشيع، أو فيه تشيع.
من هو الشيعي:
وقال ابن حجر: ((والتشيع محبة علي وتقديمه على الصحابة فمن قدمه على أبي بكر وعمر فهو غال في تشيعه ويطلق عليه رافضي وإلا فشيعي فإن أنضاف إلى ذلك السب أو التصريح بالبغض فغال في الرفض وإن اعتقد الرجعة إلى الدنيا فأشد في الغلو))([19]).
فقد قسم الحافظ ابن حجر التشيع إلى أربعة أقسام وهي:
1- تقديم علي رضي الله عنه على عثمان رضي الله عنه.
2- تقديم علي رضي الله عنه على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فهذا غلو بالتشيع ويطلق عليه رافضي.
3- إن فيه السب والتصريح بالبغض فهذا غال بالرفض.
4- إن اعتقد الرجعة إلى الدنيا فهذا أشد في الغلو.
أما ابن تيمية كما تقدم فقد بيّن أن التشيع الحاصل من الإمام النسائي وأمثاله فهو:
1- أما تفضيل علي رضي الله عنه على عثمان رضي الله عنه.
2- وأما أن يحصل منه نوع كلام وليس صريحاً.
3- وأما أن يكون إعراض عن ذكر محاسن من الصحابة من قاتل علي رضي الله عنه.
لهذا بيّن ابن تيمية أن مسألة تقديم علي على عثمان ليست من المسائل التي يضلل صاحبها بها حيث قال: ((ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن غيره، من أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر، ويثلثون بعثمان، ويربعون بعلي رضي الله عنهم كما دلت عليه الآثار، وكما أجمع الصحابة رضي الله عنهم على تقديم عثمان في البيعة، مع أن بعض أهل السنة كانوا قد اختلفوا في عثمان وعلي رضي الله عنهما بعد اتفاقهم على تقديم أبي بكر وعمر أيهما أفضل، فقدم قوم عثمان وسكتوا، أو ربعوا بعلي، وقدم قوم عليًا، وقوم توقفوا، لكن استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان، وإن كانت هذه المسألة مسألة عثمان وعلي ليست من الأصول التي يضلل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة، لكن المسألة التي يضلل المخالف فيها هي مسألة الخلافة .
وذلك أنهم يؤمنون بأن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء الأئمة فهو أضل من حمار أهله))([20]).
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين معلقاً على كلام ابن تيمية: ((فالآراء أربعة:
1- الرأي المشهور: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي.
2- الرأي الثاني: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم السكوت.
3- الرأي الثالث: أبو بكر، ثم عمر، ثم علي، ثم عثمان.
4- الرأي الرابع: أبو بكر، ثم عمر، ثم نتوقف أيهما أفضل: عثمان أو علي، فهم يقولون: لا نقول: عثمان أفضل، ولا علي أفضل، لكن لا نرى أحداً يتقدم على عثمان وعلي في الفضيلة بعد أبي بكر وعمر)).
ثم قال: ((المفاضلة بين عثمان وعلي رضي الله عنهما ليست من أصول أهل السنة التي يضلل فيها المخالف، فمن قال: إن علياً أفضل من عثمان، فلا نقول: إنه ضال، بل نقول: هذا من آراء أهل السنة، ولا نقول فيه شيئاً))([21]).
هذا من حيث العموم أما اتهامهم للنسائي فقد كان مبني على أمرين هما:
1- تصنيفه كتاب خصائص علي ولم يصنف في فضائل الصحابة.
2- غضه لمعاوية.
الجواب عن الأول: أنه صنف كذلك في فضل الصحابة كما تقدم.
أما الجواب عن الثاني فهو من وجهين:
الوجه الأول: أن العالم إذا رأى قوماً قد غلو في رجل فالذي ينبغي أظهار كلمات تبين فيها الغض من ذلك الفاضل حتى يكف الناس عن هذا الغلو.
قال المعلمي اليماني: ((... فلهذا كان من أهل العلم والفضل من إذا رأى جماعة اتبعوا بعض الأفاضل في أمر يرى أنه ليس لهم فيه إما لأن حالهم غير حاله وإما لأنه يراه أخطأ أطلق كلمات يظهر منها الغض من ذاك الفاضل لكي يكف الناس عن الغلو فيه الحامل لهم على إتباعه فيما ليس لهم أن يتبعوه فيه))([22]).
الوجه الثاني: قول النسائي عندما سئل عن معاوية قال: ((إنما الإسلام كدار لها باب، فباب الإسلام الصحابة، فمن آذي الصحابة إنما أراد الإسلام، كمن نقر الباب إنما يريد دخول الدار، قال: فمن أراد معاوية فإنما أراد الصحابة))([23]).
فهذا واضح من الإمام النسائي إجلاله للصحابة، وأنه لم يسيء لمعاوية رضي الله عنه.
أما قول النسائي عندما سئل عن معاوية: ((ألا يرضى معاوية رأساًبرأس حتى يفضل)).
فقد قال ابن عساكر: ((وهذه الحكاية لا تدل على سوء اعتقاد أبي عبد الرحمن في معاوية بن أَبي سفيان، وإنما تدل على الكف في ذكره بكل حال)) ([24]).
وأما قوله عندما سئل في إخراج فضائل معاوية رضي الله عنه قال: إلا تخرج فضائل معاوية رضي الله عنه ؟ فقال: أي شيء أخرج ؟ حديث: " اللهم ! لا تشبع بطنه ".فسكت السائل.
قال الذهبي: ((لعل أن يقال: هذه منقبة لمعاوية لقوله صلى الله عليه وسلم: " اللهم ! من لعنته أو سببته فاجعل ذلك له زكاة ورحمة "))([25]).
فهنا اعرض الإمام النسائي عن ذكر محاسن وفضائل معاوية رضي الله عنه.
وبعد هذا يتبين أن الإمام النسائي إن كان فيه شيء من التشيع فهذا لا يخدش في عقيدته، ولا يخرجه من دائرة أهل السنة والجماعة، ولا هي من المسائل التي يضلل صاحبها.
فهو إذاًَ لم يرَ من الحكمة أن يحدث النواصب بفضائل معاوية رضي الله عنه فيزيدهم تمسكاً ببدعتهم. وكذلك لا يصح تحديث الشيعة بفضائل علي رضي الله عنه، على ما تقدم من كلام العلامة المعلمي اليماني.
وبعد ما تقدم فالذي أراه أن الإمام النسائي كان فيه قليل تشيع رحمه الله تعالى، وهذا كان في كثير من التابعين وتابعيهم من أئمة الحديث، والإمام الذهبي كان دقيق العبارة في ذكر، والله تعالى أعلم.
والحمد لله رب العالمين
[1]- وفيات الأعيان (1/77)، والبداية والنهاية (11/140).
[2]- ينظر: مشكل الآثار (2/115)، المعجم الكبير (2/25).
وكذلك ممن ترجم للنسائي: المزي، تهذيب الكمال (1/328)، والذهبي، سير أعلام النبلاء (14/125)، وتاريخ الإسلام (23/105)، والسمعاني، الأنساب (5/484)، وابن قاضي شهبة (1/6)، وغيرهم.
[3]- ينظر: معجم البلدان (5/282)، لياقوت الحموي.
[4]- ينظر: الذهبي، سير أعلام النبلاء (14/125-127).
[5]- ينظر: المزي، تهذيب الكمال (1/339)، الذهبي، سير أعلام النيلاء (14/133).
[6]-السير (14/133).
[7]- البداية والنهاية (11/140).
[8]- معجم البلدان (5/282).
[9]- تهذيب الكمال (1/329).
[10]- سير أعلام النبلاء (14/127).
[11]- ينظر: الذهبي، سير أعلام النبلاء (14/133)، والسيوطي، طبقات الحفاظ ص59.
[12]- فتح الباري (7/74).
[13]- منهاج السنة (7/126).
[14]- المزي، تهذيب الكمال (1/338).
[15]- منهاج السنة (7/264).
[16]- سير أعلام النبلاء (14/133).
[17]- البداية والنهاية (11/140).
[18]- وفيات الأعيان (1/77).
[19]- هدي الساري ص437.
[20]- مجموع الفتاوى (2/104).
[21]- شرح العقيدة الواسطية ص606.
[22]- التنكيل (1/86).
[23]- المزي، تهذيب الكمال (1/340).
[24]- المصدر السابق (1/339).
[25]- سير أعلام النبلاء (14/130).