الحمد لله وحده
أما بعد، فإنه مما عمت به البلوى في هذا الزمان، وصار شائعا مبثوثا بين كثير من طلبة العلم في مختلف البلدان، التبرؤ من المذهب والمذهبية هكذا جملة واحدة! يقال للحدث المبتدئ في الطلب ما مذهبك، فتراه يقشعر جلده ويتمعر وجهه ويقول في أنفة ظاهرة: أنا لست متمذهبا، أنا أتبع الدليل!!! فإذا ما حوجج قال: وهل كان الصحابة يتمذهبون؟ وهل كان فيهم الشافعي والمالكي والحنفي .. الخ؟ فهو إذن بدعة على خلاف ما كان عليه السلف الأول، لا أرتضيها وأحذر طلبة العلم من الوقوع فيها!
فنقول لصاحبنا هذا: أولا، اعلم يا عبد الله أن التمذهب لفظة مجملة ينبغي فيها التفصيل والتحرير.
فإن المذهب قد يطلق على مسألة من الفروع (يقال مذهب فلان فيها كذا) وقد يطلق على طريقة في الاستدلال والموازنة بين الأدلة، وقد يطلق على نحلة عقدية في مسألة يسوغ فيها الخلاف أو في أخرى مما يمتاز به أهل السنة عن أهل البدعة. وقد يكون الرجل متمذهبا على تقليد محض، يأخذ قول هذا في هذه وقول ذاك في تلك، دونما دراية بأصول الاستدلال والترجيح عند من يفتيه، وقد يكون متمذهبا على طريقة من طرق الاستدلال (وهو ما يُصطلح عليه بالمذهب الفقهي) تقليدا لإمامه، وقد يتخذه لنفسه مذهبا وطريقة في النظر اجتهادا منه في ذلك، حيث ظهر له باجتهاده بعدما خبر خلاف الفقهاء وطرائق الأئمة وأصولهم في التعامل مع الأدلة تقديما وتأخيرا، إعمالا وإهمالا، جمعا وترجيحا، أن طريقة الإمام فلان هي الأقوم والأقرب إلى الصواب في ذلك، وهي الأقرب إلى ما كان عليه الصحابة في فقههم وعملهم. فلا يمكن لعاقل يعي ما يقول أن يجمع هؤلاء جميعا في سلة واحدة يسميها بسلة (التمذهب) ثم يذهب يطلق الحكم العام على هذا (التمذهب) هل هو بدعة أو مباح أو غير ذلك، أو يطلق القول كصاحبنا هذا يقول: لا أتمذهب!!
لا يصح أن نقول لرجل (إنه متبع للدليل) تمييزا عمن يقال له (إنه متمذهب)!! فأما الأول فإن كان على الجادة فهو على مذهب من مذاهب السابقين في استدلاله وطريقة نظره لا محالة، وأما الثاني فإنه يحسب أنه يتبع الدليل وأن طريقة إمام مذهبه هي المحققة للدليل، وإن أخطأه بها! وإلا فهذا المتبع للدليل ما فهمه له وعلى أي القواعد أقام ذاك الفهم وخلص منه إلى الاستدلال والحكم، ومن أين جاء بها؟ إن كانت قواعد جديدة من عنده لم يسبقه إليها أحد، فهو إذن من أهل الشذوذ والانحراف، وقوله يرده عليه أهل الفن كما يرد أئمة كل صنعة عبث الدخلاء عليها والمفسدين فيها! وإن كان مسبوقا إليها فهو على مذهب من سبقه إليها – لا محالة - وإن جهله! فإن تلك الأصول المعمول بها في المذاهب الفقهية الأربعة المشهورة، إنما هي جماع ما ورثه الأئمة عن الصحابة والتابعين من طرائق في النظر والاستدلال، فلا يكاد يخرج عنها مفتي يدري ما يقول! وإنما نُسبت تلك المذاهب إلى فلان وفلان من الأئمة لا لأنهم اخترعوها ولكن لأنهم أول من جمعها عن السلف الأول والصحابة وحررها في أصول منطوقة وقواعد مدونة كأصول كلية تفرع عليها الفروع وتُخرَّج عليها المسائل. فكان أن اختلفوا فيها كما اختلف الصحابة والسلف الأول، فكانوا فيها على جملة من المذاهب توارثتها الأمة وتتابع عليها الفقهاء والعلماء. فمن أين جاء الصحابة بتلك القواعد ابتداء؟ لم يخترعوها من عند أنفسهم، وإنما فهموها من عمومات الكتاب والسنة، واستقرأوها من مفردات المسائل والأحكام. والأئمة إذ يجتهدون في جمع تلك الأصول والقواعد، يستدلون لها بما استدل به الصحابة والتابعون ويحرصون على ألا يجاوزوا ذلك.
فالبناء المذهبي الذي ورثته الأمة في الحقيقة بناء محكم وليس - في إطلاقه - ضربا من التقليد الأعمى كما يتوهم الكثير من ضعاف النظر حدثاء الأسنان! وإنما يذم (المتعصب) لا (المتمذهب)!! المتعصب هو الموسوم بالتقليد الأعمى المذموم، الذي هو اتباع مذهب إنسان – أي إنسان – والبقاء عليه من بعد ما تبين للمقلد أن الدليل – أيا كان نوع الدليل الذي استظهره ذاك المقلد – على خلافه! يصر على تقليد إمامه، يقول – دونما تكلف عناء النظر، أو إصرارا على مذهبه من بعد ما تبين له خطؤه: "بل أنتم المخطئون، ما هكذا يفهم النص، ويقينا إن إمامي قد وقف عليه وحققه فتوصل بما معه من الأدلة إلى إهماله!" هذا هو المذموم، وهذا من يُتبرأ من طريقته في (التمذهب)، لا مطلق (المتمذهبين)! فيا لخيبة وجهالة من يقول "أنا "سلفي" فلا أتمذهب" (بهذا الإطلاق)! وهل السلفي – في اللغة والاصطلاح – إلا هذا الذي يتمذهب بما كان عليه سلف الأمة، لأنه يدين الله بأن هؤلاء كانوا أقرب إلى إصابة الحق ومراد رب العالمين من نصوص الوحي منه، وأنه لا سبيل إلى فهم تلك النصوص على وجهها إلا من طريقهم؟ وهل كان شيخك أيها السلفي، وشيخ مشايخ مشايخك، شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ذاك الحبر المجتهد المطلق، إلا إماما من أئمة الحنابلة، يوافقهم في مجمل أصولهم؟ وهل تنفي عنه رحمه الله نسبة (الحنبلية)؟ فمن أين جئت أنت بأصولك في الترجيح والنظر والتأمل في الأدلة والمفاضلة بينها؟؟ هل اخترعتها على غير مثال سابق، أم أنك ذهبت فيها إلى ما سبقك إليه بعض الأئمة؟
تقول (إن صح الحديث فهو مذهبي)، فعلى أي فهم صار هذا الحديث مذهبك يا أخانا، وعلى أي فهم خرجت بوجه الدلالة منه أصلا، وكيف وبأي أصول النظر جمعت بينه وبين غيره مما في البابة من نصوص وأدلة؟ أم تحسب أن الشافعي رحمه الله وغيره لما صدرت منهم تلك الكلمة، كانوا يقصدون أن الواحد منهم لو ثبتت عنده صحة الحديث في بابة من الأبواب فإنه يرمي بكل ما سواه مما عنده عرض الحائط ولا يُعمل إلا ذلك الحديث وحده في المسألة أيا كانت؟؟ هذا تصور من لا يدري ما المذهب ولا ما الفقه أصلا!
إنما المراد أن الحديث إن صح في البابة فإنه حجة تدفع ما دونها من الأدلة في مراتب الاستدلال في تلك البابة عند ظهور التعارض وتعذر الجمع! فما هي تلك المراتب وعلى أي فهم تنتظم وما وسيلة هذا الإمام وغيره لاستخراج الفهم من الحديث، بما يدخله أصلا في هذه البابة أو تلك، ويندفع به ما دونه من الأدلة في ذات الأمر؟ أليس يلزمك أيها الداعي إلى الصدع بهذا الشعار أن تستكمل تلك الأدوات من مظانها أولا كما استكملها أمثال الشافعي رحمه الله ورضي عنه، وحتى تحقق تلك القاعدة – إذا ما أعملتها – على وجهها المستقيم؟ يؤتى بعضهم بنصوص من كتب فقهاء المذاهب فتراه يتمعر وجهه ولعله يأنف من النظر فيها ويشمئز لأنه لم يجد في وسطها حديثا صحيحا قد سمعه في المسألة (وما سمعه إلا من شيخه الذي يقلده)، وهو يقلد شيخه حتى في تصحيح ذلك الحديث والحكم عليه، فتراه يقول لمن يأتيه بكلام الفقهاء في حال كهذه: "أقول لك قال رسول الله، والحديث صححه فلان وفلان، وأنت تقول لي قال فلان وفلان من المصنفين في المذاهب كذا وكذا؟؟"
فنقول صحيح إن أحدا من الخلق لا يقدَّم كلامه على كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يماري في هذا مسلم! ولكن – وما أكبرها من (لكن)! – من أين لك بفهم كلام رسول الله، وأنت لم تعاصره ولم تسمع هذا الأمر أو النهي من فمه الشريف صلى الله عليه وسلم؟؟ تراه يستدل بما كان عليه الصحابة من نسخ مذاهب بعضهم واجتهاداتهم فيما بينهم بكلام النبي عليه السلام! فنقول له وهل أنت الآن في زمانهم، يأتيك عن أحدهم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا، فتضرب بما سوى ذلك من الكلام عرض الحائط وتقدم كلام النبي عليه السلام على ظنك واجتهاد نفسك واجتهاد غيرك؟؟؟ أنت أعجمي يفصلك عن زمان التنزيل أربعة عشر قرنا من الاجتهادات والتحقيقات في مرادات النصوص ومقاصدها وأوجه التنزيل ومناطاتها، وفي الناسخ والمنسوخ والراجح والمرجوح وفي مراتب الأدلة والقرائن التي ينتهي بها الفقيه إلى الحكم بأن هذا ما استقر عليه أمر المسلمين من فهم لحكم الشرع في هذه البابة وفي تلك .. فعلى أي أرض تقف وبأي سماء تستظل يا عبد الله وأنت تضرب بهذا كله عرض الحائط ثم تقول، هكذا بكل سهولة: أنا متبع للدليل لا مذهب لي، وإن صح الحديث فهو مذهبي؟؟ أجب عن أدلتهم إذن، واثبت أن هذا الحديث الذي بين يديك حجة على اختيارهم وأنهم أخطأوا إذ أخروه وهو حقه التقديم، أو ذهبوا إلى نسخه مع أن حكمه باق، أو خصصوه بغير مخصص معتبر مع أن حكمه عام، أو قيدوه بقيد لا يصح – بالدليل – أن يقيد به، إلى آخر تصرفات أهل الفقه والفهم في أدلة المسائل!!
مسكين والله من كان هذا حظه من الفهم لحقيقة المذهب الفقهي والمذهبية وهو في أول طلبه لذاك العلم الجليل! تمهل يا طالب العلم ولا تعجل، استوعب الأقوال وافقه الخلاف وتأنّ، وتواضع لمن سبقوك بالعلم والإيمان، خذ عنهم عدتهم وآلتهم، ثم اذهب بعدئذ تقول إن مذهب هؤلاء في تلك المسألة باطل، والحديث الوارد فيها حجة عليهم، كما خالفهم بذلك أولئكم!
وأقول لصاحب تلك العقلية التي تقتل طالب العلم من قبل أن يشرع في الطلب: إن كنتَ عاميا حديث العهد بالطلب، فواجبك التقليد فيما لم يستقم لك فيه أساس للنظر والترجيح.. فمن تقلد؟ تقلد شيخك فيما يذهب إليه، لا محيص لك من ذلك! فمن يقلد شيخُك هذا في جملة ما يفتي به من الأقوال، وعلى أي الأصول الفقهية والقواعد يجري في اجتهاده ونظره وترجيحه؟
بل تراك يا من هكذا حاله، تستفتي شيخا في مسألة وآخر في غيرها، فتجمع إلى نفسك مذاهب شتى في مسائل متفرقة لا تدري على أي مذهب من مذاهب الأئمة خرجت هذه وعلى أي القواعد جرت تلك، ما علمتَ إلا أن شيخك الذي تقلده أفتى بهذا القول مستندا إلى حديث ساقه وصححه في فتواه، وكأن شيخك هذا من بعدما شابت رأسه في طلب العلم لم يزد على أن سمع هذا الحديث فأفتى به رأسا، كما فهمته أنت!! فهذا – وأيم الله - أدنى في منزلة التقليد من سابقه عند التأمل، ويا ليتك كنت مقلدا للإمام أحمد أو مالك أو الشافعي أو أبي حنيفة، تحفظ متنا من متون المذهب وأنت لا تدري أصوله، خير لك وأكرم ألف مرة من هذا الذي أنت عليه، يا من تقول (أنا أتبع الدليل)!!
واعلم أنه مهما زاد علم الطالب وفقهه وصار من المحققين المجتهدين فسيفضي به اجتهاده الحر – لا محالة – إلى موافقة أصول مذهب من المذاهب المتبوعة (مشهورة كانت أو مغمورة) أو الجمع بين بعضها، ومن ثم موافقة مذهب من المذاهب في بعض اختياراته وموافقة غيره فيما سواها، ولن يأتي مثله قط – إن كان من أهل التحقيق جهابذة هذا الشأن - بأصل جديد أو قاعدة جديدة لم يسبقه إليها أحد، ولن يتبع – في الجملة - غير سبيل المؤمنين من القرون الأولى! ولو شذ فسترد عليه زلته تلك لزوما، وسيكون لزاما على مقلديه، من عرف منهم شذوذه فيها، ألا يتابعوه عليها، ولا يكاد يخلو من ذلك أحد من المجتهدين! فالقصد أن الأئمة الذين بلغوا الاجتهاد المطلق، كانت عامة أصولهم =على المذاهب التي دانوا الله بصحتها، وتلقوها عمن سبقوهم، ولا نقول إنهم تحرروا منها جملة بعدما صاروا مجتهدين!! وإنما اجتهدوا في تلك الأصول لا في اختراع الجديد ولكن في تحقيق نسبتها إلى السلف الأول، ففصلوا فيها وجمعوا إليها من غيرها من المذاهب ما ترجح عندهم أنه أصوب وأقوم، ونظروا فيما كان سلفهم يفتون به على اختلاف أحوالهم وعند تغير تلك الأحوال، فعمدوا إلى أقربها إلى الحق، يحققون أصول النظر عند السلف الأول، مقتربين بذلك إلى صنيع الأئمة الأربعة أنفسهم، رحمة الله عليهم، يأخذون جميعا من مشكاة واحدة! وهذه المنزلة من الاجتهاد (الاجتهاد المطلق) لستُ أرى إمكان وجودها في هذا الزمان، ولا يدعيها أحد لنفسه إلا فضحته أقواله وتحقيقاته!
وأما الذي يقول إن مذهبي أني أقلد فلانا لا أعدو قوله أبدا (ولا أحد يقول هكذا في الحقيقة، وإن كان هذا لسان حاله)، فهذا مذموم في الشرع والعقل والعرف، لأنه ما من إنسان من دون المعصوم عليه السلام إلا ويؤخذ من قوله ويرد. وطالب العلم واجبه رفع عارض الجهل عن نفسه مهما استطاع إلى ذلك سبيلا، واتباع الحجة الأظهر والدليل الأقوى كلما ظهر له، أيا ما كان مصدره! فإن جاءه ذاك الدليل بخلاف مذهبه القديم فإنه يجب عليه المصير إلى الحق وترك ما كان عليه، سواء كان ذلك في مسألة من الفروع أو في كلية من كليات أصول النظر والاستدلال في المذهب الذي هو عليه. وإنما يقلد المقلدون من طلبة العلم الأئمة في أول الطلب لتعذر استيفاء النظر والاستقلال به للوصول إلى الترجيح في جميع مسائل الشريعة جملة واحدة (حتى مع تحقق القوة القريبة من الفعل لديهم)، مع شدة الداعي لوجود من يفتي الناس في تلك المسائل، يسعفهم بها في عاجل أمرهم. فإن بقي هذا على تقليده لمتن حفظه مع قدرته على استيفاء النظر والمقارنة بين الأقوال فإنه تلحقه المذمة قطعا. ولكنه لا تلحق مذمته تلك بعين المذهب الذي التزم تقليد الماتن فيه، ولا يصح أن يُنهى عن مطلق التمذهب حذرا من أن يصير طلاب العلم إلى مثل هذا المفرِّط!! فإنه ما من عالم من أكابر أهل العلم إلا وتجده يحفظ أكثر من متن من المتون على مذهب من المذاهب، يفتي منها الناس إلا فيما خالف فيه باجتهاده اختيارات الماتن، لرجحان مذهب آخر عنده في ذلك، فإنه يفتي فيه بما يترجح لديه. ولهذا قال القائل إن من حفظ المتون حاز الفنون! ليس لأنه يدعو العلماء وطلبة العلم إلى التقليد، ولكن لأن الحاجة تدعو في كثير من الأحيان إلى استحضار مذهب يغلب على ظن طالب العلم أنه – بالجملة – أقرب إلى الصواب من غيره من المذاهب الفقهية (في عموم أصوله والأقوال المتفرعة عليها)، فيعمل به كمرجح عند عجزه عن استفراغ الوسع للاستقلال بالنظر في أعيان المسائل. غير أنه إذا وجد الماء بطل التيمم، فإذا ما تيسرت للطالب درجة من درجات الاجتهاد بشروطها وأدواتها، بطل ما دونها من درجات الاجتهاد في حقه، وحرم عليه البقاء على ما هو عليه من مراتب التقليد، والأمر في ذلك يطول..
فالقصد أن من ينهى طلبة العلم عن التمذهب ويأمرهم (باتباع الدليل، هكذا)، هذا ينبغي أن يتأمل كثيرا قبل أن يضرب في أصول العلم ضرب العشواء، يطلق أقوالا في الحداثة يندم عليها أشد الندم في قابل أيامه، كما وقع لكثير من طلاب العلم، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله.