بسم الله الرحمن الرحيم
الحلقة الثانية
نقف اليوم لنعيش مع خلق من الأخلاق الحسنة ، مع خلق من أخلاق القران الكريم ، مع خلق ترجمه النبي (صلى الله عليه وسلم ) في واقع حياته ، هذا الخلق هو الأساس في قبول الأعمال والأقوال... بل هو الأساس في قبول الدّعاء... هذا الخلق يرفع من منزلة صاحبه في الدّنيا والآخرة... هذا الخلق يفرج عن صاحبه الشدائد ، ويدفع عنه المصائب ،والفتن ، والابتلاءات ، ويجعله يشعر بالسعادة ... فهل عرفت هذا الخلق ؟؟
انه خلق الإخلاص ... فيا ترى ما هو الإخلاص ؟
تعالوا معنا لنتعرف على هذا الخلق العظيم :
تعريف الإخــــــــلاص :
الإخلاص هو أن يجعل المسلم كل أعماله لله -سبحانه- ابتغاء مرضاته، وليس طلبًا للرياء والسُّمْعة؛ فهو لا يعمل ليراه الناس، ويتحدثوا عن أعماله، ويمدحوه، ويثْنُوا عليه.
إذن على المسلم أن يقصد الله سبحانه وتعالى وحده بالعبادة في قوله وعمله وجهاده ودعوته وسائر أعماله ويتبرأ من كل ما سوى الله، وذلك لا يكون إلا بإخلاص النية لله وتخليصها من كل غرض دنيوي… لذلك قال الله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذالِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ )[الأنعام:162-163].
هل تدري ما سبب نزول هذه الآية؟؟
قال الله تعالى: ( فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا )[الكهف:110].
هل تدري ما سبب نزول هذه الآية ؟ اسمع إلى الإمام الطبري صاحب التفسير وهو يحدثنا عن سبب نزول هذه الآية قال: جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال يا رسول الله: إني أقف المواقف أريد وجه الله ، وأحب أن يرى موطني ، فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا حتى نزلت هذه الآية : { فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً } .
فالذي يبحث عن ثواب الله وجزائه الحسن في الآخرة فلتكن أعماله مبنية على الإخلاص لوجه الله تعالى …
هذا أبو موسى الأشعريِّ - رضي الله عنه - يقول : سُئِلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الرَّجُلِ يُقاتلُ شَجَاعَةً ، ويُقَاتِلُ حَمِيَّةً، ويُقَاتِلُ رِيَاءً، أَيُّ ذلِكَ في سبيلِ الله ؟ فقال رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( مَنْ قَاتَلَ لِتَكونَ كَلِمَةُ اللهِ هي العُلْيَا ، فَهوَ في سبيلِ اللهِ )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .
الإخلاص صفة الأنبياء:
إنّ الله عزّ وجلّ ذكر لنا من صفات الأنبياء والمرسلين الإخلاص؛ ليقول لنا: بهذا تستقيم الحياة، وهكذا كان الصّفوة من خلقي، وقد نجحوا في رسالاتهم بفضل الإخلاص، فبهم اقتدوا.
فوصف الله -عز وجل- إبراهيم وإسحاق ويعقوب -عليهم السلام- بالإخلاص، فقال تعالى: {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار . إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار . وإنهم عندنا من المصطفين الأخيار} [ص: 45-47].... وقال عن سيدنا يوسف (عليه السلام) : (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) (يوسف :24)... وقال عن موسى (عليه السلام) : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا )(مريم :51)... وقال الله تعالى مخاطبا رسوله محمدا(صلّى الله عليه وسلّم ): ( إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ) (الزمر :2)
هكذا حدثنا الله تعالى عن أنبيائه ونجاحهم في رسالاتهم وكل ذلك بفضل الإخلاص، فأراد الله تعالى أن يقول لنا : نجاتكم في الدنيا والآخرة يوم أن تتخلقوا بأخلاق أنبيائي ورسلي ... فأين من يترجم هذا الخلق في واقع حياته ؟!
احذر من أن تترك الإخلاص في عملك :
وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ : سَمِعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ : (( قَالَ الله تَعَالَى : أنَا أغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ ، مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ )) . رواه مسلم .
اسمع إلى هذه القصة التي يحدثنا عنها النبي (صلى الله عليه وسلم) والتي يحذرنا من خلالها من ترك الإخلاص في أعمالنا ، فيقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) : (( إنَّ أَولَ النَّاسِ يُقْضَى يَومَ القِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ ، فَأُتِيَ بِهِ ، فَعَرَّفَهُ نِعْمَتَهُ ، فَعَرَفَهَا ، قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ . قَالَ : كَذَبْتَ ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأَنْ يُقَالَ : جَرِيءٌ ! فَقَدْ قِيلَ ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ في النَّارِ. وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ العِلْمَ وَعَلَّمَهُ ، وَقَرَأَ القُرآنَ ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا . قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : تَعَلَّمْتُ العِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ ، وَقَرَأتُ فِيكَ القُرآنَ ، قَالَ : كَذَبْتَ ، وَلكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ لِيُقَالَ : عَالِمٌ ! وَقَرَأتَ القُرْآنَ لِيُقَالَ : هُوَ قَارِئٌ ؛ فَقَدْ قِيلَ ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ في النَّارِ . وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ ، وَأعْطاهُ مِنْ أصْنَافِ المَالِ ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ ، فَعَرَفَهَا . قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبيلٍ تُحِبُّ أنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلاَّ أنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ. قَالَ : كَذَبْتَ ، ولكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ : جَوَادٌ ! فَقَدْ قِيلَ ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ في النَّارِ )) . رواه مسلم .
قبول أعمالنا مرتبطة بالإخلاص :
وعن أمير المؤمِنين أبي حَفْصٍ عمرَ بنِ الخطابِ - رضي الله عنه - ، قالَ : سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يقُولُ : (( إنّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امرِىءٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصيبُهَا ، أَوْ امْرَأَةٍ يَنْكَحُهَا ، فَهِجْرَتُهُ إِلى مَا هَاجَرَ إِلَيْه )) . مُتَّفَقٌ عَلَيه
قال سيدنا عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) : خطبَ أعرابيٌّ مِنَ الحيِّ امرأةً يقال لها : أم قيسٍ . فأبت أن تزوَّجَهُ حتى يُهاجِرَ ، فهاجَرَ ، فتزوَّجته ، فكُنَّا نُسمِّيه مهاجرَ أُم قيسٍ .
صور من اخلاص سلفنا الصالح :
لقد نقلت لنا كتب السير الكثير من مواقف المخلصين ..لتكون لنا نبراساً وقدوة وخيراً ...
هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : ((فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وما بين الناس)).
ومن عجائب المخلصين ما حصل لصاحب النفق، حاصر المسلمون حصناً واشتد عليهم رمي الأعداء ، فقام أحد المسلمين وحفر نفقاً فانتصر المسلمون، ولا يُعرَف من هو هذا الرجل، وأراد مَسْلَمَة يريد أن يعرف الرجل لمكافأته،ولما لم يجده سأله بالله أن يأتيه، فأتاه طارق بليل وسأله شرطاً وهو أنه إذا أخبره من هو لا يبحث عنه بعد ذلك أبداً ، فعاهده، و كان يقول : (( اللهم احشرني مع صاحب النفق)).
وهذا حماد بن زيد يقول : كان أيوب ربما حدث في الحديث فيرقّ وتدمع عيناه، فيلتفت و ينتخط ويقول ما أشد الزكام!!، فيظهر الزكام لإخفاء البكاء.
وقال الحسن البصري: ((إن كان الرجل ليجلس المجلس فتجيئه عبرته فيردها فإذا خشي أن تسبقه قام وذهب وبكى في الخارج)).
كان احدهم يقوم الليل أكثر من عشرين سنة ولم تعلم به زوجته، سبحان الله انظر كيف ربّوا أنفسهم على الإخلاص وحملوها على إخفاء الأعمال الصالحة، فهذا زوجته تضاجعه وينام معها ومع ذلك يقوم عشرين سنة أو أكثر ولم تعلم به، أي إخفاء للعمل كهذا، وأي إخلاص كهذا.
هكذا كان أحدهم يدخل في فراش زوجته فيخادعها فينسل لقيام الليل... وهكذا صام داود بن أبي هند أربعين سنة لا يعلم به أهله فكان يأخذ إفطاره ويتصدق به على المساكين ويأتي على العشاء..
فأين بعض المسلمين اليوم الذي يحدث بجميع أعماله، ولربما لو قام ليلة من الدهر لعلم به الأقارب والجيران والأصدقاء، أو لو تصدق بصدقة أو أهدى هدية، أو تبرع بمال أو عقار أو غير ذلك لعلمت الأمة في شرقها وغربها، إني لأعجب من هؤلاء، أهم أكمل إيمانا وأقوى إخلاصاً من هؤلاء السلف بحيث أن السلف يخفون أعمالهم لضعف إيمانهم، وهؤلاء يظهرونها لكمال الإيمان؟ عجباً ثم عجباً...
لذلك أنا أوصيك أخي المسلم إذا أردت أن يحبك الله وأن تنال رضاه ، وان تنال القرب من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما عليك إلا أن تترجم هذا الخلق في واقع حياتك كما ترجمه الأنبياء وسلفنا الصالح ، فكان هذا سبب في عزتهم ونصرهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة .
انتظرونا في الحلقة الثالثة من سلسلة (بأخلاقنا الحسنة ... ننال القرب من نبينا ) ومع خلق من أخلاق القران الكريم ، مع خلق من الأخلاق الحسنة ، هذا الخلق هو سبيلك للقرب من الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وسلم) والناس ، هذا الخلق هو عنوان سعادتك في الدّارين ، هذا الخلق هو طريقك الذي يوصلك إلى مرضاة اللّه وإلى جنّته ، هذا الخلق يجعل صاحبه يأمن من عذاب اللّه يوم الفزع الأكبر.... ويدفع بصاحبه الى حسن الخاتمة ، و يؤدّي إلى حصول النّصر والبركة في ماله وعمره ...فهل عرفتم هـــذا الخلق العظيم ؟!
إلى أن نلتقي به معكم أقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .