الدعاة إلى الله وأهلية الفتوى
كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

قال -صلى الله عليه وسلم- (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْتَزِعُ الْعِلْمَ مِنَ النَّاسِ انْتِزَاعًا وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعُلَمَاءَ فَيَرْفَعُ الْعِلْمَ مَعَهُمْ وَيُبْقِى فِى النَّاسِ رُءُوسًا جُهَّالاً يُفْتُونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَيَضِلُّونَ وَيُضِلُّونَ) (رواه مسلم).

وهذه هي قصة فترات الضعف التي مرت بها الأمة عبر تاريخها، يبدأ من انتشار البدع والخرافات واتخاذ الناس للرؤوس الجهال؛ فينشأ من ينشأ من الأجيال الجديدة -حتى المنتسبين إلى العلم فيهم- على ما أخذوه عن أكابرهم، بيد أن الأرض لا تخلو من قائم لله بحجة؛ ومن هنا يبقى الحق موجودًا وتبقى طائفة على الحق ظاهرين كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ) (متفق عليه).

وهذه الطائفة لا تزول بفضل الله من الأمة، ولكن صوتها قد يخفت أو يقل أثرها في بعض الأمكنة أو بعض الأزمنة.

وبالطبع فإن القسمة غير ثنائية، بمعنى أنه يوجد من هو على الحق في أبواب، ولكنه ملبس عليه في أخرى، أو ممالئ للشائع بين الناس أو الكبراء من جهة أخرى.

ثم يرسل الله إلى الأمة من يجدد لها دينها كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ إِلَى هَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

وعادة ما تواجه الحركات التجديدية بحرب ضروس تجتر حجة المعاندين في كل زمان ومكان، كما حكي الله عن المشركين قولهم: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (الزحرف:23).

ولذلك كانت قضية الرجوع إلى الحق وعدم معارضته لمخالفته الألف والعادة وميراث الآباء والأجداد إحدى أهم القضايا المحورية في دعوة الرسل ودعوة أتباعهم، فهذا إبراهيم -عليه السلام- يقول لأبيه: (يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا) (مريم:43).

وعادة ما يدرك المحتجون بذلك ضعف حجتهم، فيضطرون للكذب على الله وينسبون ميراث كبرائهم لدين الله، كما قال تعالى: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا) والجواب: (قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (الأعراف:28).

ومن ثم فإن الطبيعي لأي حركة تجديدية في الإسلام أن تخوض حربًا شرسة لإثبات مرجعية الكتاب والسنة، دون تقليد الأسماء الرنانة التي يعظمها الناس ويقبلون ما تقوله من حق ومن باطل.

من أجل ذلك خاض شيخ الإسلام "ابن تيمية" حربا شرسة مع الصوفية، ومع مقلدة المذاهب، ومع الأشاعرة، ومع الفلاسفة والعقلانية.

واستطاع شيخ الإسلام بفضل الله أن يرد سلطان النصوص إليها، بعد أن جعلها المقلدة كالسلطان المخلوع ليس لها إلا الصكة والخطبة على حد وصف تلميذه "ابن القيم".

كما خاض شيخ الإسلام "محمد بن عبد الوهاب" حربًا مماثلة مع مقلدة زمانه الذين كانوا يدافعون عن مظاهر شرك القبور باعتباره موروثا لا يجوز المساس به.

كما خاضت الصحوة الإسلامية المعاصرة معركة مشابهة مع مجتمع ملئ بالموروثات المخالفة للشريعة، منها ما تبنته المؤسسات الدينية في بلاد المسلمين، كإدعاء غلق باب الاجتهاد رغم المستجدات التي تطرأ ليل نهار على الساحة، وكمشاركة العوام في عادتهم الدخيلة على الشرع، بل وإخراجها من البدع المذمومة شرعا كبدع الموالد والمواسم وغيرها، وكتبني المذهب الأشعري الذي تتبناه كثير من المؤسسات الدينية الرسمية، وكتسييس الفتوى في كثير من الأحيان.

الحاصل أن الصحوة الإسلامية حاربت لكي تثبت في الأذهان قوله تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (الحشر:7)، وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) (الحجرات:1)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ) (متفق عليه).

وقول الإمام مالك: "كل يؤخذ من قوله و يترك إلا صاحب هذا القبر، يعنى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".

ولم تقف الصحوة الإسلامية أمام ألقاب رنانة، سواء تلك التي أعطيت لأناس مغرقين في الضلالة كـ "ابن عربي" الملقب عند إتباعه بـ "القطب الأكبر" و"الكبريت الأحمر"، ولا بمن خلصت إمامته في باب وخلط في أخر كـ "الإمام الغزالي" الملقب بـ "حجة الإسلام"، فضلا عن من حصلوا على ألقاب معاصرة من شهادة الدكتوراه والأستاذية وغيرها.

بل وزنوا الجميع بميزان الكتاب والسنة، وأخذوا من كل أحد ما وافق فيه الكتاب والسنة، وردوا قول المعاصرين بأقوال السلف المستفادة من أدلتها في الكتاب والسنة.

وبطبيعة الحال انشغلت الصحوة ببيان عدم مرجعية الألقاب والشهادات ونحوها عن بيان الجانب المقابل، وهو اشتراط "أهلية" معينة في من ينظر في نصوص الكتاب والسنة، وفي من يستطيع أن يجتهد، أو يُفتي، أو يقيس المصالح والمفاسد، أو يُقدم أو يؤخر، أو يقدر الضرورة بقدرها عند تطبيق قاعدة "الضرورات تبيح المحذورات"، أو يصنف مسألة ما بأن النهي عنها جاء سدًا للذريعة وأن ثمة مصلحة راجحة تقتضى إعمال قاعدة "ما نُهِيّ عنه سدًا للذريعة أُبِيح للمصلحة الراجحة"، إلى غير ذلك من الأبواب التي تتعرض لها الصحوة الإسلامية ليل نهار، لا سيما وأن العالمانين الذين يريدون إسكات الإسلاميين بدعوى عدم "التخصص" أو حمل شهادة يحاولون توظيف هذه الأبواب لتمرير العلمانية بحذافيرها من خلال الفقه الإسلامي.

وفي الواقع، فإن باب الأهلية كان مستصحبًا تلقائيًا؛ فمن كان يواجه من الصحوة الإسلامية مخالفين يتحصنون في ألقاب وشهادات وموافقة للإلف والعادة فمن غير المعقول أن يخوض المواجهة وهو غير متمكن من سلاحه الوحيد، وهو الفهم الجيد للأدلة الشرعية التفصيلية، وقواعد الفقه الإجمالية، وأصوله.

ثم إن شروط هذه الأهلية كانت موجودة في مظانها من كتب الأصول، ويتعرض لها كل معنيٍ بدراسة الفقه وأصوله.

وبعد أن حققت الصحوة قدرًا من الانتشار واتسعت قاعدة المشاركين في الدعوة، احتاج الأمر إلى وقفة مع النفس نحقق فيها الاتزان المطلوب، بين اعتبار المرجعية للكتاب والسنة دون الألقاب والشهادات ونحوها، وبين اعتبار أهلية الناظر في المسائل الشرعية.

ومما يزيد من خطورة هذا الأمر أن الصحوة الإسلامية قد تبنت مبدأ أن كل أحد عليه أن يوظف ما حباه الله به من إمكانيات لخدمة الدين، وهذا أمر له مستنده الشرعي كما في قصة "ذي البجادين" و"قصة جليبيب" و"قصة المرأة السوداء" التي كانت تقم المسجد وغيرها. والأمة الإسلامية في أمس الحاجة الآن إلى تضافر الجهود، بيد أن الخطورة تكمن في اشتباه مؤهلات بعض الأعمال بمؤهلات البعض الأخر، لا سيما فيما يتعلق بقضية الفتوى، أو بصفة عامة التصدي لمسائل تفاصيل التقريرات العقدية والأحكام الفقهية والسياسة الشرعية، وهي أمور تستلزم ملكة معينة ودراسة لقواعد الشرع وأصول الفقه وتمرس على الممارسة لفترة طويلة. بينما هناك أبواب من العلم خادمة أو متممة أو مستقلة عن هذه العلوم، بل ربما تكون أشرف، ولكن أهلية شخص ما في هذه لا يلزم منه أهليته في تلك والعكس بالعكس.

ومن أوضح الأدلة على ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: (نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ) (رواه الترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني).

وفي هذا الحديث نجد التمييز التام بين ملكتين:

الأولى: ملكة الحفظ أو الضبط تحملا وأداء باصطلاح المحدثين.

الثانية: ملكة الفهم والاستنباط.

ويفهم من قوله -صلى الله عليه وسلم- (رُبَّ) أنه قد يكون السامع على أعلى درجات الوعي ، وقد يكون دوره أن يبلغ غيره، وفي كل خير.

والأمر يظهر بدرجة أوضح في القرآن، حيث يوجد فقه عظيم للقراءة، لكن لا يلزم أن يكون النابغ فيه نابغًا في تأويله، ورغم أن قراء الصحابة كانوا يحملون القرآن قراءةً وفهمًا، ولكن هذا لم يمنع من أن يكون أنبغهم قراءة ليس أنبغهم تأويلا، ولا أعلمهم بالحلال والحرام الذي يستفاد من مجموع نصوص الكتاب والسنة معا؛ ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَأَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ) (متفق عليه)، وقال في شأن ابن عباس -رضي الله عنهما-: (اللهم فقهه في الدين و علمه التأويل) (رواه أحمد).

وعلى الرغم من أن عامة الصحابة حصلوا من كل فضل نصيبا، إلا أنهم راعوا الأهليات عند توزيع المهام، فوجدنا من انشغل بالجهاد ولم ينقل عنه العلم كـ "خالد بن الوليد" و"عمرو بن العاص" وغيرهما -رضي الله عنهما-، وإذا تأملتَ اجتهاد "عمرو بن العاص" -رضي الله عنه- في غزوة ذات السلاسل التي كانت بعد إسلامه بأشهر يسيرة، وكيف اجتهد في التيمم عند عدم القدرة على استعمال الماء، مع أن ظاهر القران أن التيمم يكون عند فقد الماء، علمتَ أنه -رضي الله عنه- كانت له ملكة فقهية عظيمة لم يمنعها من الظهور إلا إيثار أن يتولى هذا الجانب من هم أولى به منه من الصحابة.

ومنهم من عُنِيَ برواية الحديث، وقد كان أكابر صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا سُئلوا عن حديث ربما أحالوا إلى أبى هريرة -رضي الله عنه-؛ لما عرفوا من ملازمته للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وعنايته بحفظ حديثه، ودعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- له بالحفظ.

وهذا ابن عباس -رضي الله عنهما- مع شرف نسبه وعلو همته، استنكر كبارُ الصحابة إدخالَ عمرَ له معهم في التشاور في المهمات، فأبرز عمرُ لهم دقيقَ فَهمه لمّا سأله عن "سورة النصر"، فاستنبط منها ما يفوق ظاهر ألفاظها من الإيماء والإشارة فيها إلى قرب أجل النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأقر الصحابة له بأهلية النظر في المهمات. وهذا مما يشهد أن هذه الأهلية لا يغنى عنها غيرها من نسب أو كبر سن، كما لا يعوقها غيرها من صغر سن ولا من فقدان نسب، ومن ثَمَّ ساد الموالي في عصر التابعين في القرآن والفقه والحديث وغيرها من علوم الشرع .

وإذا تمهد هذا فإن العصمة من ذلك أمران:

الأول: ألا يندفع البعض بدافع حب الدين والغيرة عليه والرغبة في خدمته وغيرها من الدوافع الحسنة -فضلا عن دوافع حب الشهرة والظهور وغيرها من الدوافع السيئة-، أن يتصدى لما لا يحسن، بل الواجب مجاهدة نزغات الشياطين التي تَؤُزُّ النفوس إلى طلب الشهرة. كما أن الواجب بعد تخليص النية أن يوظف كل إنسان ما عنده في سبيل خدمة الدين، ولا بأس أن يسعى المرء إلى تحصيل شئ يرى حاجة الأمة إليه بشرط أن يحصل أدواته كاملة. وما أروع ما ذكره العلامة "محمود شاكر" عن الإمام "الجبرتي الكبير" الذي رأى تفوق أوربا في صناعة السلاح الحديثة، فتعلم علوم الهندسة والتعدين والسباكة وتصدى بنفسه لسد هذه الثغرة، بَيْدَ أن قدوم الحملة الفرنسية أجهض مشروع النهضة الإسلامي، والذي قاد "الجبرتي" جانبه الدنيوي بعدما ساهم في قيادة جانبه الديني.

الحاصل أن من أراد خدمة الدين فعليه أن يأتي الأمر على وجهه، فإن النوايا الحسنة لا تنفع صاحبها متى أساء العمل.

الثاني: أن المتلقي عليه أن يتعامل مع أقوال كل أحد بأن أقوال العلماء يحتج لها لا يحتج بها، وأنها مفتقرة إلى الدليل من الكتاب والسنة وأقوال وأفعال السلف، ويتأكد هذا الأمر إذا كنا نتعامل مع من يتكلم في غير فنه.

كما أن هذا الأمر يقي المتلقي من أن يفتن مع من يفتن من المنتسبين إلى العلم، فإنك لا تأمن على حي فتنة والعصمة منها بالاعتصام بالكتاب والسنة.

وبمناسبة من يتكلم في غير فنه، نريد أن نؤكد على أربع طوائف عانت الأمة من كلامهم في مسائل العقائد والأحكام والسياسة الشرعية، مع أنها ليست من فنونه لما تتطلب من مؤهلات خاصة أشرنا إليها:

الطائفة الأولى: "المفكرون الإسلاميون"

وهذا لقب يطلقه البعض على من انشغل بالغزو الفكري أو من له جهد عقلي في مسائل مجتمعية أو غير ذلك. وكلمة "مفكر" ذات ظلال غير جيدة، ولا شك أن الفقيه والأصولي لا بد أن يفكر ويعمل عقله، بيد أن استقلال طائفة ما بلقب "مفكر" يوحى بدرجة تفكير مستقلة عن النصوص، لا سيما وأن معظم من يحملون هذا اللقب مروا بمرحلة "المفكر اليساري" قبل أن يهديهم الله إلى الالتزام بالإسلام المجمل.

ولكن معظم هؤلاء يعيد نفس خطأ أبى الحسن الأشعري حينما رجع عن الفكر الاعتزالي إلى المنهج السني، ولكنه أبى إلا أن يكون مفكرًا سنيًا، وجاء محملا ببقايا اعتزال، فوافقهم في بعض أصولهم دون أن يدرى.

وهو خطأ يحدث في الأمة عشرات المرات لاسيما ممن يحملون هذا اللقب.

ولا شك أننا لا نقيم نتاج شخص ما باللقب الذي يحمله، ولكننا نوصي بدرجة تحفظ عالية من نتاج هؤلاء المفكرين؛ حتى يحظى بالقبول ممن لهم اشتغال بالعلم الشرعي وبفقه الدليل.

الطائفة الثانية: "القراء"

ونعنى بهم من امتاز بضبط أحكام التلاوة، وهو مهمة شريفة خليق بمن حاز مؤهلاتها أن يوظف نفسه فيها، ولكن هذا لا يعني استقلالهم بالفتوى أو عدم ضبط الأحكام الفقهية الخاصة بقراءة القران باستفادتها من أدلتها التفصيلية.

ومما يأسف له أن يرزق إنسان ما حُسْنَ الصوت، ثم يحفظه الله من أن يتصيده أهل الغناء والموسيقى، وأن ينعم عليه بأن يكون ممن استعمل صوته في قراءة القران وترقيق قلوب السامعين، ثم يوحى إليه بعض شياطين الإنس أنه صار بذلك أهلا للفتوى لمجرد حسن صوته بالقرآن، وأن أولى الفتاوى وأكثرها إلحاحا هي الفتوى بحل الغناء بل الموسيقى! تلك التي عصمه الله من الانزلاق فيها بنفسه، فصار متورطا فيها بفتواه، مما يوجب على الأمة جميعا أن تعي أن فهم قضية الأهلية قد صار الآن أكثر إلحاحا من أي وقت مضى.

الطائفة الثالثة: "الخطباء"

رغم العلاقة الوثيقة بين الخطابة وبين العلم، إلا أنه لا يلزم أن يكون كل فقيه خطيبًا ناجحًا ولا أن يكون كل خطيب عالما ثبتا، فربما كانت لدى الشخص مؤهلات خطابية مع درجة إتقان علمية معينة تعينه على الخطابة، وربما كان لدى بعض الخطباء استعدادات علمية عالية ولكن شغلته عنها الخطابة.

وعلى أي، فالذي نريد التنبيه عليه أن الخطيب الذي رأى أن الأفضل في حقه أن يسد ثغرة الوعظ والتذكير، فهذا باب عظيم من أبواب الخير، ولكنه إذا شغله هذا الباب عن التمرس في معالجة القضايا الشرعية ومطالعة مسالك علماء السلف فيه ومعايشة كتبهم، فعليه أن يحذر من الخوض في هذه الأمور على أساس أنه من جملة المشتغلين بالعلم، فعلوم الواعظ والخطيب تختلف شكلا وموضوعا عن المعضلات الفقهية.

ويتأكد هذا الأمر في زماننا فيما يتعلق بالسياسة الشرعية، ويزداد الأمر خطورة مع تربص أعداء الإسلام الذين يحاولون الحصول على أي قدر من التنازلات، ورغم أنهم يحصلون على كل ما يريدون من العقلانيين والقرآنيين ومن شابههم، إلا أنهم يدركون أن الحصول على مثل ذلك من الخطباء المنتسبين إلى الصحوة بصفة عامة، وإلى السلفية بصفة خاصة، يمكن أن يكون له أثر أكبر من غيره.

الطائفة الرابعة: "الإعلاميون الإسلاميون"

وهم طائفة ظهرت مؤخرًا بعد انتشار مواقع الانترنت الإسلامية والفضائيات الإسلامية وغيرها. وبعض هؤلاء لديه درجه فهم جيد للإسلام عمومًا وللسلفية خصوصًا، والبعض ليس لديه هذا الفهم. والمشكلة تكمن في تسارع وتيرة العمل الإعلامي بحيث تجعل كثيرا من المخلصين من الإعلاميين الإسلاميين يكسل عن مراجعة أهل العلم فيما يعد من مواد إعلامية.

والنصيحة واجبة لإخواننا العاملين في هذا المجال أن يقدروا مسئولية الكلمة وأن يسعوا إلى مراجعة ما يقدمونه للجمهور حتى يطمئنوا إلى سلامته قبل عرضه.

كما أنه ينبغي على المشتغلين بالعلم مهما بلغت مشاغلهم ألا يوصدوا الباب دون كل من يطرقه من الإعلاميين، فهم من أكثر الناس حاجة إلى الدعم والنصح، والتحديات من حولهم كثيرة، والشبهات أكثر، والمزالق أكثر وأكثر...

وممن يتعين عليه وجوبًا أمر مراجعة ومناصحة العاملين في مجال إعلامي ما من أعلن أنه المشرف الشرعي على العمل الإعلامي الفلاني، فالقضية ليست ألقابا شرفية، ولا إقرارا بالخط العام لهيئة إعلامية ما، وإنما المسئولية الشرعية تقتضى محاولة منع الخطأ قبل عرضه على الناس، وهذا هو الأصل، أو المسارعة بتصحيحه علنا وتفصيلا إذا ما مر، و ينبغي أن يحاول تضييق نطاق هذا الأمر قدر الإمكان، وطبعا هذا لا يشمل المسائل التي يسوغ فيها الخلاف.

وفي الختام ...

نؤكد أن الصحوة بجميع قطاعاتها في حاجة ماسة إلى الفقه في دين الله تعالى، وأنه على كل من يريد أن يسد ثغرة من ثغرات العمل الإسلامي أن يتعلم ما يلزمه على الأقل في هذه الثغرة، وأن من أهم ما يجب أن يتعلمه كل أحد حدود ما يعرف مما يجهل، فإن كل الخلق لابد وأن يبتلي في مسائل قلت أو كثرت بالجهل البسيط، وهو أن يجهل وهو يعلم أنه يجهل، ومن ثم يحجم عما يجهل، ويحيل إلى غيره، أو يتعلمه متى احتاج إليه. لكن المصيبة الكبرى والطامة العظمى أن يجهل الإنسان، ويجهل أنه يجهل، وهو أمر ينبغي أن يربأ كل مسلم بنفسه عنه، فضلا عن المنتسبين منهم إلى الدعوة إلى الله.

نسأل الله أن يعلمنا ما جهلنا، وأن يغفر لنا زللنا وتقصيرنا. اللهم آمين.
www.salafvoice.com
موقع صوت السلف