4-وقفت أثناء هذا الشهر على كتاب سماه صاحبه : "تبصير الأمة بحقيقة السنة" للدكتور إسماعيل منصور ، أنكر فيه كثيراً من الأحاديث التي تلقاها العلماء بالقبول ، واتهم بعض الصحابة كأبي هريرة t بأنه كان ينقل ما لا يفهم ، وطعن على الإمام البخاري بقلة الفقه ، وأورد أحاديث كثيرة صحيحة، فأنكرها وأبدى لها عللاً قد تدخل على بعض من لم يتعمق في دراسة العلوم الشرعية كحديث : "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" وكحديث موسى وملك الموت ، وكحديث أن سليمان عليه السلام قال: "لأطوفن على مئة امرأة ، كلهن يلدن فارساً يقاتل في سبيل الله" فإن كان وصلك هذا الكتاب فما الرأي فيه ؟ وما الجواب عما قد يرد من شبهات حول هذه الأحاديث التي ذكرتها ؟
والجواب : أن هذا الكتاب أرسله إليَّ بعض إخواننا في العام الذي صدر فيه (1416هـ)، وقد توقعت ما فيه من قبل أن أقرأه ، لأنني خبير بصاحبه منذ أثار ضجة بمقالات له كان ينشرها في "جريدة النور" بعنوان : "تذكير الأصحاب بتحريم النقاب" ، فأتى بما يأنف أن يتورط فيه طالب علم صغير ، مع إعجاب بالرأي ، وتسفيه أهل العلم الكبار ، وإنما أغراه بذلك هوان أهل العلم على أنفسهم وعلى الناس ، فكل من أراد أن يكتب شيئاً ، ولو خالف مذهب جميع أهل العلم كتبه وأذاعه في الناس ، وهو آمن تماماً أنه لن يؤاخذ ، حتى اتسع الخرق على الراقع، وصار الذي يتجرأ ويرد على هؤلاء غرضاً لسهامهم ، وكثيراً ما يفترون عليه ، ويلصقون به الحكايات الكاذبة التي تجعل عرضه مضغة في الأفواه ، وربما انتهى به الحال إلى السجن ، والدين لابد له من حراس يقفون على حدوده يذودون عنه ، ويدفعون عنه اعتداء المعتدين ، حتى لا يطمع فيه أمثال هؤلاء الجهال ،
والأمور كما قال النابغة :
تعدو الذئاب على من لا كلاب له
وتتّقي مربض المستأسد الحامي
أما الكتاب الذي يستفهم عنه السائل فقد أرسل إليَّ بعض إخواني الجزء الأول منه، فرأيت صاحبه ينفي فيه السنة ـ إلا من حيث الجملة ـ وذكر في مطلع كتابه أن علماء المسلمين جميعاً ، لا يستثنى منهم واحداً ، قد غشّوا المسلمين، ولم يقوموا بواجب النصح ، فلم يتوقف واحد منهم لمعرفة حقيقة السنة النبوية ، وأنهم قدسوا الصحابة والتابعين ، مع أنهم غير معصومين من الخطأ ، وانفصل على أن السنة لم تُحفظ ، ولا تثبُت إلا من حيث الجملة.
ثم يقول : إن ما ارتكبه علماء المسلمين جميعاً ـ لا يستثني منهم واحداً ـ جعل الحمل عليه ثقيلاً ، فابتعثه الله عز وجل إلينا في القرن الخامس عشر، ليصحح لنا ما أخطأ فيه جميع العلماء ، وقد ارتدى الرجل مُسُوح أهل العلم، وطالع بعض كتب في "الأصول"، فكأن الكلمة أعجبته ، فصار يكررها كثيراً في كتبه ليرهب بها العوام ، ممن قل حظهم من التفقه في دين الله عز وجل ، وكبر معه الأمر حتى صدق أنه "أصولي" ، فاضطره ذلك إلى مساورة جبال الحفظ والفهم ، وظن أنه "رجل" ! فهو رجل وهم رجال، فذكرني صنيعه بما حدث للشاعر "ثابت بن جابر" المعروف بـ "تأبط شراً" ، فقد ذكر أبو الفرج في "كتاب الأغاني" (18/211) أن "تأبط شراً" لقي ذات مرة رجلاً من "ثقيف" يقال له : "أبو وهب" ، وكان رجلاً أهوج ، وعليه حُلةٌ جيِّدةٌ ، فقال أبو وهب لتأبط شراً : بم تَغلِبُ الرجال يا ثابت وأنت كما أرى دميم وضئيل ؟ قال : باسمي إنما أقول ساعة ألقى الرجل : أنا تأبط شراً ، فينخلع قلبه ، حتى أنال منه ما أردت! فقال له الثقفي : أبهذا فقط ؟! قال: قطٌ. قال : فهل لك أن تبيعني اسمك ؟ قال: نعم. فبم تبتاعه ؟ قال : بهذه الحلة وبكنيتي ! قال : له : أفعلُ. ففعلا. وقال تأبط شراً : لك اسمي ولي اسمك ، وأخذ حلته وأعطاه طِمْرَيه ثم انصرف ، فقال تأبط شراً يخاطب زوجة الثقفي :
ألا هل أتى الحسناء أن حليلها
تأبط شراً واكتنيت أبا وهبِ
فهبه تسمى اسمي وسماني اسمه
فأين له صبري على مُعظم الخطبِ
وأين له بأس كبأسي وسَوْرَتي
وأين له في كل فادحةٍ قلبي
فظن البيطري أنه بمجرد تزييه بزيِّ العلماء ، وتكلمه ببعض عباراتهم ، أنه منهم، فأربى بذلك على الثقفي !
ولأنه يعلم أن كثيراً من الناس يقف مبهوراً أمام كثرة المناصب والشهادات، دأب على كتابة "نياشيه" في كتبه ، فيذكر تخرجه في كلية "الطب البيطري" ، ثم ترقيه من رتبة "المعيد" إلى "الدكتوراه" ، إلى تعيينه "بقرار وزاري"
ـ ويضعها بين قوسين كأنه "قرار سماوي" ـ عضواً باللجنة الفلانية ،
ثم دراسته في كلية الآداب، ثم حصوله على دكتواره في "الفلسفة"
ـ هكذا كتبها عمداً ـ ثم حصوله على إجازة في القراءات ... إلخ، فلقد ظن الرجل أنه بهذه "الشهادات" قادر على محو علماء الأمة بجرة قلم ، وقد علم القاصي والداني أن هذه الشهادات لا تُعطي صاحبها علماً ، فضلاً عن الأدب ، إنما تفتح له الباب حسب ، وأما الرجل فإنه يقبع تحت خط الفقر في العلم والأدب معاً ، وقد ذكرتني "نياشيه" صاحب القط فهل تعرفه؟
فقد حكوا أن رجلاً كان يحمل قطاً ، فقابله رجل فقال له : ما هذا القط ؟ وقابله ثانٍ فقال له : ما هذا الهر ؟ وقابله ثالثٌ فقال له : ما هذا السِّنَّوْرُ ؟ وقابله رابعٌ فقال : ما هذا السبع ؟ وقابله خامس فقال : ما هذا السبع ؟ وقابله خامسٌ فقال : ما هذا الخيطل ؟ وقابله سادس : ما هذا الهِزَبْرُ ؟ فقال الرجل : كل هذه الأسماء؟! لابد أن ثمنه كبير فذهب إلى السوق يُمنِّي نفسه بالغنى ، فوقف يعرضه للبيع فكان ثمنه درهماً واحداً ، فرماه على الأرض وقال : قاتلك الله ، ما أكثر أسماءك وأقل غناءَك!!
تصدر للتدريس كلُ مُهوَّسٍ
بليدٍ تسمَّى بالفقيه المُدرِّسِ
فحُقَّ لأهلٍ العلمِ أن يتمثَّلوا
ببيتٍ قديمٍ شاع في كل مجلسِ
لقد هَزُلت حتى بدا من هُزَالها
كُلاها وحتى سامها كلُّ مُفلِسِ
أكثر "البيطري" من ذكر "المنهجية" و "الحياد العلمي" ، وكرر كثيراً قوله "أيها القارئ المحايد" فهل تدري أيها القارئ ما معنى "الحياد" ؟ إنه ترك الانتماء إلى السلف ، فهُمْ عنده ناسٌ "مجرد ناس" لا فضل لهم ؛
لأنهم يزعمون أن الانتماء داعيةُ "الانحياز" ، وأنك إذا أحببتهم ، وانتميت إليهم ، فلن ترى عيوبهم ، ولا أخطاءهم ، ومن أثر ذلك أنك ستحاول إيجاد مخارج لكلامهم المنافي "للعقل السوي" !! وهذا "الحياد العلمي" هو الذي جعل "طه حسين" ينظر إلى القرآن المجيد على أنه كتابٌ أدبيٌّ ، وينبغي أن نعرضه للنقد بهذا الاعتبار ، لأنك لو اعتبرته من هند الله ، فلابد أن تُذعِن له ، وإذا مرَّ بك ما لم تستسغه ، فلا مناص من أن تتهم نفسك ، لأنه لا يتهم ربه إلا كافر !!
فلقد تطاول "البيطري" على أبي هريرة الصحابي الجليل ، حافظ الصحابة ، وأحد المجتهدين في الفقه ، فعامله على أساس أنه "رجلٌ" مجرد رجل.
فقد قال في كتابه (ص 398) : "فقد كان أبو هريرة t يكثر من رواية الحديث عن رسول الله r ويسرده سرداً ككلام الناس ، ويُكثر من رواياته العديدة في المجلس الواحد ، فضلاً عن كونه (رحمه الله) كان غير ضابط لنقل الرواية ، مما جعل السيدة عائشة رضي الله عنها تُنكِر ذلك عليه .. وكذلك أوهامه وظنونه التي وضعت المفاسد العظيمة في الدين (بحُسنِ نيةٍ منه رحمه الله) مما يجعلنا نفكر ألف مرة قبل أن نسلم لأية رواية
في الحديث ، مهما كانت صحيحة لأي راوٍ من الرواة على وجه العموم ، ولروايات أبي هريرة t ـ مهما كانت موثقة ـ على وجه الخصوص".
ثم أورد كلمة لعائشة رضي الله عنها ، علَّقتْ بها على حديث حدث به أبو هريرة t ، قالت فيها : "أساء أبو هريرة سمعاً فأساء إجابةً". فعلق البيطري قائلاً : "وقد كان هذا يكفي أن يكف أبو هريرة t عن رواية الحديث كليةً بعد ذلك ، أو ألا يؤخذ عنه الحديث بالمرة ، لعدم ضبطه رحمه الله للرواية ، لا أن يكون أكثر الرواة حديثاً على الإطلاق ، فإن هذا من أعجب العجب".
وصرح بمثل هذا الكلام الهابط كثيراً في كتابه.
فإذا كان "البيطري" يتكلم هكذا عن الصحابة ، فكيف عن آحاد العلماء ؟
وأنا لن أدعك تفكر أو "تتخيل" طريقته في الكلام عن العلماء ، فقد ذكر حديثاً رواه الإمام البخاري رحمه الله في "صحيحه" ثم علق عليه قائلاً
(ص 504) : "ولابد أن نتنبه هنا إلى أن البخاري رحمه الله ، كان فيما يبدو طيباً ـ البيطري يعني مغفلاً ـ وأميناً فيما ينقل ، ولكنه رحمه الله ـ لم تكن له دراية كبيرة بدراسة الحديث !! إذ لو كانت له رحمه الله دراسة للحديث، وللمتن خصوصاً ، لما أثبت هذه الرواية في "صحيحه" ، ولكن يبدو أن الرجل (الفاضل) كان على الفطرة و (التلقائية) لدرجة أن تبلغ به السذاجة أن يروي مثل هذا الحديث المنافي لأبسط المبادئ و (الممكنات) العقلية في جميع العصور ، وتلك هي المأساة الكبرى في أمتنا ، وهي أخذ أحكام الدين تبعاً لشهرة الرجال، وصحة السند ، ولتذهب المبادئ العقلية إلى الجحيم ، مهما كانت هي مناط التكليف وأساس الإسلام" ..
ثم قال (ص 505) : "كما أننا لا ننسى هنا ـ أيضاً ـ أن نُعيد ما سبق أن قررناه من قبل ، من أن الصحابي الفاضل أبا هريرة t لم يكن من أهل العلم أو المعرفة، ولا من أهل الدراية برواية الحديث أو إثبات الأحكام ، وإن كان أميناً فيما يعهد إليه به ، وقد كان هذا كفيلاً بأن يمنعه t من رواية هذه الكثرة من روايات الحديث ، لأنه رحمه الله استخف بالأمر ، ومضى به على غير وجهه الصحيح ، ولم يلتزم منهاج النبي r ، بحسنِ نيةٍ ولا شك !! فقام علينا ـ لذلك وغيره ـ عبء الدراسة المستفيضة لهذه الآلاف المؤلفة من رواياته في الحديث } وإنَّ اللهَ لمعَ المحسنين { . أ هـ
* قلتُ أي الشيخ أبي إسحاق حفظه الله : انتهى كلام "البيطري" وذكره للآية الكريمة ، في آخر كلامه ، وذكرني بقصةٍ عجيبة ، فقد حكوا أن امرأة قُتِلَ زوجها ، فذهبت إلى قاتلٍ محترف ، يستعين به الناس في قتل من يريدون مقابلَ أجرٍ يدفعونه ، فجاءت المرأةُ إليه، وسألته أن يقتل فلاناً ـ قاتل زوجها ـ فقال لها : كم تدفعين ؟ فبكت المرأة ، وأخبرته أنها فقيرة وتنفق على أيتام ، فرق قلب القاتل وقال: سأقتله لوجهِ الله } وإنَّ اللهَ لمعَ المحسنين { !! فانظر إلى هذا الورع الكاذب ، واحمدِ الله الذي عافاك. ربما ساء ظنك ـ أيها القارئ ـ لأنني لم أقدم نموذجاً من فهم الرجل للنصوص حتى الآن ، يُنادى عليه بالجهل الذي وصفته به في مطلع كلامي.
فأقول : حنانيك بل هداديك ، فكل سطر في كتابه يحتاج إلى رد ، لكنني سأكتفي بما أثاره حول الأحاديث الثلاثة التي ذكرها السائل في كلامه لتعلم قدر صاحب هذا الكتاب من الفهم.
أما الحديث الأول :
فذكر "البيطري" في كتابه (ص :503-504) أن البخاري روى عن أبي هريرة t ، عن النبي r ، قال : "قال سليمان بن داود عليهما السلام : لأطوفن الليلة على مئة امرأة ـ أو تسعٍ وتسعين امرأة ـ كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله".
فقال له صاحبه : قل إن شاء الله ، فلم يقل : إن شاء الله. فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة ، جاءت بشق رجل. والذي نفس محمد بيده لو قال : إن شاء الله، لجاهدوا في سبيل الله عز وجل فرساناً أجمعين ...".
فعلق "البيطري" قائلاً : "ونحن نترك للقارئ أن يقدر بمقتضى العقل السوي، الذي لا يختلف على حكمه إنسان واحد في الكون !! مدى صحة هذه المقولة الواردة في هذا الحديث الصحيح "للأسف" ! وهي : "لأطوفن الليلة على مئة امرأة ـ أو تسع وتسعين ـ كلهن يأتي بفارس" حيث تصور لنا ما يأتي :
1-أن ليلة واحدة يمكن أن تتسع لمجامعة مئة امرأة ـ أو تسع وتسعين ـ وهذا هامٌ ، فلينتبه إليه !!
2-أن نبيناً من أنبياء الله تعالى ، يمكن أن يعلن هذا القول على الناس ، بهذا الأسلوب غير المهذب ، وهم أكمل الناس خُلُقاً ، وأوفرهم أدباً حتى يراجعه صاحبه في ذلك ، كما دلت عليه ألفاظ الحديث.
3-أن نبياً من أنبياء الله تعالى ، يعرف أن النساء يلدن الذكور والإناث ، ثم يشترط على الله تعالى أن يكون كل ما تضع هذه النساء ذكوراً ، بأسلوب يحكم على الله سبحانه وتعالى بما يقول".
ثم ذكر البيطري" الكلام السابق ـ والذي نقلته ـ في شأن الإمام البخاري
رحمه الله.
والحقُ يُقال :
إن الرجل تعامل مع هذا النص "بغباءٍ شديد" ، فهذا "العنين" يقيس قدرات نبيٍّ من أنبياء الله بقدراته ، ويلفت الأنظار إلى هذا الاعتراض الذي أورده، برغم ضحالته وتفاهته ، فأي نكارةٍ أن يكون في مقدور نبي أن يجامع مئة امرأة في ليلة واحدة ، إذا كان مؤيداً من قبل الله تعالى، ومُعاناً على ذلك ، ولا زال العجز عن إتيان النساء معرَّةً عند بني آدم، والقدرة على ذلك من تمام الرجولة وكمال الفحولة ، وللأنبياء عليهم السلام تمام الكمالات ، فلا ينكر على من أمكنه الله تعالى من رقاب الجن والطير أن يكون له هذا الشيء اليسير الذي هو موجودٌ الآن عند بعض بني آدم. هذا أولاً
ثانياً : أنه زعم أن كلمة "لأطوفن" ، غير مهذبة ، ونقول : كيف ؟ وهي من ألطف الكنايات في الدلالة على هذا الفعل ، وهي مثل قوله تعالى : } فلما تغشَّاها حملت حملاً خفيفاً {[الأعراف : 189] ، لكن الرجل مصابٌ في ذوقه وفهمه ، حتى يرى أن مثل هذه الكناية اللطيفة غير مهذبة ، ثم أين في الحديث أن سليمان عليه السلام جمع الناس وأخبرهم أنه سيأتي نساءه الآن ؟! ليس في الحديث إلا أنه قال ذلك ، فإما قاله بصوتٍ عالٍ كأنه يحدث نفسه، فسمعه صاحبه، أو أنه فاتح صاحبه في ذلك، وعلى الوجهين فليس فيه ما يشين قائله. فلو قال قائل : إنني ما تزوجت إلا ليرزقني الله برجال يتفقهون في دين الله عز وجل، وينشرون السنة بين الخلق أفيعيبه ذلك ؟ وهل ترى أيها القارئ ـ صاحب العقل السوي حقاً ـ أن هذا الكلام اشتراطاً على الله عز وجل من قريب أو من بعيد ؟ لقد قال سليمان عليه السلام هذه المقالة على سبيل الرجاء والتمني، ولو سلمنا أنه اشترط ذلك على الله، فإن الأنبياء عليهم السلام لا يفعلون إلا شيئاً مأذوناً لهم فيه، وقد ثبت عن النبي r ثبوت الجبل الأشم أنه قال : "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره" ، فالأنبياء أولى بذلك.
ثالثاً : أن صاحب سليمان كان ملكاً، كما ثبت ذلك في "الصحيح" ، وهذا يكذب دعوى "البيطري" أن سليمان عليه السلام قال ذلك لأحد ، والله أعلم.
ومجال القول مَهيَعٌ مُتَسِعٌ.
أما الحديث الثاني :
فإنه أعجب وأطم من سابقة، ولم أر قلة توفيق وسداد صاحبت أحداً مثلما صاحبت هذا البيطري.
فقال المسكين تحت عنوان : "أحاديث تخالف مقتضيات العقل السوي" (ص 497 وما بعدها) : "من مرويات الحديث ما رواه البخاري ومسلم رضي الله عنهما عن أبي هريرة t ، قال رسول الله r : "جاء ملك لموت إلى موسى بن عمران فقال له : أجب ربك. قال : فلطم موسى عين الملك ففقأها. قال: فرجع الملك إلى الله ، فقال: إنك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت، وقد فقأ عيني. فرد الله عليه عينه وقال: ارجع فقل له: يضع يده على متن ثور، فله بكل ما غطت يده بكل شعرة سنة. قال: أي رب، ثم ماذا ؟ قال: ثم الموت. قال: فالآن. فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر".
قال: قال رسول الله r : "فلو كنت ثمَّ ، لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر".
علق البيطري على الحديث قائلاً : ونحن نلفت نظر القارئ ـ لا أكثر ـ إلى النقاط التالية :
1-أن رسول الله r ـ بمقتضى هذه الرواية ـ يحدث أصحابه الأفاضل رضي الله عنهم بهذه القصة ليعلمهم ما فيها من الأحكام الشرعية !! فيا ترى ما هذه الأحكام؟
2-أن موسى عليه السلام يأتيه ملك الموت ويبين له أنه جاء من عند الله تعالى ، ومع ذلك يعتدي عليه ! وهو يذكر لنا ، لنعلم مدى استهانة نبيٍّ رسولٍ (من أولي العزم) بأمر إلهي يأتيه مع ملك قد تنزل من قبل الله تعالى بهذا الأمر!!
3-أن الملك ضعيف البنية ، لدرجة أن لطمة من يد موسى عليه السلام
تفقأ عينه!
4-أن موعد الموت قابل للتأجيل تبعاً لظروف كل حالة، وليس كما قال الله سبحانه وتعالى : } فإذا جاء أجلُهُم لا يستأخرونَ ساعةً ولا يستقدمون {[النحل : 61].
5-أن الملك الموكل بالأمر الإلهي يرجع إلى الله تعالى دون تنفيذ الأمر المكلف به، تبعاً لقدرات الإنسان المرسل إليه، فالاعتداء كلما كان قوياً على الملائكة ، كلما حقق أعظم النتائج، حتى في تأجيل الموت نفسه !
6-أن موسى عليه السلام استطاع أن يرد الإرادة الإلهية برد ملك الموت (وضربه وتأديبه) ، فليست القاعدة عند الملائكة هي كما قال تعالى :
} وما نتنزلُ إلا بأمرِ ربكَ { [مريم : 64] ، وإنما هي مسألة غير منضبطة، والمهم أن تظهر قوة موسى عليه السلام ـ في الرواية ـ ولا يهم بعد ذلك الإساءة إلى القدرة الإلهية، والتدبير الإلهي ! وبالتالي يصبح قوله تعالى : } حتى إذا جاء أحدَكُمُ الموت توفته رُسُلُنا وهم لا يُفَرِّطون{ [الأنعام : 61] بلا معنى ! وتصبح الملائكة مفرطين في الأمر الإلهي ! لأن قدرتهم أقل من قدرة الإنسان !!
7-أن موسى عليه السلام لم يستوعب الموقف ، إذ فهم أن رده لملك الموت سينهي المسألة تماماً ، بحيث لن يقدر ملك آخر أن ينزل إليه مرة ثانية ! وتصور أنه بذلك يهرب من الموت !!
8-أن موسى عليه السلام يكره لقاء الله تعالى إلى هذا الحد الذي يضرب فيه ملك الموت فيفقأ عينه لمجرد أنه قال له : (أجب ربك) !!
9-أن موسى عليه السلام رجل طائش ، لا يعرف كيف يضبط نفسه ،
فهو عندما لا يريد الموت لا يلجأ إلى الدعاء والتضرع مثلاً (بفرض حدوث ذلك منه) ، بل يستعمل يده مباشرة ، حتى في مواجهة الملائكة ، مما يجعلنا نتوقع منه عليه السلام أكثر من ذلك ـ بمقتضى هذه الرواية ـ يوم القيامة عند الحساب ، بحيث يمكن أن نشهد عرضاً عظيماً ، وصراعاً رائعاً، ربما يصرع فيه موسى عليه السلام ملكين أو أكثر فيطرحهم أرضاً بلكماته القوية ، والخلائق تشهد ذلك في موقف الحساب !
10-أن ملك الموت رجع مخاطباً الله تعالى بأسلوب التنبيه بقوله :
(إنك أرسلتني إلى عبدٍ لك لا يريد الموت) !! كأنه يريد أن ينبه الله (تعالى عن ذلك علواً كبيراً) إلى أن الإرسال في هذه المرة لم يكن على نحوٍ حكيم! إذ أن العبد المرسل إليه كان لا يريد الموت ، فكيف حدث هذا من الله سبحانه ؟
هكذا أيها القارئ ، ولك ـ الآن ـ أن تقرر ما تشاء !!
لكننا نتساءل : تُرى من الذي دس علينا كل هذه الروايات الإجرامية ، حتى يهدم فينا العقيدة الصحيحة ، فتشقى أمتنا ـ بذلك ـ إلى يوم الدين ؟ ترى من فعل هذا؟ حسبنا الله ونعم الوكيل !
* قلتُ : فهذا كلامه كله ، نقلته مع طوله وإملاله ، لتعلم أيها القارئ هل قائله ممن أنعم الله عليهم بالعقل السوي ، أم أنه مخبول ؟!
ويحضرني الآن ما ذكره أهل الأدب أن خالد بن صفوان ـ الخطيب البليغ ـ كان في الحمام يوماً ، فرآه رجل وابنه ، فأراد الرجل أن يُري خالداً ما عنده من الفصاحة والبيان ، فخاطب ابنه قائلاً : يا بُني ابدأ بيداك ورجلاك! ثم التفت إلى خالد كالمتباهي وقال : يا أبا صفوان هذا كلامٌ قد ذهب أهله ! فقال له خالد : هذا كلامٌ لم يخلُقُ الله له أهلاً قط !!
و"البيطري" تابع لبعض المارقين في ترديد هذه الاعتراضات ، لكنه أضاف إليها من سوء أدبه وركاكة أسلوبه.
وقد أجاب أهل العلم من هذا الحديث بجوابين :
الأول : ما ذكره الإمام العلم ابن حِبان البستي في "صحيحه" (6223) فقد قال: "ذِكْرُ خبرٍ شَنَّع به على منتحلي سنن المصطفى r من حُرِمَ التوفيق لإدراك معناه"، ثم روى الحديث وعقب قائلاً : "إن الله جل وعلا بعث رسول الله r معلماً لخلقه ، فأنزله موضع الإبانة عن مراده ، فبلَّغ r رسالته ، وبين عن آياته بألفاظ مجملة ومفسرة ، علقها عنه أصحابه أو بعضهم ، وهذا الخبر من الأخبار التي يدرك معناه من لم يُحرَمِ التوفيق
لإصابة الحق".
وذاك أن الله جل وعلا أرسل ملك الموت إلى موسى رسالة ابتلاء واختبار وأمره أن يقول له : أجب ربك ، أمرَ اختبار وابتلاء ، لا أمراً يريد الله جل وعلا إمضاءه، كما أمر خليله إبراهيم ـ صلى الله على نبينا وعليه ـ بذبح ابنه أمر اختبار وابتلاء دون الأمر الذي أراد الله جل وعلا إمضاءه ، فلما عزم على ذبح ابنه ، وتله للجبين ، فداه بالذبح العظيم.
وقد بعث الله جل وعلا الملائكة إلى رسله في صور لا يعرفونها ، كدخول الملائكة على رسوله إبراهيم ولم يعرفهم حتى أوجس منهم خيفة ، وكمجيء جبريل إلى رسول الله r وسؤاله إياه عن الإيمان والإسلام والإحسان ... فلم يعرفه المصطفى r حتى ولى.
فكان مجيء ملك الموت إلى موسى عليه السلام على غير الصورة التي كان يعرفه موسى عليه السلام عليها ، وكان موسى غيوراً ، فرأى في داره رجلاً لم يعرفه ، فرفع يده فلطمه ، فأتت لطمته على فقء عينه التي في الصورة التي يتصور بها ، لا الصورة التي خلقه الله عليها ، ولما كان المصرح عن نبينا r في خبر ابن عباس ، حيث قال : "أمني جبريل عن البيت مرتين" ، فذكر الخبر ، وقال في آخره : "هذا وقتك ووقت الأنبياء قبلك" .. كان في هذا الخبر البيان الواضح أن بعض شرائعنا قد تتفق ببعض شرائع من قبلنا من الأمم.
ولما كان من شريعتنا أن من فقأ عين الداخل داره بغير إذنه ، أو الناظر إلى بيته بغير أمره من غير جُنَاحٍ على فاعله ، ولا حرج على مرتكبه ؛ للأخبار الجمة الواردة فيه التي أمليناها في غير موضع من كتبنا ـ كان جائزاً اتفاق هذه الشريعة بشريعة موسى، بإسقاط الحرج عمن فقأ عين الداخل داره بغير إذنه ، فكان استعمال موسى هذا الفعل مباحاً له ، ولا حرج عليه في فعله.
فلما رجع ملك الموت إلى ربه وأخبره بما كان من موسى فيه ، أمره ثانياً
بأمر آخر ، أمر اختبار وابتلاء كما ذكرنا من قبل ، إذ قال الله له : قل له : إن شئت فضع يدك على متن ثور ، فلك بكل ما غطت يدك بكل شعرة سنة ، فلما علم موسى كليم الله ـ صلى الله على نبينا وعليه ـ أنه ملك الموت ، وأنه جاءه بالرسالة من عند الله ، طابت نفسه بالموت ، ولم يستمهل ، وقال : فالآن.
فلو كانت المرة الأولى عرفه موسى أنه ملك الموت ، لاستعمل ما استعمل
في المرة الأخرى عند تيقنه وعلمه به ، ضد قول من زعم من أصحاب حديث حمالة الحطب ورعاة الليل ، يجمعون ما لا ينتفعون به ، ويرون ما لا يؤجرون عليه ، ويقولون بما يبطله الإسلام ، جهلاً منه لمعاني الأخبار ، وترك التفقه في الآثار ، معتمداً منه على رأيه المنكوس ،
وقياسه المعكوس".
* قلتُ : ونقل الحافظ في "الفتح" (6/442) عن ابن خزيمة نحوه وهذا البيان من الحافظ الجليل ابن حبان رحمه الله يأتي على اعتراض "البيطري" من القواعد ، وقد تَعرِضُ شبهة لآحاد الأذكياء فاتت على المعترض ، وهي في قوله : "أجب ربك" ، فقد يقول قائل : إن هذه الكلمة كانت كفيلة بأن يعرف موسى عليه السلام أنه مرسل من عند الله.
فقد أجاب ابن حبان (14/117) قائلاً : "هذه اللفظة (أجب ربك) قد توهم من لم يتبحر في العلم ، أن التأويل الذي قلناه للخبر مدخول ، وذلك في قول ملك الموت لموسى : (أجب ربك) بيان أنه عرفه ، وليس كذلك ، لأن موسى عليه السلام لما شال يده ولطمه ، قال له : (أجب ربك) ، توهم موسى أنه يتعوذ بهذه اللفظة ، دون أن يكون رسول الله إليه ، فكان قوله : (أجب ربك) الكشف عن قصد البداية في نفس الابتلاء والاختبار الذي أريد منه". انتهى
ثم قوله لموسى عليه السلام : (أجب ربك) معناه : سلم لي نفسك لأنتزع روحك، فهذا هو القتل، ودفع الصائل مشروع حتى لو أدى إلى قتله كما قرره العلماء ، وقد قال النبي r : "من قتل دون أهله وماله فهو شهيد".
الجواب الثاني : أنه قد ثبت عن النبي r أنه قال : "إنه لم يُقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يُخيَّر". قالت عائشة : فلما نزل به ورأسه على فخذي غُشي عليه ، ثم أفاق فأشخص بصره إلى سقف البيت ، ثم قال: "اللهم الرفيق الأعلى". فقلتُ : إذن لا يختارنا ... الحديث.
أخرجه البخاري (8/136 ، 150 ، 255 ، 11/149 ، 357) ومسلم (2444/86) ، وأحمد (6/296) ، وأحمد (6/296) ، وابن ماجة (1620) ، وحماد بن إسحاق في "تركة النبي r" (ص 52) ، وابن عبد البر في "التمهيد" (24/268-269) ، من طريقين عن عروة عن عائشة.
وفي رواية لسعيد بن إبراهيم ، عن عروة : "ما من نبي يمرض إلا خُيِّر بين الدنيا والآخرة ...".
* قلتُ : فهذا الحديث صريح في أن كل نبي كان يخيره الله عز وجل بين الحياة والموت، وقد خُير نبينا r .
فروى الشيخان عن أبي سعيد الخدري t قال: خطب رسول الله r الناس وقال : "إن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده ، فاختار ذلك العبد ما عند الله". قال : "فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله r عن عبدٍ خُيِّرَ ، فكان رسول الله r هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا.
فلما جاء ملك الموت موسى عليه السلام في صورةٍ لا يعرفها ، يقول له : "أجب ربك" ثم هو لم يُخَيَّرُ ، وكانت آية لهم ، فعل ما فعل.
فأي نكارة ـ يا عباد الله ـ في هذا الحديث الرائع ، بعد هذا البيان المختصر لمعناه ؟! ولكن الأمر كما قيل :
ومن يكُ ذا فمٍ مُرٍّ مريضٍ
يجد مُرًّا به الماءَ الزُّلالا
أما الحديث الثالث :
قال "البيطري" (ص 463-465) : "ما رواه البخاري رحمه الله بسنده إلى ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله r : "أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله" الحديث. وهو حديث مروي كذلك في صحيح مسلم (رحمه الله) بلفظ : "حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله" وليس فيه إقامة الصلاة
وإيتاء الزكاة. وهذا الحديث ـ في رأينا ـ مكذوب على رسول الله r (دون أدنى شك) ، وأن كان مروياً في صحيحي البخاري ومسلم (رضي الله عنهما) كما تبين؛ إذ القاعدة أن لا تلازم بين صحة السند وصحة الحديث ، لكون صحة المتن شرطاً أساسياً لصحة الحديث (وقد سبق بيان ذلك) ، ونحن سنبين ـ بمشيئة الله تعالى ـ من خلال دراسة المتن كيف أنه حديث مكذوب على رسول الله r .
وقبل أن نقدم الأدلة الدامغة على كذب هذا الحديث (وافترائه على رسول الله r ) ، نحب أن نلفت نظر المعترضين على ضرورة دراسة متون الأحاديث (مهما كانت واردة في الصحاح) إلى خطورة مثل هذا الحديث (خطورة عظيمة) على الإسلام حيث إنه كفيلٌ ـ لو صدقه المسلمون وعملوا به ـ بهدم الدين الإسلامي كليةً (من ألفه إلى يائه) ، وصرف الأمة الإسلامية بالتالي عن طريق الرحمن إلى طريق الشيطان (والعياذ بالله سبحانه). وسبب ذلك ـ باختصار شديد ـ هو : أن الحديث سيعطي دلالة واضحة على أن الإسلام قد فُرِضَ على الناس بالقهر (لا بالرغبة) وبالسيف
(لا بالاختيار) وهذا هو الضد تماماً الذي يخالف الإسلام ! فضلاً عن تسببه في أخذ الأمة الإسلامية إلى طريق منحرف (بعيد تماماً عن الدين الحق) يَفرِض عليها محاربة شعوب الأرض جميعاً (غير المسلمين) حتى يسلموا ويدخلوا ـ بالقهر والبطش والقتال ـ في سماحة الإسلام !! وهذا كفيل بهدم كيان الأمة تماماً لكونه يكلفهم ما لا طاقة لهم به (مما لا يرضاه الله سبحانه وتعالى لهم وبالتالي فلن ينصرهم فيه) ويجعل منهم ـ بالتالي ـ جماعة سفاحين يقاتلون كل من يخالفهم في الشريعة (والعقيدة) ! وهذا مما يُبغضه الله سبحانه وتعالى أشد البغض، ويُنَكِّل بفاعله أشد التنكيل (فلا تقوم لهم قائمة إلى يوم الدين) لأن ذلك اعتداء على منهاج الله سبحانه وتعالى باسم السنة النبوية ـ وتلك هي أهم مكامن الخطورة في هذا الحديث.
وإليك ـ أيها القارئ المحايد ـ الأدلة الشرعية (القاطعة) على كون هذا الحديث كذباً، وافتراءً على دين الله تعالى (دون أدنى عُذرٍ للمتن من تبرير أو تأويل) ، والله المستعان، وهذه الأدلة". انتهى
* قُلتُ : ثُمَّ شقق الكلام وأطاله في طائل حتى استغرق هذا الحشو أكثر من عشرين صفحة مؤداها أن هذا الحديث يعارض عدة آيات في كتاب الله تعالى منه قوله تعالى : }لا إكْرَاهَ في الدِّيْنِ{ ، ومنها : } ولَو شَاءَ رَبُّكَ لآَمنَّ مَنْ في الأرضِ كُلَّهُمْ جَمِيعاً أفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يكونوا مُؤْمِنين {، ومنها : } قُلْ يا أَيُّهَا الكَافِرونَ لا أعْبُدُ ما تْعْبُدُونَ{ ، ومنها : } إنْ عَلَيْكَ إلاَّ البَلاغُ{ .
وفي آياتٍ أخرى حشدها وجعل يفسرها ليدلك على أن هذا الحديث (الخرافي) ـ كما يسميه ـ يعارض القرآن.
والجواب عن هذا الخَطَل ـ متحاشياً الحشوَ ـ أن يقال :
إن الناسَ ثلاثةٌ : مسلمٌ وكافرٌ ومنافقٌ.
فليس المسلمُ هو المقصود بالحديث بداهةً، ولمنافقُ ليس داخلاً فيه أيضاً لأنه أظهر الإسلام فلا سبيل لنا عليه، ولما أراد خالد بن الوليد t أن يقتل جدَّ الخوارج الذي قال للنبي r : اعدل يا محمد. قال له النبي r : "لا ، لَعلَّهُ أن يكون يُصلِّي" قال خالد : وكم من مُصلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه. فقال رسول الله r : "إني لم أومر أن أُنقِّب عن قلوب الناس، ولا أشقَّ بطونهم". أخرجه الشيخان وغيرهما من حديث علي بن أبي طالب t. فلم يبق من أقسام الناس إلا الكافر.
فكلمة : "الناس" في الحديث من العامِّ الذي يراد به الخصوص ، وقد ورد هذا صريحاً فيما رواه أبو داود (2642) ، والنسائي (7/75) ، والدارقطني (1/232) ، والبيهقي (3/92) عن يحيى ابن أيوب ، قال : حدثني حميدٌ أنه سمع أنساً مرفوعاً : "أُمرتُ أن أقاتل المشركين حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ... الحديث".
وجماهير أهل العلم كأبي حنيفة ومالك وأحمد وجماهير أصحابهم أن الكافر لا يُقتل لمجرد كفره ، ولذلك لا يُقتل الصبيان ، ولا النساء ، ولا الرهبان أصحاب الصوامع ، ولا الزَّمني إلا إذا أعانوا بالقول أو بالفعل ، إنما يُقتل من انتصب لحرب المسلمين ، ومَنَعَ تبليغ الإسلام إلى مَنْ ورائهم وما علمنا قطُّ أن النبي r أَكْرَهَ أحداً على الإسلام ، أو قتله لمجرد أنه كافر ، بل من سالمه أو هادنه أو دخل معه في حلفٍ كان يكف عنه.
وذهب الشافعي وبعض أصحاب أحمد إلى قتل كل كافر وجعل العلة الكفر، والقول الأول هو الصواب الذي ينصره الكتاب والسنة.
ويدل على ذلك ما رواه سليمان بن بريدة، عن أبيه قال: كان رسول الله r إذا أمَّرَ أميراً على جيش أو سرية أوصاهُ في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً. ثم قال: "اغزوا باسم الله ، قاتلوا من كفر بالله ، في سبيل الله اغزوا وتغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً ، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال (أو خلال) فأيَّتُهُن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم. ثم ادعهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين ، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيءٌ إلا أن يجاهدوا مع المسلمين ، فإن هم أبوا فسلهم الجزية ، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم، وإذا حاصرت أهل حصنٍ فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه ، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك ، فإنكم أن تُخفروا ذممكم وذمم أصحابكم ، أهون من أن تُخفروا ذمة الله وذمة رسوله. وإذا حاصرت أهل حصنٍ فأرادوك أن تُنزِلَهم على حكم الله ،
فلا تنزلهم على حكم الله ، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا".
أخرجه مسلم (1731/2-3) وغيره.
ومجال القول واسع جداً لاسيما في رده على الحافظ ابن حجر ، وقد استوفيت الرد عليه، وأبنت عن جهله وزغله في كتابي "الجهد الوفير في الرد على البيطري نافخ الكير" وقد كتبت منه مجلدةً ، واللهُ أسألُ أن يُعينني على إتمامه على الوجه الذي يُرضيه عني.
وأُذكِّرُ "البيطري" أنه لن يكون أحسن حالاً من محمودٍ أبي رية والسيد صالح أبي بكر، ومن قبلهم غُلاةِ الروافضِ ، فقد ذهبوا إلى مزبلة التاريخ ، وبقيت السنة النبوية شامخة، يُقرِّبها الأساطين دانية القطاف إلى
جماهير المسلمين.
وقد أطلق بعض الأذكياء على مثل "البيطري" وأشياعه لقب "المجددينات" فقال له سامعه: ما هذا الجمع الغريب ؟ ما هو بجمع مذكر سالم ، ولا هو جمع مؤنث سالم ! فقال له : هذا "جمع مُخَنَّثٍ" سالم ، فأقسم له سامعه أن اللغة العربية في أشد الحاجة إلى هذا الجمع ، خصوصاً في هذه الأيام.
فهي والله فوضى ولا عُمَرَ لها ! وقد أعطاني الكتاب بعض أفاضل إخواني وطلب مني أن أرد والتمس مني ذلك ، وطلب إبطال ما هنالك ، فلما انفصلتُ بتُّ ليلتي متفكراً ، فقرع خاطري ما قاله أبو سفيان يوم أُحُد : أفيكم محمدٌ ؟ أفيكم أبو بكر؟ أفيكم عُمر ؟ فقال النبي r "لا تجيبوه". تعاوناً به ، وتحقيراً لشأنه. فلما قال : اُعلُ هبل. فقال لهم رسول الله r :
"ألا تجيبوه ؟" قالوا : وما نقول ؟ قال : "قولوا: الله أعلى وأجل". فقال
أبو سفيان : لنا العُزّىَ ولا عُزى لكم. فقال لهم r: "قولوا : الله مولانا ولا مولى لكم" فعلمتُ أن النبي r أمرهم أن يجيبوه إعلاء لجناب التوحيد ، وإظهاراً لعزِّة من عبده المسلمون فحينئذٍ جرَّدتُ أسنة العزائم والردِّ ، واستعنتُ على ردِّ أباطيله بالواحد الفرد ، وليت مصنف هذا الهذيان ، تَنكَّبَ عن ميدان الفرسان ، ليسلم من أسنةِ ألسنتهم عِرضُه، وينطوي من بساط المشاجرة طوله وعرضه، ولم يسمع ما يضيق به صدره، ولم يَنهَتِكْ بين أفاصل الأمة ستره ، وإن قد أبي إلا المهارشة والمناقشة، والمواحشة والمفاحشة، فليصبر على حزُ الغلاصم، وقطعُ الحلاقم، ونكز الأراقم، ونهش الضراغم، والبلاء المتراكم المتلاطم، ومتون الصوارم. فوالذي نفسي بيده ما بارز أهل الحقِّ قطُّ قِرنٌ ، إلا كسروا قرنه ، فقرع مِنْ نَدَمٍ سِنَّه، ولا ناجزهم خصم إلا بشروه بسوء منقلبه، وسدوا عليه طريق مذهبه لمهربه، ولا فاصحهم أحدٌ ـ ولو كان مثل خُطباءِِ إياد ـ إلا فصحوه وفضحوه ، ولا كافحهم مقاتل ـ ولو كان من بقية قوم عاد ـ إلا كبوه على وجهه وبطحوه، هذا فعلهم مع الكُماةِ الذين وردوا المنايا تبرعاً ، وشربوا كؤوسها تطوعاً ، وسعوا إلى الموت الزُّؤام سعياً ، وحسبوا طعم الحمام أرياً، والكُفَاةِ الذين استحقروا الأقران فلم يهُلهُم أمرٌ مَخُوفٌ ، وجالوا في ميادين المناضلة واخترقوا الصفوف ، وتجالدوا لدى المُجادلَةِ بقواطع السيوفِ.
والله غالبٌ على أمرِهِ ولكنَّ أكثر الناسِ لا يعلمون.
نفس المصدر السابق الفتوي رقم 4