نسمع كثيرا عن سماحة الإسلام وعفوه وحلمه بل ولا اظن خطيبا اعتلى منبرا ولم يتحدث عن ذلك وحق للإسلام أن يتصف بهذه الصفات الحميدة إذ انه من لدن حكيم خبير.
لكن الذي يعلمه الجميع أن الفاظ اللغة مرنة وان الصفات الحميدة إذا تجاوزت الحد هي إلى الذم اقرب وهذه ليس مكرمة للإسلام ولا لحامليه لذا ينبغي على الدعاة الاحتياط لهذا القيد واكبر احتياط في نظري يكون بذكر صور الحزم التي اظهرها النبي صلى الله عليه وسلم في تعامله مع من ليسوا أهلا لان تطبق عليهم تلك الصفات الحميدة لان في تطبيقها حينئذ ضعف ومهانة كبني قريظة والعرنيين وكذا النفر الذين استباح دمهم يوم فتح مكة وان كانوا معلقين بأستار الكعبة.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله : فصل للأخلاق حد متى جاوزته صارت عدوانا ومتى قصرت عنه كان نقصا ومهانة
فللغضب حد وهو الشجاعة المحمودة والأنفة من الرذائل والنقائص وهذا كماله فإذا جاوز حده تعدى صاحبه وجار وإن نقص عنه جبن ولم يأنف من الرذائل
وللحرص حد وهو الكفاية في أمور الدنيا وحصول البلاغ منها فمتى نقص من ذلك كان مهانة وإضاعة ومتى زاد عليه كان شرها ورغبة فيما لا تحمد الرغبة فيه وللحسد حد وهو المنافسة في طلب الكمال والأنفة أن يتقدم عليه نظيرة فمتى تعدى ذلك صار بغيا وظلما يتمنى معه زوال النعمة عن المحسود ويحرص على إيذائه ومتى نقص عن ذلك كان دناءة وضعف همة وصغر نفس
قال النبي صلى الله عليه وسلم لا حسد إلا في اثنين رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ورجل أتاه الله الحكمة فهو يقضى بها ويعلمها الناس
فهذا حسد منافسة يطالب الحاسد به نفسه أن يكون مثل المحسود لا حسد مهانة يتمنى به زوال النعمة عن المحسود
وللشهوة حد وهو راحة القلب والعقل من كد الطاعة واكتساب الفضائل والاستعانة بقضائها على ذلك فمتى زادت على ذلك صارت نهمة وشبقا والتحق صاحبها بدرجة الحيوانات ومتى نقصت عنه ولم يكن فراغا في طلب الكمال والفضل كانت ضعفا وعجزا ومهانة
وللراحة حد وهو اجمام النفس والقوى المدركة والفعالة للاستعداد للطاعة واكتساب الفضائل وتوفرها على ذلك بحيث لا يضعفها الكد والتعب ويضعف أثرها فمتى زاد على ذلك صار توانيا وكسلا وإضاعة وفات به اكثر مصالح العبد ومتى نقص عنه صار مضرا بالقوى موهنا لها وربما انقطع به كالمنبت الذي لا أرضا قطع ولا ظهر أبقى
والجود له حد بين طرفين فمتى جاوز حده صار إسرافا وتبذيرا أو متى نقص عنه كان بخلا وتقتيرا
وللشجاعة حد متي جاوزته صارت تهورا ومتي نقصت عنه صارت جبنا وخورا وحدها الأقدام في مواضع الأقدام والأحجام في مواضع الأحجام كما قال معاوية لعمرو بن العاص أعياني أن أعرف أشجاعا أنت أم جبانا تقدم حتى أقول من أشجع الناس وتجبن حتى أقول من أجبن الناس
فقال شجاع إذا ما امكنتني فرصة % فان لم تكن لي فرصة فجبان
والغيرة لها حد إذا جاوزته صارت تهمة وظنا سيئا بالبريء وإن قصرت عنه كانت تغافلا ومبادىء دياثة وللتوضع حد إذا جاوزه كان ذلا ومهانة ومن قصر عنه انحرف إلى الكبر والفخر
وللعز حد إذا جاوزه كان كبرا وخلقا مذموما وإن قصر عنه انحرف إلى الذل و المهانة
. انتهى كلام ابن القيم.
بل ونخشى من تصدر جيل من الدعاة من لا يعرف إلا طرفا واحدا من الطرفين ويدع الوسط كيف لا ونحن نسمع من يترحم على بابا الفاتيكان بسم سماحة الإسلام ومن يرفض تكفير اليهود والنصارى بسم رحمة الإسلام وعندما يستدل له بتكفير الله لهم يجيب بان لله أن يكفرهم أما نحن فلا وما علم هذا الجاهل أن كلامه هذا فيه من الفرية على الله ما هو أعظم مما هو فيه الان إذ انه بقوله هذا يدعى انه ارحم بغيره من الله بخلقه وهذا هو والله الجهل الفضيع.
وعلى الطرف الآخر يقف طابور آخر لا يرى في الإسلام إلا السيف وعبوس الوجه تجاه عصاة المسلمين قبل الكفار ولا مكان في قاموسه للرحمة العامة التي تشمل حتى الحيوانات..
يقول ابن القيم في تكملة ما بسطه سابقا: وضابط هذا كله العدل وهو الأخذ بالوسط الموضوع بين طرفي الإفراط والتفريط وعليه بناء مصالح الدنيا والآخرة بل لا تقوم مصلحة البدن إلا به فانه متى خرج بعض أخلاطه عن العدل وجاوزه أو نقص عنه ذهب من صحته وقوته بحسب ذلك وكذلك الأفعال الطبيعية كالنوم والسهر والأكل والشرب والجماع والحركة والرياضة والخلوة والمخالطة وغير ذلك إذا كانت وسطا بين الطرفين المذمومين كانت عدلا وإن انحرفت إلى أحدهما كانت نقصا وأثمرت نقصا
فمن أشرف العلوم وانفعها علم الحدود ولا سيما حدود المشروع المأمور والمنهى فأعلم الناس أعلمهم بتلك الحدود حتى لا يدخل فيها ما ليس منها ولا يخرج منها ما هو داخل فيها
قال تعالى(( الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله))
فأعدل الناس من قام بحدود الأخلاق والأعمال والمشروعات معرفة وفعلا وبالله التوفيق.