قرينة تباعد البلدان وإدخال الوسائط عند مسلم رحمه الله:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فصل:
اختلف العلماءُ في تحديد مذهب مسلم رحمَهُ اللهُ في مسألة تباعدِ البلدانِ هَل هيَ قَرينةٌ مبعدة لاحتمال السماع عنده أم لا؟
ومقصود هذا الفصلِ هو دراسةُ ذلكَ، وسأفردُ فصلاً آخرَ أُناقشُ فيه لم راعَ مسلمُ قرينة إدخالِ الوسائطِ.
فأقولُ بداية وبالله التوفيقِ: قسمَ بعضُ الباحثينَ ممن ردَ علىَ الشيخ حاتم أنواعَ العنعناتِ إِلى أقسامٍ: قسم صاحبته قرائن مقوية للسماع واللقاء، وقسم صاحبته قرائن مقوية لعدم اللقاء والسماع، وقسم خال عن أي نوع من القرينتين، والمقصود بالقرائن هنا ما زاد على انتفاء التدليس واستعمال الصيغة المحتملة للسماع، وتبقى صورة خلو العنعنة عن كلا القرينتين فيما بلغنا، وأيا كان فإن هذا التقسيم يبدو مسلما من طرف الشيخ حاتم، كما يتجلى من خلال كلامه حيث شرح أن مسلما يحكم باتصال صورتين ولا يحكم باتصال الثالثة[1]، وذلك عند وجود قرائن مبعدة لاحتمال السماع، لكنه تناقض حين ألزم ابن رشيد والدكتور الدريس لميلهما إلى القول بأن البخاري قد يحكم باتصال الصورة الأولى ( أعني حين تقوى القرائن)، بقوله: "ومن أين لهم أن مسلما لم يكن مراعيا لتلك القرائن؟ حتى يجعلونه مخالفا للبخاري".
فوجه المخالفة ظاهر إذ أن البخاري لا يحكم باتصال الصورة الثانية: ( حين تخلو العنعنة عن القرائن المبعدة للسماع ولا تكون هناك قرائن مقوية له)، بينما القرائن المقوية للسماع هي شرط كمال عند مسلم لا شرط صحة.
كما أنبه إلى أن الشيخ إبراهيم اللاحم نفى أن يكون مذهب مسلم إعمال قرائن السماع أو نفيه، ثم كأنه تراجع فقال في كتابه الاتصال والانقطاع ص 152: "ومن ذلك أن بعض الباحثين وهو يذهب أيضا إلى أن الجمهور يشترط العلم بالسماع ذكر قول أبي زرعة:" عكرمة عن علي مرسل"، في معرض سرده لنصوص الأئمة الدالة على الاشتراط، وهذا النص لا يصلح لذلك، فإن عكرمة كان سنه نحو 15 عاما حين قتل علي، وكان علي بالكوفة وعكرمة بالبصرة، ثم بالمدينة، فمثل هذا خارج محل النزاع، وروايته مرسلة على جميع الآراء، إذ الإمكان الحديثي الذي ذكره مسلم غير موجود فيها".
فإن كان مقصود الشيخ أن الإمكان الحديثي يتنافى عند مسلم مع تباعد البلدان، فهذا تناقض مع أول كلامه ( نفيه لكون مسلم لا يعمل قرائن السماع أو نفيه)، ويضيق الخلاف بينه وبين الشيخ حاتم .
فصل:
الذي ينصره الشيخ حاتم في كتابه " إجماع المحدثين ": أن مسلما يراعي قرينة اتحاد البلد إضافة إلى المعاصرة ويعتبر غيابها مبعدا لاحتمال السماع فلا تكفي مجرد المعاصرة، وهو ما ذهب إليه العلائي والصنعاني و يبدو أنه رأي ابن القيم كذلك كما نقل ذلك السخاوي عنه في الجواهر والدرر ص 57.
ولقد استدل الشيخ حاتم في كتابه بأدلة منها:
الأول: نصين لمسلم في مقدمة صحيحه هما في رأي الشيخ دليل صريح على اعتبار أمر زائد على مجرد المعاصرة، قال الشيخ: الأول : صريح كلامه وذلك في قوله بعد ذكره (الدلالة البينة): " أما والأمر مبهم على الإمكان الذي فسرنا ، فالرواية على السماع أبدا حتى تأتي الدلالة التي بينا".
فتأمل قوله ( الأمر مبهم )، وما تدل عليه من أن الحكم بالاتصال بين المتعاصرين إنما يقول به مسلم عندما لا تكون هناك مرجحات وقرائن تميل بكفة المسألة إلى عدم السماع، إذ لو كانت تلك المرجحات والقرائن لم توصف المسألة بأن الأمر فيها مبهم[2].
أما النص الثاني الذي يصب في المصب ذاته في رأي الشيخ هو قول مسلم: " أن كل إسناد لحديث فيه فلان عن فلان وقد أحاط العلم بأنهما قد كانا في عصر واحد، وجائز أن يكون الحديث الذي روى الراوي عمن روى عنه قد سمعه منه وشافهه به".
قال الشيخ:" فتنبه إلى أنه ذكر المعاصرة ثم أضاف شرطا آخر، وهو جواز السماع وإمكانه، وهو يعني: عدم وجود قرائن تبعد احتمال اللقاء".
مع العلم بأن معنى القرائن المبعدة لاحتمال اللقاء في كلام الشيخ هي إدخال وسائط بين الراويين ، أو تباعد البلدان، أو نكارة المتن.
وذكر الشيخ أن لمسلم كلاما قد يفهم منه أنه يكتفي بالمعاصرة مجردة، وأجاب عن ذلك بأن هذا منه كلام مجمل يقضي عليه ما فصله في مكان آخر وقد سبق ذكره.
الدليل الثاني في رأي الشيخ: هو تطبيقات مسلم رحمه الله، فقد اجتنب مسلم إخراج حديث الحسن عن عمران بن حصين مع أنهما متعاصرين لما يزيد عن ثلاثين عاما.
ثم نقل عن ابن رجب في مكان آخر: أن مسلما قال:" وأبو صالح باذام قد اتقى الناس حديثه، ولا يثبت له سماع من ابن عباس". مع أن باذام قد عاصر ابن عباس قطعا.
قال الشيخ: ليتأكد لديك أن مسلما كان يراعي القرائن، وأنه لم يكن يكتفي بمطلق المعاصرة.
ثم احتج بالقصة المشهورة التي سأل فيها مسلم البخاري عن علة حديث كفارة المجلس فأعله البخاري رحمه الله بعلتين منها أن عقبة لا يعلم له سماع من سهيل، فلم يكن من مسلم إلا أن يقر بالأستاذية للبخاري وهذا منه إقرار بعدم سماع عقبة من سهيل، ومن ثم فمسلم مراع للقرائن الزائدة على مطلق المعاصرة.
أما الدليل الثالث: فنص عالمين من علماء الحديث وحفاظه على مراعاة مسلم للقرائن، ألا وهما العلائي وابن القطان الفاسي، فالأول نص على قرينة تباعد البلدان، والثاني على إدخال الوسائط.
أما الدليل الرابع في رأي الشيخ: هو مكانة الإمام مسلم وتقدمه في فنون الحديث ونقد السنة، هذه المكانة العلية التي يمتنع معها أن لا يراعي مثل هذا الإمام المبرز مثل هذه القرائن.
هذه كل الأدلة التي احتج بها الشيخ حاتم في كتابه، ورغم أنها لا تصب كلها في صالح قرينة تباعد البلدان إلا أنها تدل دلالة عامة على مراعاة مسلم للقرائن المبعدة لاحتمال السماع، وقرينة تباعد البلدان لا شك داخلة فيها، وستأتي مناقشة بعض هذه الأدلة بإذن الله.
أما الفريق الثاني من العلماء والباحثين فيرون أن مسلما لم يزد على المعاصرة المجردة شرطا آخر، بل احتمال اللقاء وإمكانه إنما هو ما يتيحه الإدراك الزمني لراو ما روى شيئا عن آخر مع عدم الأدلة المنافية لهذا الاحتمال، و تباعد الأمكنة ليس قرينة تنافي هذا الاحتمال عند مسلم رحمه الله، واحتجوا لفهمهم هذا بأدلة منها:
كلام مسلم في المقدمة: فبعد أن رأى الشيخ خالد الدريس : أن في فهم العلائي والصنعاني لكلام مسلم نظرا استدل لذلك بالتالي:
- ذكر تباعد البلدان أو تقاربها غير منصوص عليه في كلام مسلم البتة.
- إمكان اللقاء المقصود في كلام مسلم إنما هو ثبوت المعاصرة بدليل قوله: (وجائز ممكن له لقاؤه والسماع منه، لكونهما جميعا في عصر واحد)، وقوله (مسلم) بعد أن ذكر أسانيد لم يثبت فيها لقاء أو سماع وهي على رأي الأئمة صحيحة: (إذ السماع لكل واحد منهم ممكن من صاحبه غير مستنكر، لكونهم كانوا جميعا في العصر الذي اتفقوا فيه).
-فإن شكك مشكك في هذا الفهم فإن صنيع مسلم في صحيحه هو الفيصل في الأمر، وقد وجدناه احتج بأحاديث لرواة متعاصرين لم تكن بلدانهم متحدة، منها حديث حميد بن عبد الرحمن الحميري عن أبي هريرة في فضل صيام الشهر المحرم.
وحميد بصري وأبو هريرة مدني وقد نص مسلم أنه لم يثبت بينهما لقاء.
واحتج بحديث عبد الله بن معبد الزماني عن أبي قتادة في فضل صيام يوم عرفة، وعبد الله بصري وأبو قتادة مدني وقد شكك البخاري في سماع عبد الله من أبي قتادة.
واحتج أيضا بحديث أبي أيوب المراغي عن عبد الله بن عمرو في المواقيت، مع أن أبا أيوب بصري وعبد الله بن عمرو مصري ثم طائفي، وقد تشكك المنذري في سماع المراغي منه.
و هذا الدليل أعني استقراء صنيع مسلم من خلال صحيحه - هو أقوى الأدلة في رأي الشيخ خالد لكونه تفسيرا عمليا لقوله، ثم عقب قائلا: "واحتجاج مسلم بهذه الأحاديث مما يدل على أن المقصود بإمكان اللقاء ليس تقارب البلاد، وإنما أن يكون اللقاء محتملا غير مستبعد".
- قال السخاوي في شرح الألفية 1/287: "على أن مسلما موافق للجماعة فيما إذا عرف استحالة لقاء التابعي لذلك الصحابي في الحكم على ذلك بالانقطاع، وحينئذ فاكتفاؤه بالمعاصرة إنما هو فيما يمكن فيه اللقاء".
فانظر إلى تعبيره بلفظ الاستحالة، وتباعد البلدان لا يلزم منه استحالة اللقاء كما هو ظاهر ، والله أعلم.
- وعليه فإن مقصوده عندهم بالدلالة البينة هي تلك الأدلة التي اتضح من خلالها عدم حصول اللقاء والسماع، وأن تباعد البلدان ليس دلالة بينة تنافي هذا الاحتمال ، فالسلف كانوا معرفين بالرحلة في طلب العلم والحج للقاء العلماء والمحدثين، كما أن استعمال العنعنة من طرف غير المدلس يرجح جانب اللقاء والسماع، إذ غير المدلس لا يستعمل ألفاظا تحتمل السماع فيما لم يسمع وإلا كان مدلسا، وما دامت العنعنة تحتمل السماع لم يجز له أن يستعملها في ما لم يسمع.
والخلاصة أن المقصود بالدلالة البينة في كلام مسلم هي تلك التي لا يبقى معها أي احتمال للسماع كإخبار الرواي بأنه لم يسمع ولا وقع بينه وبين من روى عنه كتاب أو غير ذلك من الأدلة القاطعة لاحتمال السماع ، والله أعلم.
هذا الفهم هو ما ذهب إليه كثير من العلماء والحفاظ كابن الصلاح والحافظ رشيد الدين العطار وابن رجب والعراقي والحافظ ابن حجر والمعلمي.
قال ابن الصلاح في صيانة الصحيح ص84: عند الحديث عن أثر رواه ميمون بن أبي شبيب عن عائشة: "وعند مسلم التعاصر مع إمكان التلاقي كاف في ثبوت الإدراك، فلو ورد عن ميمون أنه قال: لم ألق عائشة، أو نحو هذا لاستقام لأبي داود الجزم بعدم إدراكه".
مع العلم أن عائشة مدنية وميمون كوفي، وفي كلام ابن الصلاح هذا يتضح جليا أن الدلالة البينة عند مسلم هي الأدلة التي لا تتيح أي احتمال للقاء والسماع، بخلاف تباعد البلدان فإنه لا منافاة بينه وبين احتمال السماع عنده كما سبق ذكره، هذا وقد عارض ابن القيم هذا الاستدلال وقال أن الأئمة يراعون أمورا أخرى وراء المعاصرة كما في الجواهر والدرر للسخاوي، ولذا جعلت ابن القيم مع أصحاب المذهب الأول والله تعالى أعلم.
وقال الحافظ العطار في الفوائد المجموعة ص 352: " وقال ابن أبي حاتم: " سمعت أبي يقول: مجاهد عن عائشة مرسل".
والعذر لمسلم ما بيناه في غير موضع من هذا الكتاب، وهو اعتبار التعاصر وجواز السماع وإمكانه، ولا خلاف في إدراك مجاهد لعائشة ومعاصرته لها".
ومجاهد مكي وعائشة مدنية.
وقال في رواية أبي بكر بن حزم عن ابن عباس ص 361: " أما روايته عن ابن عباس غير معروفة، لكنها جائزة ممكنة، لأن ابن عباس توفي سنة 68 وقيل 69 وقيل سبعين، فإدراكه معلوم غير مشكوك فيه، وسماعه منه جائز ممكن، فهذا محمول على الاتصال عند مسلم حتى يقوم دليل على أنه لم يسمع منه"[3].
أما المعلمي فكلامه واضح ومبسوط في محاله حتى أنه قسم درجات إمكان اللقاء إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول: ما يقوى فيه جانب السماع واللقاء، كأن يصرح بالسماع أو يعلم اللقاء، ويدخل فيه ما قوته القرائن: كأن يعاصره لمدة طويلة وهما من نفس البلد.
القسم الثاني: ما يتساوي فيه جانب اللقاء وعدمه، ويندرج تحت هذا القسم عند مسلم الرواة الذين رووا عن بعضهم مع تباعد بلدانهم.
الثالث: ما يقوى فيه جانب عدم اللقاء.
فالقسمان الأولان هما اللذان يحتج بهما مسلم ، وإنما يمشي مسلم القسم الثاني لظهور الصيغة وانتفاء التدليس ، وعلل المعلمي ذلك في موضع آخر أن السلف كانوا يحجون للقاء، فهذه كلها مرجحات لكفة إمكان اللقاء. انظر رسالة خالد الدريس، اشتراط اللقيا: ص 323- 324.
ويبدو أنه رأي الشيخ مشهور سلمان في كتابه الإمام مسلم ومنهجه في الصحيح 2/522، حيث يقول: ( ومن الجدير بالذكر أن قول مسلم ليس على إطلاقه، فهو يبحث عن اللقاء عندما تتوفر له قرينة على انتفاءه، لأنه يعتبر المعاصرة مع إمكان اللقاء لا مع القرينة على نفي اللقاء ).
على أني متردد في المقصود من تعبيره بالقرائن المنافية هل تدخل فيها القرائن التي تضعف احتمال اللقاء ولا تنافيه من كل وجه أم لا؟، والظاهر هو الثاني، لسببين :
الأول: اختياره وصف القرائن بأنها منافية للسماع.
الثاني: قوله ص 524: (أنه مسلم- لا يشترط في الإسناد المعنعن إلا المعاصرة فقط).
وقوله أيضا: (قال العلماء إن مذهب مسلم متساهل، إذ كيف تحمل عنعنة الرواة غير المدلسين على السماع بمجرد معاصرتهم لبعضهم البعض لاحتمال أنهم سمعوا من بعضهم).
هذا ما أردت تلخيصه وإثباته من أدلة الفريقين، أرجو أن أكون وفقت لذلك.
فصل:
قبل أن ألخص البحث وأصل إلى ذكر النتيجة، أود أن أناقش بعض أدلة الشيخ حاتم، وقد طالعت ردا للشيخ في الموضوع ذاته لأجل الحصول على مزيد من الأدلة حول المسألة فلم يزد على دليل إمامة مسلم أي دليل يذكر، والله الموفق.
أما دليل اجتناب مسلم تخريج حديث الحسن عن عمران بالرغم من المعاصرة الطويلة، فهو عند الشيخ يدل على مراعاة مسلم للقرائن سوى المعاصرة، هذه القرينة التي أخفاها ولم يوضحها هنا، هي قرينة كثرة إرسال وتدليس الحسن البصري، ولا أحد ناقش في ذلك، فكلام مسلم إنما هو في غير المدلس ذلك أن شروط الحكم بالاتصال عنده هي المعاصرة وإمكان اللقاء مع انتفاء التدليس، أما المدلس فإنه كما وضح في مقدمته لا يكتفي فيه بالمعاصرة وإمكان اللقاء بل بثبوت السماع أو اللقاء، ومادام الحسن مدلسا ولم يثبت له سماع من عمران بن حصين فالواجب هو اجتناب تخريج هذه الترجمة في الصحيح وهو ما فعله مسلم رحمه الله.
قال الإمام أحمد: لا يصح للحسن سماع من عمران بن حصين ولا من جندب ولا من أبي هريرة. وهو قول يحيى بن معين.
فظهر بهذا أن صنيع مسلم ليس من أجل القرائن التي تدور في خلد الشيخ والله أعلم.
أما الدليل الثاني: فهو إعلال مسلم لرواية باذام عن ابن عباس بالانقطاع. والظاهر أن الشيخ غفل عن شرط مهم ذكره مسلم في شروط العنعنة ألا وهو ثقة الراوي، قال مسلم رحمه الله:" كل رجل ثقة روى عن مثله حديثا وجائز ممكن له لقاؤه والسماع منه ...".
وباذام قال فيه مسلم: اتقى الناس حديثه، والعنعنة هي إخبار ضمني بأن مصدر الكلام المحكي هو فلان الذي عنعن عنه، فإذا شك في نزاهة الراوي أدنى شك توقف في عنعنته، ولهذا اجتنبوا عنعنات المدلسين على خلاف و تفصيل ليس هذا محله ، فكيف إذا كان الراوي متهما بالكذب.
قال ابن المديني ، عن القطان ، عن الثوري : قال الكلبي : قال لي أبو صالح : كل ما حدثتك كذب.
و قد قال الجوزقاني : إنه متروك .
و نقل ابن الجوزي عن الأزدي أنه قال : كذاب .
فإذا اتضح هذا فما رمى إليه الشيخ غير مقصود البتة في مراد مسلم وبالله التوفيق.
أما عن الدليل الثالث: فالمقصود به قرينة إدخال الوسائط وليس تباعد البلد ذلك أن البخاري علل السند الأول وهو ابن جريج عن موسى عن سهيل به بما رواه في الأوسط 2/33: "ثنا عبد الله ثنا محمد ثنا موسى عن وهيب عن سهيل عن عون بن الله ، وذكر الحديث".
قال البخاري رحمه الله:" وهذا أولى، ولم يذكر موسى سماعا من سهيل".
وقد أسلفت في المقدمة أني سأذكر السبب الموجب لمراعاة مسلم هذه القرينة، بإذن الله تعالى .
على أن هناك فريقا من العلماء والباحثين يشكك في صحة القصة وبالله التوفيق.
فظهر بهذا أن الشيخ لم يكن موفقا فيما حاول، فكل ما دلل به اتضح أنه متعلق بشرط انتفاء التدليس، أو ثقة الراوي.
أما فهمه لكلام مسلم في المقدمة فقد خالفه فيه آخرون ولنلخص موضع الخلاف:
هل يدخل في الدلالة البينة عند مسلم قرينة تباعد البلدان، أم أن مقصوده هو تلك التي يستحيل معها تماما السماع أواللقاء؟ ظاهر كلام مسلم وصنيعه في الصحيح يدل على الثاني فقد ثبت بالدليل أن مسلما احتج بأحاديث معنعنة وفيها رواة بلادهم متباعدة ولم يثبت بينهم لقاء ولا سماع، يستطيع الباحث أن يصنفها إلى صنفين:
صنف هي من قبيل الشواهد والمتابعات.
وصنف آخر هي من قبيل الأصول، وهي التي تهمنا وأذكر منها إضافة إلى ما ورد على لسان الشيخ خالد الدريس سابقا حديثين:
الأول: خرج مسلم في صحيحه (3831): من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى عن المقداد، حديثا مطولا أوله: أقبلت أنا وصاحبان لي وقد ذهبتأسماعنا وأبصارنا من الجهد فجعلنا نعرض أنفسنا على أصحاب رسول الله صلى الله عليهوسلم فليس أحد منهم يقبلنا فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق بنا إلى أهله،الحديث.
وقد سئل ابن معين عن سماع ابن أبي ليلى من المقداد فقال: لا أدري.
وجزم في مكان آخر بعدم سماعه منه، وعبد الرحمن كوفي، والمقداد مدني.
الحديث الثاني : وروى لأوس بن عبد الله الربعي عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم " يستفتح الصلاة بالتكبير . والقراءة ، بالحمد لله رب العالمين ، وكان إذا ركع لم يشخص رأسه ، ولم يصوبه ولكن بين ذلك ، وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد ، حتى يستوي قائما ، وكان إذا رفع رأسه من السجدة ، لم يسجد حتى يستوي جالسا ، وكان يقول في كل ركعتين التحية ، وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى ، وكان ينهى عن عقبة الشيطان . وينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع ، وكان يختم الصلاة بالتسليم.
بيد أن ابن عبد البر وابن عدي جزما بإرساله عنها، وكذا البخاري في التاريخ على ما فسر ابن عدي. فانظر تحفةالتحصيل مع الحاشية ص 32.
وأوس بصري وعائشة مدنية. والحديث وإن كان لبعض فقراته شواهد فإن فيه أحرفا اختلف فيها الفقهاء كالبداءة بالحمد لله رب العالمين من دون بسملة.
هذان مثالان على السبيل التمثيل لا الحصر يفيدان بأن مسلما لم ير في قرينة تباعد البلدان ما يمنع من السماع واللقاء، فالمعنى من إمكانية اللقاء عنده عدم استحالته، والله أعلم.
فإقحام قرينة تباعد البلدان في الأدلة البينة دل الدليل على عدم صحته، والشيخ رغم اطلاعه على رسالة الدكتور خالد الدريس، وما احتج به في المسألة لم يناقشه البتة بل أجاب إجابة عامة: وهي أن ما أعل في مسلم لا يعدو كونه اختلاف اجتهاد أو هو وارد مورد الاستشهاد، أو أخرجه ليبين علته، وكان الأجدر بالشيخ في رأيي أن يناقش أدلة الدكتور لأنه ( خالد الدريس) يرى صنيع مسلم في هذه الحالة مخالفا لأئمة النقد، والشيخ حاتم يثبت موافقة مسلم للأئمة النقد في المسألة فالظرف ملائم تماما ولا يكفي التلميح فقط، و إما أن يسلم بأن قرينة تباعد البلد ليست ضارة عند مسلم ، سيما وأن استقراء صنيع إمام ما لتفسير أقواله طالما حفل به الشيخ واستدل به[4].
إذا اتضح هذا قلنا صدق الشيخ حاتم إذ يقول: هناك اختلاف اجتهاد، واختلاف الاجتهاد هذا هو بين الإمام مسلم وغيره من الأئمة في هذه الجزئية قرينة تباعد البلدان.

نتائج البحث:
- المقصود بالدلالة البينة عند الإمام مسلم هي المنافية تماما لاحتمال اللقاء والسماع، كأن يصرح الراوي بأنه لم يلق فلانا، أويخبر بذلك أحد تلامذته، وما كان من هذا الضرب من الدلائل، أما في حال القرائن التي قد تضعف احتمالية السماع ولا تنافيه من كل وجه، فإن الإمام مسلما تعامل معها على التفصيل التالي:
إن كانت القرينة تباعد البلاد، فإنها في رأي مسلم لا تنافي بينها وبين احتمال اللقاء لأن شهرة المحدثين بالرحلة في طلب الحديث إذا انتفى التدليس وكانت الصيغة المستعملة محتملة للسماع مقوية لجانب السماع عنده، ورأينا كيف خرج أحاديث من هذا النوع في الأصول.
أما إن كانت قرينة إدخال الوسائط، فإن مسلما في هذه الحالة يتطلب السماع ولا يرضى بمجرد العنعنة، فإن قيل: إن قرينة إدخال الوسائط لا تنافي احتمال السماع من كل وجه، فلعل الراوي سمع من الطرفين فلم فرق مسلم بين المتماثلين، قلنا: إنما فعل مسلم ذلك لأنه رأى أئمة النقد يتطلبون السماعات في مثل هذه الحال ولا يتطلبونها في الحالة الأولى كما حكى هو، وذلك لأجل احتمال التدليس في هذه دون الأولى كما يأتي توضيحه، فإن قيل: سلمنا لكن الحالة الأولى يتطرق إليها احتمال الإرسال، قلنا: فإن مسلما يرى أن الإرسال يتطرق لهذه كما يتطرق للتي ثبت فيها السماع واللقاء أيضا، فليزم على إعمال هذا الاحتمال التوقف في المعنعنات حتى ولو ثبت السماع في الجملة ومادام اللازم باطلا في تلك فهو باطل في هذه ولافرق، والله أعلم.
- صنيع مسلم مع بعض القرائن لا يشبه صنيع غيره من الأئمة، وذلك أنه لا يرى قرينة تباعد البلدان مانعة من الحكم بالاتصال والله أعلم.
فصل:
قد وعدت بأن أفرد فصلا يوضح السبب الذي من أجله راعى الإمام مسلم قرينة إدخال الوسائط وقدمها على غيرها.
فأقول بحول الله وقوته: إذا روى راو عن شخص ما ثم روى عنه بواسطة فإما أن يكون ثبت له السماع في الجملة أولا، والحالة الأولى لا تهمنا كما هو ظاهر.
تبقى الحالة الثانية أعني أنه لم ثبت له لقاء ولا سماع - وهي تحتمل أمرين:
فإما أن تثبت الزيادة بمعنى أن الواسطة ليست وهما من الرواة أو لا تثبت الزيادة وتكون من أوهام الرواة.
ففي الحالة التي تثبت معها الزيادة تنفتح أبواب الشك في تدليس الراوي على مصراعيها ، خصوصا وأن الإرسال الخفي من قبيل التدليس عند المتقدمين كما رجح الشيخ حاتم، فيكون تقديم مسلم هنا للقرينة إنما هو من باب الشك في تدليس الراوي، لأن شرطه أن لا يكون الراوي مدلسا، فليس أخذه بهذه القرينة إذن إلا احتياطا لشرط انتفاء التدليس.
وإما أن تكون الزيادة وهما، فلا داعي لإثبات السماع للراوي عمن روى، إذ أن المعروف عنه أنه لا يروي عنه إلا بالواسطة ولا يروي البتة مباشرة، وأن من أسقط الواسطة إنما وهم، ويكون السعي في إثبات سماعه عارية، وبالله التوفيق.
نهاية البحث والله أعلم وبه التوفيق تعالى.



[1]- هو لم ينص على ذلك صراحة لكنه يفهم من خلال كلامه، وسوف يأتي ذكر بعض كلامه في ذلك والله أعلم.

[2]- هنا يتكلم الشيخ عن صورة خلو العنعنة عن القرائن المبعدة للسماع وهي تشمل صورتين كما لا يخفى، صورة وجود قرائن مقوية للسماع، وصورة لا توجد فيها قرائن مقوية للسماع، فانبهام الأمر لا يكون إلا في غياب القرينتين، وبالله التوفيق.

[3]- انظر أيضا ص 364

[4]- والعجب أن عدوى التلميح والقفز عن مناقشة الدكتور خالد الدريس في هذه الجزئية قد سرت إلى أنصار الشيخ أيضا، فقد بحثت في الإنترنت علني أجد من يناقش هذه الأدلة فوجدت واحدا يرى في تفسير الشيخ خالد الدريس إمكان اللقاء الموجود في مقدمة مسلم تحاملا!! هكذا وبكل بساطة ألغى أدلة الشيخ بشفطة قلم كما يقال ولم يكلف نفسه جهد مناقشتها بل ولا ذكرها إلا بالإشارة إلى صفحاتها في الكتاب، فهل هذا الدليل بهذا الضعف حتى لا يعرج عليه البتة أم أن وراء الأكمة ما رواءها؟، ولطالما تباكى هؤلاء على تحامل الخصوم وعدم الإنصاف فهل هكذا يكون الإنصاف؟
كما أن الشيخ حاتم وفي معرض رده على كتاب الاتصال والانقطاع رأى بأن الحكم بانقطاع أحاديث في صحيح مسلم بهذه المثابة سعي في خراب السنة، فهل الأئمة المتقدمون الذين حكموا على هذه الأحاديث وأمثالها بأنها منقطعة ساعون في خراب السنة ؟ أم أن الأمر مجرد خلاف في شرط من شروط الحديث الصحيح لا يعدو كونه اختلافا في الاجتهاد كما سبق؟ وعلى قاعدة الشيخ فإن لكل باحث ترجح لديه ثقة روا ما أو ظهر له اتصال سند ما، أن يتهم غيره ممن لم يترجح له ذلك بالسعي في تخريب السنة لأنه بذلك يحكم على أحاديث رواها بالضعف !! فالإنصاف الإنصاف .
وهل قول ابن الصلاح والنووي بأن مسلما أقل من تخريج هذا النوع في الأصول، هو سعي في الاعتذار للإمام مسلم لأجل المخالفة التي حصلت منه في هذه الجزئية أم أنه إدراك لخطورة الموقف كما يدعي الشيخ حاتم؟ لماذا هذا التعسف في حمل كلام العلماء على غير محامله ؟