في كوكب استخلافي كُنْتُ مستقرا ومتأملاً في سمائه،
شاخصا بعيني إلى العلو، محاولا معرفة شمالي من جنوبي ، وشرقي من غربي، في ليلةٍ اسْتَكْمَلَتْ فيها دائريةُ القمر،
فجذبني وأخذَ بلب قلبي ضوؤه العاكسُ المشعّ، وشكلُه البهيجُ النيّر، وأعجبني تلألأ النجوم الشم في السماء البيضاء، وذكّرني حفوف النجوم حول القمر، طواف العباد حول الكعبة في الحرم.
وبَعْدَ بُرهة من الزمن وبالنظرة العلويّة عرفت وجهتي، فارتقيتُ وعشتُ تأملَ جَمَالِيّة السماء في تفكير مرهف وعقل متعقل،
فحاكيت القمر فأخذني الوقت معه في تمتماتٍ بَينيَّةٍ وهمسات تتداخل مع بعضها البعض، ومع طول المحاورة والمناظرة ما علمت إلا وقد نفذ بكليته إلى صدري وفتح قلبي ووصل إلى لبه فأحدث وشرخ فيه معنى جَمَاليّته، فانتشيت نشوة الفَرِح المُحِب، ولصغره في عيني مددتُ يدي لأُمسكَ به حسبي أنه قريب، لكن لبعده رددت يدي إلى كياني، وعلمتُ أن نفسي قد استغرقت في حبّها حتى رأتْ وظنت أنه قريب المنال، فما إن وصلت لذةُ جمالية القمر غايتها في نفسي وضعت كفي على قلبي مقرا بالزينة السمائية المتألقة بالقمر الساطع، وهذه الوضعية الحانية واللمسة الغريبة توحي بالوصول إلى غاية الأمر النفسي الداخلي،
إذ النفس عندما تهيج تُحدثُ في الغالب فعلا ملموسا يناسب هيجانها الداخلي، ألم تسمع قولَ الله عندما رأى سحرة فرعون ما رأوا :
"وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدَاً "، والصحابة الكرام كانوا يركنون إلى التكبير عند كل أمر عجيب يؤثر في النفس، ووجدتُ أن سجود الشكر هو المناسب عند تجدد النعم، وعلمت أن المشركين كانوا قد سجدوا عندما قرأ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم سورة النجم لِمَا حدثَ في نفوسهم من قوة التأثير القرآني، وفهمت لـمَ قطّع نسوة المدينة أيديهن عندما رأينَ يوسف عليه السلام ، ويمكن أن أزيد في التمثيل بالأمر الشرعي وذلك بالتبريك عندما تُعجَب النفس بالشيء ليخرج شرها الكامن في الداخل، والأمثلة أكثر من أن تحصر.


ثم عُدت ببصري إلى أرضي، محاولا أن أجد وألامس قمرا أرضيا، لأنفذ إلى صدره، وأكن له تقديري واحترامي، فظفرت به، لكني وجدته قد واراه التُرْب، فنظرت فإذا أثره ظاهر، وانعكاس خيره بارز، وإذا به قد ترك على ظهرالأرض مادة الإشراق والبهجة : الكتاب والسنة، فهو كالسراج في الوهج والإشعاع، فتعلقتُ وركبتُ في خيره الذي جاء به، واستضأتُ بضياءه الذي بدد ظلمات الجهل والشهوات، ووجدتُ في نوره المنتشر والذي يغلب شعاع القمر السمائي غنية لكل نفس متوهجة تريد الحق، فصدّقتُ وأيقنتُ أن ببعثته قد أكمل الله به الدين الإسلامي فكمُلت برسالته دائرة الملة البهية وذلك في حجته الوداعية،
وتأملت في سبب انعكاس ضوءه الذي أحدثه على الأرض، وبثه في فجاجها، وأدخله بيت المدر والوبر، فإذا هو تطبيقه ما يوحى إليه من ربه،
" وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى".


ثم رجعت إلى سمائي لعلي استزيدُ زينةً وجمالاً فوجدت فيها الكواكب المتدلية والتي قد قادتني وجهتي من قبل، فحاكيتها ونادتني بصوت مرهفٍ وصل إلى أذن قلبي قائلةً :
جَمالُ السماء فيــنا، ونحن للأنام في الظلام هاديــنَ، والشياطينُ بنا مرجوميــنَ،
وما إن هدأ صوتها حتى طرق مسمعي صوت نابع من داخلي قادم من ذاكرتي ليصل إلى نقطة وصول صوت النجوم مرددا:
" أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم "، فانشغلت بنجوم الأرض لقربها وللمعانها وَتَلأَلُئِهَا مترضيا عنهم، متعجبا من أخبارهم، وإذا هم نجوم المعرفة وجمالها، وقواعد الفهم والاستنباط والاستدلال لطالب العلم والهدى، وإذا هم السهام الشهب في إزهاق الباطل وإبطاله، وهم السبَّاقون الخيّرون المُفرِّدُون، وحداني الشوق إليهم وإلى عيشهم وكفافهم وطُمأنينة قلوبهم وفقرهم وغنى نفوسهم ...
فذرفت دمعتي على خدي فرحا بهم وشوقا إليهم وحزنا عليهم وعلى أيامهم التي مضت بهم في ركبها وسارت بهم في مسيرتها، فكفكفت الدمع من على خدي وهَدَّأتُ نفسي وأفهمتها وروضتها على أني إلى الإقتداء بهم أحوج من إقتداء التائه إلى النجوم في الفلاة المظلمة.


وفي نهاية التفكير والتأمل وقبل أن انسلخ من حالتي التأملية، أخذ بصري مصباحٌ يتلون ويختفي ويظهر من بعيد يختلف في لمعانه عن لمعان النجوم السماوية، نقلني من حال المـتأمل إلى حال المتعجب، فرأيت الاختلاف يزداد، فشاركت سمعي في التعجب فإذا ينبع من جهته صوتُ دوي، عندها استنفدت القوى في محاولة أن أجد جوابا فإذا الصوت يقرب أكثر وأكثر، فبان لي الأمر وانجلى فإذا هو مصباح طائرةٍ لا بَريقُ نَجمٍ، عندها قلت لا يمكن أن أهتدي به في السماء الدنيا لأفوله واختلافه وعدم جماليته وازعاجه، علمت حينها أن في سماء المعرفة من لا يقتدى به ولو حصل له من البريق واللمعان ما حصل.


فرددتُ مشتاقا وطالبا الثبات: اللهم صل وسلم على النبي محمد وآله ورضي الله عن الصحب ومن تعبد .