المحنة التي وقعت لعلي بن ألمديني: وكل العلماء تقريباً لا يكاد تقرأ في ترجمة عالم إلا لابد أن تجد له محنة ، محنة علي بن ألمديني التي نال الخصوم منه بسببها واستغلوا موقف الإمام أحمد من علي بن ألمديني من شيخه الذي كان يبجله ويقدره ويوقره. الفتنة المعروفة بفتنة خلق القرآن ، وسبق أن تكلمت عنها كثيراً ، وكلما أتكلم عنها أتحدث عن الإمام أحمد الذي ثبت ورفع الله مناره وأعلى كعبه بسبب الصبر فيها .
المعتصم عرض العلماء على الصوت بل على السيف ، والذي كان لا يجيب ويقول القرآن مخلوق ، إما كان يقتل أو يسجن أو يقطع راتبه من بيت المال،لابد أن تناله عقوبة من العقوبات .
فعلي بن ألمديني كان ممن أجاب في المحنة : وذكر حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما وهو ملخصه: أن المشركين عذبوا عمار بن ياسر وهذه القصة لها أسانيد مختلفة مما يدل على أنها لها أصلاً على الأقل وهو حديث حسن.المشركون عذبوا عمار بن ياسر وكان ضعيفاً، ضعيف البنية ، واشترطوا عليه حتى يطلقوا سراحه أن يسب النبي ﷺ ، قالوا له : قل هو ساحر هو كاهن هو مجنون ، فقالها عمار، فلما برد جلده ، جعل يؤنب نفسه كيف أقول هذا على النبي ﷺ الذي أخرجني من الظلمات إلى النور وهداني الله به ، مثل هذه المعاني ،فانطلق إلى النبي ﷺ وقص عليه ما جرى تماماً ، فقال النبي ﷺ:" يا عمار يكف تجد قلبك؟ قال: يا رسول الله أجده مطمئناً بالإيمان ، قال: يا عمار إن عادوا فعد " أي إن عادوا إلى جلدك وإلى ضربك مرة أخرى فعد إلى سبي طالما أن قلبك أجنبي عن اعتقاد مثل هذا ,فتأول علي بن ألمديني ، وقال : لي في عمار أسوة ، وسجنوه في بيت مظلم ثمانية أشهر ، قال لابن عمار الموصلي عندما قال له العلماء منهم من يكفرك ومنهم من يفسقك ، وهذا الكلام لأنه أجاب وقال: القرآن مخلوق ، فقال له : إني سجنت في بيت مظلم ثمانية أشهر حتى خفت على بصري ، وأنت تعلم أنني لو ضربت سوطاً واحداً لمت ، ما كان يتحمل الصوت ، وأخبر القوم أنني أعتقد أن هؤلاء كفار الذين يقولون أن القرآن مخلوق أعتقد أنهم كفار لكن لم يتحمل البلاء علي بن ألمديني ، هذا هو حقيقة ما حدث، لكنه بعدما انفرج البلاء خرج وأعلن توبته وأعلن على الناس عقيدته .
بعض المحن تكثر فيها الحكايات الكاذبة بالذات إذا كان هناك كارهون للشخص الممتحن مثل علي بن ألمديني ، فأخرجوا عليه بعض الأكاذيب .
فمن القصص المكذوبة المنسوبة لعلي بن ألمديني رحمه الله :، قصة رواها الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ، في المناظرة التي جرت بين أحمد بن أبي دوئاد الذي تولى كبر هذا الأمر والذي مسح رأس المعتصم وأدخل عليه هذه البدعة القبيحة والتي جرَّت على الأمة ويلات كثيرة كنا في غنى تام عن هذه الويلات ، ولكن كان أمر الله قدراً مقدورا.فأحمد بن أبي دوئاد يناظر أحمد بن حنبل ، فيقول للمعتصم : إن هذا – على الإمام أحمد- يزعم أن الله يُرى في الآخرة ، والعين لا تبصر إلا محدوداً والله غير محدود ، يعني العين محدودة حاسة من الحواس في الآخر لها منتهى مثل أي حاسة في الإنسان لها منتهى ، فأي مخلوق له منتهى ، العقل له منتهى والسمع والبصر له منتهى .
فمثلما نقول مثلاً بالنسبة للبصر ، لو كنت في صحراء شاسعة مترامية الأطراف ونظرت إلى السماء ، منتهى بصرك يرى السماء منطبقة على الأرض ، حتى لو كنت أحد الناس بصراً، لو كنت مثل زرقاء اليمامة مثلاً، آخر منتهى البصر ، السماء نازلة على الأرض ، لو لفيت من كل الجهات تجد أنك واقف في خيمة ، فهل فعلاً السماء مع منتهى البصر نازلة على الأرض؟ الجواب لا، السماء في هذا المكان مثل التي فوقك تماماً في الارتفاع ، فما الذي جعل ذلك ؟ أن بصري انتهى إلى هنا .
فهو يقول له : ( كيف يُرى الله عز وجل في الآخرة والله عز وجل غير محدود )، لا تستطيع أن تحد الله سبحانه وتعالى وتقول من هنا إلى هنا ، وأدخلوا شبهات عقلية وما إلى ذلك ، فكيف يرى الله وهو غير محدود بالمحدود وهو العين ؟فالمعتصم يقول لأحمد ما تقول؟ قال : يا أمير المؤمنين ، حدثني محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة ، عن إسماعيل ابن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: إنكم ترون ربكم لا تضامون في رؤيته يوم القيامة ، ترونه كما ترون البدر .
إسناد سبيكة ذهب ، الإمام أحمد لا يوجد عنده إلا القرآن والسنة ، ابن أبي دوئاد عنده العقل الذي أضله ، والذي لا يلتزم بالوحي قرآناً وسنة لابد أن يضل ،.
فالمعتصم التفت إلى ابن أبي دوئاد وقال له ما تقول في هذا الكلام ؟ لأنه حديث كما قلت أن الإسناد سبيكة ذهب ، جعفر غندر ،شيخ أحمد ، ومن ثم شعبة ، وإسماعيل بن أبي خالد وقيس بن أبي حازم هذا أدرك العشرة ،أبو بكر وأنت نازل في الصحابة ، وقل من أدرك العشرة مع قيس بن أبي حازم .فالإسناد كالشمس وضحاها ، فعندما التفت إلى ابن أبي دوئاد قال له : ما تقول في هذا ؟ أتى لك بحجة حدثنا فلان عن فلان فبم تردها ؟قال له : أعطني فرصة لغداً ، ونزل على علي بن ألمديني ، هذه الحكاية الباطلة موجودة في كتب شتى بكل أسف ولذلك أنا أنبه عليها اليوم أنها باطلة والخطيب أبطلها وياليت الذين نقلوها في كتبهم نقلوا كلام الخطيب البغدادي لأنه أبطلها بعد الحكاية مباشرة .
فتقول الحكاية : إن ابن أبي دوئاد نزل على علي بن ألمديني وكان مملقاً فقيراً لا يملك شيئاً وكان في بغداد ، فأول ما ذهب إليه دخل عليه وأعطى له عشرة آلاف درهم ، ولم يسأله عن شيء ، وبعد ذلك عاد له مرة ثانية وقال له: حديث الرؤيا ، حديث جرير ابن عبد الله ، الذي قاله الإمام أحمد ، ما تقول فيه؟ قال: هو صحيح ، قال: لي إليك حاجة الدهر – أنا قتيل أخرج لي في هذا الحديث علة – وأعطى له خلعة ومركب يركبه غير العشرة آلاف ، وأعطى له أشياء كثيرة وقال له : ابحث لي عن علة في هذه القصة .
قال له:قيس بن أبي حازم كان أعرابياً يبول على عقبيه ، فقبل رأسه وقال له : شفيتني ولكن المشكلة الكبيرة أن هذا جاهل وسيذهب يناظر أحمد بن حنبل ، هذه هي المشكلة لا يعرف قدر أحمد ، ويظن أن أحمد بن حنبل عندما يقول له أن قيس بن حازم يبول على عقبيه أن أحمد بن حنبل سوف يسلم له بهذا الكلام ، ولكنه رجل جاهل,في اليوم الثاني، قال ابن أبي دوئاد لأمير المؤمنين : يا أمير المؤمنين ، يحتج علينا القيس بن أبي حازم وهو كان أعرابياً يبول على عقبيه ، فقيل أنه عُرف أن علي بن ألمديني هو الذي أعطى هذه لابن أبي دوئاد فقاطعه الإمام أحمد ، قاطع علي بن ألمديني .
لا ، هو لم يقاطعه لأجل هذه القصة لأنها باطلة لم تحدث ، وحاشا لله أن يبيع علي بن ألمديني دينه بالعشرة آلاف درهم ، كانوا أدين وأتقى لله عز وجل من أن يفعلوا هذا ، والخطيب جزاه الله خيراً انتصب لتفريد هذه القصة ، وأتى بقول علي بن ألمديني في قيس بن أبي حازم ، وأنه رفعه في السماء ، وقال: قل من أدرك العشرة من أول أبو بكر الصديق إلى العشرة صحابة المبشرين بالجنة مثل قيس بن أبي حازم .
لكن الإمام أحمد غضب من علي بن ألمديني ولم يحدث بحديثه وإن كان أبقاه في المسند وهذا يدل على أن الرواية التي وردت أن الإمام شطب حديث علي بن ألمديني من مسنده هذه الرواية لا تصح ، لأن مسند الإمام أحمد الآن فيه أكثر من ستين رواية عن علي بن ألمديني لم يشطبها الإمام أحمد من مسنده .
لكن الإمام أحمد غضب من كل من أجاب في المحنة:، وكان يتمنى لو صبر هؤلاء على السياط ولكن هذه مسألة عزائم ، فالرجل الفاضل قد يبتلى ولا يصبر ، وقد ينفسخ عزم قلبه ، وهذا لا يؤذيه ولا يضره في علمه وفي دينه لا سيما إذا رجع وتاب وأعلن على رؤوس الأشهاد أنه لا يقول هذه المقالة .لكن الذي أزاد غضب الإمام أحمد من علي بن ألمديني ، أن علي بن ألمديني روى أيام ما كان في الرباط على الحدود ، حديثاً عن الوليد بن مسلم ليس حديثاً ولكنه أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه تلا على المنبر يوماً قوله تعالى﴿ وَفَاكِهَةً وَأَبًّا﴾وأصل هذا الحديث في البخاري .ثم قال عمر : أما الفاكهة فقد عرفناها ، فما الأب؟ ، ثم رجع عمر لائماً نفسه قال: وما عليك ألا تدريه يا عمر؟ ما عليك ألا تدري ما الأب ؟طبعاً الأب معروف كلغة ، العشب وهذا الكلام ، ولكن كان عمر يقصد أصل الأب ، أي أصله وفصله معنى زائد على معنى الكلمة ، أي يتقعر في معرفة الأب وأصله وفصله وإذا كان له أكثر من معنى وهذا المعنى إلى أين وهذا إلى أين ، وكان عمر رضي الله عنه ينهى عن التقعر في كتاب الله عز وجل ,فقال: ما أُشكل عليكم من شيء فكلوه إلى عالمه ، علي بن ألمديني روى الرواة عنه هذا الحديث بلفظين أو بثلاثة ألفاظ
اللفظ الأول: كلوه إلى خالقه .
اللفظ الثاني : كلوه إلى عالمه.
اللفظ الثالث: كلوه إلى ربه.
كلوه إلى خالقه : هذه هي المشكلة ، لأن ﴿ وَفَاكِهَةً وَأَبًّا﴾، هذا قرآن ، فعندما أقول ، كلوه إلى خالقه كأنني أقول أن الآية مخلوقة ، إذن رجعنا للقول أن القرآن مخلوق!
كلوه إلى عالمه : كلام مستقيم
كلوه إلى ربه : فيها إشكاليه ، أنا سمعت بعض الناس يقول: ورب المصحف وهذا لا يجوز ، لأن القرآن كلام الله غير مخلوق والمصحف هو القرآن.لكن تقول إذا أردت أن تحلف ، تحلف بمربوب ، أي مخلوق ، تقول: لا ، ورب البيت .لأن البيت مخلوق ، لا ورب محمد ، ﷺ ، لا ورب إبراهيم مثلما كانت عائشة رضي الله عنها تحلف لأن إبراهيم عليه السلام ومحمد ﷺ كلاهما مخلوق ,ولكن لا يصح أن تقول ورب المصحف ، لأن المصحف كلام الله غير مخلوق ,فعندما يقول كلوه إلى ربه ، إذا رجعنا إلى كلمة رب المصحف ، ففيها إشكالية,الثابت عن الوليد بن مسلم أنه قال: كلوه إلى عالمه,الإمام أحمد عندما بلغه أن ابن ألمديني يقول: أخطأ الوليد بن مسلم في هذا الحديث عندما رجعوا إلى علي بن ألمديني قالوا له : كيف تقول : كلوه إلى خالقه ؟ فقال: إن أخطأ الوليد بن مسلم, فقال الإمام أحمد : حدثنا الوليد مرتين بهذا الأثر ، يقول في كليهما : كلوه إلى عالمه ، وأنكر على علي بن ألمديني وقال: حتى إذا كان الوليد أخطأ ، فقال مرة ، كلوه إلى خالقه وكلوه إلى عالمه لماذا روى الرواية الخاطئة ؟!
وهو يعلم أن الوليد بن مسلم إذا كان أخطأ في هذا كيف يراه إلى أن ينفق هذه المسألة ، غضب الإمام أحمد كثيراً من علي بن ألمديني أنه روى هذه الرواية ,هذا هو الذي نستطيع أن نقوله أنه ثبت عن علي بن ألمديني ، ونحن لا نعرف الظروف التي جعلت علي بن ألمديني رحمه الله يقول هذه الرواية يرويها مرتين,يمكن أن يكون حدث بها في المذاكرة على سبيل الرواية ، يقول أن ابن مسلم أخطأ فيها فذكر اللفظين عن الوليد، وهذا لا شيء فيه إذا كان ذكر مجرد اللفظين ,فطار الجهمية بهذا اللفظ الذي يريدونه ، وهو كلوه إلى خالقه ، وطيروه على علي بن ألمديني وتركوا اللفظ الآخر الذي ثبت عن علي بن ألمديني أنه رواه عن ابن مسلم أيضا ً، قال: كلوه إلى عالمه,وهذا هو الظن بمثل علي بن ألمديني رحمة الله عليه,إذاً كأن علي بن ألمديني روى اللفظين عن الوليد بن مسلم اللفظ الصحيح ، واللفظ الخطأ ، فطار الجهمية بهذا اللفظ الخطأ ونسبوه إلى علي بن ألمديني وانشر في بغداد كلها والمحدثون كانوا عندهم عادة يأخذ الساقطة واللاقطة
كانوا لا يفوتون شيئاً أبدا ً، وكان بعض المحدثين يتمنى لو يخطئ المحدث!كانوا يبحثون عن مسالب المحدثين ، بعضهم وليس جميعهم ، وكانوا يكتبون هذا في دفاترهم : أخطأ في الرواية الفلانية ، وفي الرواية الفلانية وهذا الكلام.
وكما قلت كان ممكن علي بن ألمديني أن يكون ذكر هذا في المذاكرة ، المذاكرة فيها الغرائب والمناكير ، على العكس الغالب على المذاكرة الغرائب والمناكير كانوا يتفاخرون بها.من الذي عنده رواية غريبة عن مالك ، من الذي عنده رواية غريبة عن شعبة ، عن سفيان الثوري وهذا الكلام ، وكانوا كما قلت يتفاخرون بهذا لأن هذا كان يدل على سعة إطلاعهم ، أنه أصبح عنده كل شيء حتى الغريب المنكر.
الحاصل في ترجمة علي: أنه ثقة ثبت إمام جبل حافظ، قل ما شئت .وحتى أن العقيلي رحمه الله عندما ذكر علي بن ألمديني في كتاب الضعفاء الكبير ، شن الذهبي عليه الغارة في كتاب ميزان الاعتدال بنقد الرجال ، وكنت أتمنى أن يخفف الذهبي من حدته في هذا لأنه كان يمكن للذهبي أن يعبر بأخف من هذا ، هاجم العقيلي مهاجمة قوية حتى قال له : أفمالك عقل يا عقيلي أتدري فيمن تتكلم ؟ إنك تتكلم فيمن أوثق منك بطبقات .
فالذهبي شن الغارة على العقيلي وليس على علي بن ألمديني كما سبق لساني في هذا ، لكن الذهبي دافع عن ابن ألمديني دفاعاً مجيداً، أرجوا الطلبة الذين عندهم ميزان الاعتدال في نقد الرجال للذهبي يأتي بترجمة علي بن عبد الله ألمديني ويقرأ كلام الذهبي في هذا فإنه كلام نفيس.
من الشريط الحادي والخمسين فك الوثاق بشرح كتاب الرقاق للشيخ ابي إسحاق الحويني