محمد سلمان أكبر
خريج: الجامعة العربية أحسن العلوم و وفاق المدارس
الـعربية باكستان، وعضو قسم الحـاسوب، و التأليف
و الترجمة في إقرأ روضة الأطفال ترست.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله رب العالمين و العاقبة للمتقين و الصلاة و السلام على خير خلقه محمد خاتم الأنبياء و المرسلين وعلى آله و صحبه أجمعين.
وبعد، فقد قال الله تعالى في كتابه المجيد: ﴿اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِيْنَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِيْ وَ رَضِيْتُ لَكُمُ الِإسْلاَمَ دِيْناً[1].
نزلت هذه الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة على ما ذكره في عامة التفاسير المتداولة المعتبرة، ما نصه:
حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا داود، عن الشعبي قال: نزلت عليه وهو واقف بعرفة، مقام إبراهيم:﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ[2]
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره:
وقال الإمام أحمد: حدثنا جعفر بن عَوْن، حدثنا أبو العُمَيْس، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين، إنكم تقرءون آية في كتابكم، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا. قال: وأي آية؟ قال قوله: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِيفقال عمر: والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والساعة التي نزلت فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، نزلت عَشية عَرَفَة في يوم جمعة[3].
وكذلك روى القرطبي في تفسيره فقال:
قوله تعالى: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين كان بمكة لم تكن إلا فريضة الصلاة وحدها، فلما قدم المدينة أنزل الله الحلال والحرام إلى أن حج، فلما حج وكمل الدين نزلت هذه الآية: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم الآية، على ما نبينه[4].
فهذا ما كان شيئ من سبب نزول هذه الآية و زمان نزولها ومكانها، مؤجزا من تفاسير المعتبرة المتداولة، ولكن لسنا بصدده، بل نتوجه إلى أمر آخر، أعني: بيان أن هذه الآية هي أصل في تدوين الفقه الإسلامي المشتمل على فلسفة الحياة الإنسانية، كما ذكره الطبري في تفسير هذه الآية، حيث قال:
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: يعني جل ثناؤه بقوله:﴿اليوم أكملت لكم دينكم، اليوم أكملت لكم، أيها المؤمنون، فرائضي عليكم وحدودي، وأمري إياكم ونهيي، وحلالي وحرامي، وتنزيلي من ذلك ما أنزلتُ منه في كتابي، وتبياني ما بيَّنتُ لكم منه بوحيي على لسان رسولي، والأدلة التي نصبتُها لكم على جميع ما بكم الحاجة إليه من أمر دينكم، فأتممتُ لكم جميع ذلك، فلا زيادة فيه بعد هذا اليوم. قالوا: وكان ذلك في يوم عرفة، عام حجَّ النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوَدَاع. وقالوا: لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية شيء من الفرائض، ولا تحليل شيء ولا تحريمه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعش بعد نزول هذه الآية إلا إحدى وثمانين ليلة[5].
ثم ذكر دليل ما ادعاه في السطور السابقة فقال:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"اليوم أكملت لكم دينكم"، وهو الإسلام. قال: أخبر الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان، فلا يحتاجون إلى زيادة أبدًا، وقد أتمه الله عز ذكره فلا ينقصه أبدًا، وقد رضيه الله فلا يَسْخَطه أبدًا[6].
إذ الفقه ليست إلا فهم الكتاب و السنة و ما قضى به الصحابة كلهم أو أحد منهم و لم يكن منهما، وكذلك ما قضى به التابعون لهم بإحسان و لم يكن في المصادر الثلاثة المذكورة آنفاً، فهذا هو ما نحن بصدده، بأن الله تعالى قد بيّن في هذه الآية أصلاً لجميع ما يأمر به و ينهي عنه، هو و رسوله، و أصحاب رسوله و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. و لا شك أن هذه الشريعة قد وصلت إلينا بواسطة هؤلآء الذين نسميهم سلف الصالحين، طبقة بعد طبقة، جيلا بعد جيل.
والعقل الإنساني يعرف بأن للأقرب معرفة تامة بمن كان قبله بنسبة الأبعد، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرف بالله و بدينه بنسبة غيره، ثم معشر الأنبياء، ثم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم من تبعهم، ثم الأقرب فالأقرب، حتى وصلت النوبة إلى أمثالنا.
وقبل هذا قد وصلت النوبة إلى معشر الفقهاء، الأئمة الأربعة وغيرهم من الأكابر، و لا شك هم أعلم بنا بما في الكتاب و السنة، كما أشار إليه الإمام الترمذي، فقال:
وَكَذَلِكَ قَالَ الْفُقَهَاءُ وَهُمْ أَعْلَمُ بِمَعَانِي الْحَدِيثِ[7].
ولذلك نقول و بالله التوفيق: إنهم رزقوا فهم الكتاب و السنة و ما قضى به الصحابة رضي الله عنهم فتفكروا و بذلوا جهدهم لتدوين الشريعة الإسلامية من حيث القانون لنوع الإنساني عموماً وللمسلمين خصوصاً.
وفي ناحية أخرى جعلوا الفلاسفة يرتبون الخطوط لإتباع الناس و قالوا: إن لعمل الناس ثلاث درجات: تهذيب الأخلاق و تدبير المنزل و السياسة المدنية[8].
و الدرجة الأولى أعني تهذيب الأخلاق تتعلق بالفرد الواحد من المجتمع الإنساني سواء كان رجلاً أو امرأة، و يبحث عن ما يتعلق بنفسه دون غيره، مثلاً: عن شخصيته، عن شيمه، عن أخلاقه، عن اعتقاداته، عن عباداته وغير ذلك عن ما يتعلق به خاصة.
أما الثانية أعني تدبير المنزل، فهي تتعلق بما جرى في المنازل و بيوت الناس، من علاقات بعضهم ببعض، و ما لهم و ما عليهم وغير ذلك مما لا بد له في بيت من بيوت المجتمع.
أما الثالثة أعني السياسة المدنية، فهي بما يجري في البلاد عامة، من علاقات بعض البلاد ببعض، و بعض ممالك ببعض، داخلة و خارجة، أمور المتعلق بأهلها، و أنظمة هذه البلاد وغير ذلك مما لا بد منه لتطوير المجتمع إلى النجاح و الفلاح.
وأما الفقهاء فقالوا ما يلي:
اعْلَمْ أَنَّ مَدَارَ أُمُورِ الدِّينِ مُتَعَلِّقٌ بِالِاعْتِقَادَ اتِ، وَالْعِبَادَاتِ ، وَالْمُعَامَلَا تِ، وَالْمَزَاجِرِ، وَالْآدَابِ. فَالِاعْتِقَادَ اتُ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ : الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَالْعِبَادَاتُ خَمْسَةٌ : الصَّلَاةُ، وَالزَّكَاةُ، وَالصَّوْمُ، وَالْحَجُّ، وَالْجِهَادُ. وَالْمُعَامَلَا تُ خَمْسَةٌ : الْمُعَاوَضَاتُ الْمَالِيَّةُ، وَالْمُنَاكَحَا تُ، وَالْمُخَاصِمَا تُ، وَالْأَمَانَاتُ ، وَالتَّرِكَاتُ. وَالْمَزَاجِرُ خَمْسَةٌ : مَزْجَرَةُ قَتْلِ النَّفْسِ، وَمَزْجَرَةُ أَخْذِ الْمَالِ، وَمَزْجَرَةُ هَتْكِ السِّتْرِ، وَمَزْجَرَةُ هَتْكِ الْعِرْضِ، وَمَزْجَرَةُ قَطْعِ الْبَيْضَةِ. وَالْآدَابُ أَرْبَعَةٌ : الْأَخْلَاقُ، وَالشِّيَمُ الْحَسَنَةُ، وَالسِّيَاسَاتُ ، وَالْمُعَاشَرَا تُ. فَالْعِبَادَاتُ ، وَالْمُعَامَلَا تُ ، وَالْمَزَاجِرُ مِنْ قَبِيلِ مَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ دُونَ الْقِسْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ وَقُدِّمَ فِي سَائِرِ كُتُبِ الْفِقْهِ الْعِبَادَاتُ عَلَى الْمُعَامَلَاتِ وَالْمَزَاجِرِ ؛ لِكَوْنِهَا أَهَمَّ مِنْ غَيْرِهَا[9].
فههنا خمسة أشياء: الاعتقاد، و العبادة، و المعاملات، و المزاجرو الآداب.
فعندنا شيئين: تقسيم الفقهاء، و تقسيم الفلاسفة.
أما الثاني فهي مجملة و موجزة لا يمكن التقاط أصدافها إلا لمن كان له يد طولى في علوم الفلسفة و نظرة كاملة في علوم الكتاب و السنة، ولهذا لا نبحث عنها إلا في أمكنة نحتاج إليها.
أما الأولى أعني تقسيم الفقهاء، فهي مفصل، مبين لا يخفى على أحد من له أدنى إلمام بعلوم الكتاب و السنة، كما رأيتم فيما بيان ابن النجيم المصري رحمه الله آنفاً. فلنبينه مؤجزاً لملال ضيق النطاق.
فالأول هو الاعتقادات كما بينه ابن النجيم الآن، لأن الإنسان في أول ملاقاته بهذه الدنيا يحتاج إلى صورة خطية في ذهنه ليمضي حياته حسب ما وجد منها. كما أشار إليه عليه السلام فقال:
حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ تُنْتَجُ الْبَهِيمَةَ هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ.[10]
فالمولود يولد على الفطرة أي الإسلام،فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، أو غير ذلك من الأديان و المذاهب الموجودة في البلدان و الأقطار. فهذه هي الصورة الخطية أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالأب أو الأم، هما أو أحد منهما أول من يعرض بين يدي الأولاد الخطوط التي يمضيان عليها، بأن هذه هي أساس حيات الطفل. فالإسلام هو الدين الذي نجد فيه جميع تفاصيل الخطوط. فالاعتقاد تنشعب منه: الإيمان بالله، و ملائكته، وكتبه، ورسله، و اليوم الآخر، كما بينا آنفاً.
و في بعض الروايات أكثر من هذا، فأجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبرئيل إذا سئله: ما الإيمان؟ فقال عليه السلام: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والبعث من بعد الموت والحساب والقدر خيره وشره وحلوه ومره[11].
فهذا هو ما قد حفظنا باسم «الإيمان المفصل» في ريعان عمرنا: آمنت بالله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر و القدر خيره و شره من الله تعالى و البعث بعد الموت. و لهذه الكلمات أثر نفيس في حياة الإنساني من حيث القول و العمل و إصلاح الفرد الواحد.
ولابد من الإيمان بهذه الأجزاء إذ الأجزاء بأسرها تتوقف بعضها على بعض، ألا ترى إلى من يؤمن بالله و لم يؤمن بالبعث بعد الموت، هل هو مؤمن؟ وكذلك من آمن بالله و لم يؤمن بالرسالة هل هو مؤمن؟ أو آمن بالرسالة و لم يؤمن بالكتب أو بالله هل هو مؤمن؟ لا يقال له مؤمن حتى آمن بجميع أجزاء الاعتقاد، و نعدّه من المؤمنين من أخوتنا، ونجري عليه أحكام الإسلام ونعامله كما نعامله بإخوتنا المسلمين المؤمنين، و إلا فهو ذمي، كافر لا يجري عليه أحكام الإسلام، و لا يكون له ما للمسلمين، و له ما لغير المسلمين في دولة الإسلامية.
و أما العبادة، فهي أيضا تنشعب منه:الصلاة، والزكاة، و الصوم، والحج، و الجهاد.
هذه هي الواجب الثاني على كل مسلم و مسلمة في المجتمع، ليكون جزءاً كاملاً للمجتمع الإنساني فعّالاً غير ناقص، محبا و ممدا لأمثاله، مدافعا عنهم، حتى يكون كل فرد من المجتمع كالمجتمع في رجل واحد، ليصل المجتمع إلى نهاية نحاحه.
و كذلك المعاملات، فهي أيضا تنشعب منه: المعاوضات الماليَّة، والمُناكَحات، والمُخاصِماتُ، والأَمانات، والتَّرِكات. إذ الإنسان إذا يخرج من بيته ليكسب المال فلا بد له أن يعامله معالة مع آخر، مثلا يبيع منه أو يشتري، أو يضاربه مضاربة، أو يؤاجره، أو يستاجره، أو يستصنع، أو يسلم أو غير ذلك من أبواب البيوعات وغيره يدخل تحت المعاوضات المالية.
وكذلك المناكحات، إذا أراد التزويج، أو النكاح، لنفسه أو لمن يتعلق به من الأولاد، و الإخوة و الأخوات، فيدخل جميع هذا تحت كتاب النكاح و الطلاق و الرضاعة و الحضانة و غير ذلك. و لا يخفى عليك ما تحت طيات المخاصمات و الأمانات و التركات، لا نطول هذا البحث لملال الطول.
و أما المزاجر، فهي أيضا تنشعب منه: مَزجَرَةُ قتل النفس، ومزجرة أخذ المال، ومزجرة هتك السّتر، ومزجرة هتْكِ العِرض، ومزجرة قَطْعِ الْبَيْضَةِ، إذ الإنسان إذا خرج من بيته لكسب معيشته أو لأمر آخر فلا يمكن أن يستكمل ما هو بصدده بغير شركة إنسان آخر، لأن الإنسان مدني الطبع و كل من كان هكذا، لا يمكن أن يقطع مفازة الحياة بغير استعانة مثله. وإذا اشترك بعضنا ببعض فيمكن أن يجادل معه، أو يضاربه، أو غير ذلك من
المجادلات و المحاكمات، وقد يبلغ السيل الزُّبى، حتى يصدر من بعضنا مثل ما قد ذكرنا من منشعبات المزاجر. ولهذه الضرورة اتخذ الفقهاء أبوابا ليفصّل فيه جميع ما نحتاج إليه في مثل هذه الحوادث، مثلاً: كتاب الأيمان، الحدود، السرقة، الدعوى، الإقرار، الشهادات، أدب القاضي، وغير ذلك من الغصب و الديات.
و أما الأداب، فهي أيضا تنشعب منه: الأخلاقُ، وَالشِّيَمُ الحسَنَةُ، وَالسِّياساتُ، وَالْمُعَاشَرَا تُ. لأن الإنسان مدني الطبع كما قلنا آنفا، ولا بد له من هذه الكرائم ليبقي المجتمع على هيئة الأمن و السلامة، كما قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ[12].
فلنذكر من تفسير هذه الآية من التفاسير المعتبرة المتداولة، فقال الإمام الطبري:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس : ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ قال: الشعوب: الأنساب. وقوله: ﴿لِتَعَارَفُوا يقول: ليعرف بعضكم بعضا في النسب، يقول تعالى ذكره: إنما جعلنا هذه الشعوب والقبائل لكم أيها الناس، ليعرف بعضكم بعضا في قرب القرابة منه وبعده، لا لفضيلة لكم في ذلك، وقُربة تقرّبكم إلى الله، بل أكرمكم عند الله أتقاكم[13].
وقال ابن كثير:
فجميع الناس في الشرف بالنسبة الطينية إلى آدم وحواء سواء، وإنما يتفاضلون بالأمور الدينية، وهي طاعة الله ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال تعالى بعد النهي عن الغيبة واحتقار بعض الناس بعضًا، منبها على تساويهم في البشرية: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا أي: ليحصل التعارف بينهم، كلٌ يرجع إلى قبيلته[14].
ثم روى حديثا من منتخب عبد بن حميد، فقال:
قال ابن أبي حاتم: حدثنا الربيع بن سليمان، حدثنا أسد بن موسى، حدثنا يحيى بن زكريا القطان، حدثنا موسى بن عبيدة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقته القَصْواء يستلم الأركان بمحجن في يده، فما وجد لها مناخًا في المسجد حتى نزل صلى الله عليه وسلم على أيدي الرجال، فخرج بها إلى بطن المسيل فأنيخت. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبهم على راحلته، فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل ثم قال: "يا أيها الناس، إن الله قد أذهب عنكم عُبِّية الجاهلية وتعظمها بآبائها، فالناس رجلان: رجل بر تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله. إن الله يقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ثم قال: "أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم"[15].
وقال النسفي:
ثم بين الخصلة التي يفضل بها الإنسان غيره ويكتسب الشرف والكرم عند الله فقال:﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم في الحديث : « من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله ». وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كرم الدنيا الغنى وكرم الآخرة التقوى[16].
وقال أبو السعود في الإرشاد:
﴿يأَيُّهَا الناس إِنَّا خلقناكم مّن ذَكَرٍ وأنثى وجعلناكم شُعُوباً وَقَبَائِلَ لتعارفوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم والمعنى أنه تعالى أعلمُ منكم بمراتبكم في الإيمان الذي به تنتظِمُ أحوالُ العبادِ وعليه يدور فلَكُ المصالحِ في المعاش والمعادِ ولا تعلّقَ له بخصوص الحريةِ والرقِّ [17].
هذه هي آية واحدة، قد ذكرناها في هذه المجال، وتركنا كثيرا من الآيات و الأحاديث و أقوال السلف في أساس المجتمع الإسلامي، بأنها هي تعاون بعض ببعض في جميع مجالات الحياة الإنسانية، إذ الإنسان لا يأكل إلا بالأدب، و لا يشتري و لا يبيع إلا بالآداب المخصوصة لها، وكذلك سائر أمور الحياة الإنسانية التي تعتمد عليها.
وهذه هي فلسفة الفقه الإسلامي، إذ الفقه هي ليست إلا فهم الحياة الإنساني في ضوء الشريعة الغراء، قد ذكرنا نبذة منها، لأن هذه الصفحات لا تسع هذا البحث الطويل الذي لا يترك الرجل إلا أن يكب فيه مدة طويلة, ولذا تركناه هنا ليتفكر فيه المتفكرون و ليتأمل فيه المتأملون، والحمد لله رب العالمين.

﴿………المصادر و المراجع………




[1]المائدة:3.

[2][سورة المائدة: 3]، الآية.(أنظر:تفسي الطبري،تفسير آية البقرة: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس الآية : 2/34، رقم الحديث: 1996)

[3](تفسير القرآن العظيم للإمام ابن كثير، تفسير آية المائدة3: 3/26-27)

[4](تفسير القرطبي للإمام القرطبي، تفسير قوله تعالى ﴿اليوم أكملت لكم دينكم:6/61).

[5](تفسير الطبري، تفسير الآية المذكورة:9/518)

[6](أيضاً، رقم:11080)

[7](الترمذي، الطهارة، باب ما جاء في غسل الميت:4/103، رقم:911).

[8](كما في الميبذي:2)

[9](البحر الرائق شرح كنز الدقائق لابن النجيم المصري الحنفي:1/21)

[10](الجامع الصحيح للإمام محمد بن إسماعيل البخاري،الجنائز ، باب ما قيل في أولاد المشركين:5/182، رقم:1296).

[11](السنن الكبرى للنسائي:3/446، رقم:5883).

[12][الحجرات:13]

[13](التفسير الطبري، تفسير الآية: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ…:22/213)

[14](تفسير القرآن العظيم لابن كثير:7/385).

[15](تفسيرابن كثير:7/387، والحديث من المنتخب لعبد بن حميد برقم:793).

[16](تفسير النسفي:3/347).

[17](إرشاد العقل السليم تفسير أبي سعود، النساء آية:125).