جاء في محاضرة بعنوان ( بين الحياة والموت ) لفضيلة الشيخ المحدّث الفقيههذا التشخيص الرائع لظاهرة الحقد أحببت نقله بعد قراءته في قسم المحاظرات المفرغة في موقع الشيخ فلتتفضّلوه مشكورين :

الْحِقْدُ مَا هُوَ؟

الْإِنْسَانُ إِذَا مَا اسْتُغْضِبَ فَلَمْ يَغْضَبْ فَهُوَ حِمَارٌ -كَمَا قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ-، وَلَكِنْ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ - فَيَجْعَلُ غَضَبَهُ عَلَى مِقْيَاسِ الشَّرْعِ نَافِذاً، وَيَجْعَلُ أَثَرَهُ بِمِقْيَاسِ الشَّرْعِ فَاعِلاً، الَّذِي يَكُونُ كَذَلِكَ - هُوَ الرَّجُلُ حَقًّا.
((لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرْعَةِ...)) يَعْنِي: الَّذِي يَصْرَعُ النَّاسَ وَلاَ يَصْرَعُونَهُ، ((وَإِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ))؛ فَهَذَا هُوَ الشَّدِيدُ حَقًّا.
فَإِنْ كَانَ ضَعِيفاً لاَ يَتَمَاسَكُ، مُتَهَالِكَ الْبُنْيَانِ؛ تَنْخَرُ فِي جَسَدِهِ الْأَمْرَاضُ، نَعَم! تَأْكُلُ حِيناً كَبِدَهُ حَتَّى لاَ تَدَعَ فِيهِ خَلِيَّةً فَاعِلَةً لاَ يَسْتَقِيمُ بِعَمَلِهَا حَيَاةٌ، وَيَعْدُو أَحْيَاناً عَلَى قَلْبِهِ فَيَأكُلُهُ أَكْلاً حَتَّى لاَ يَدَعَ فِيهِ شَيْئاً، وَلاَ يَصِحُّ حِينَئِذٍ - فِيهِ - أَنْ يُقَالَ: الْقَلْبُ الَّذِي لاَ يَحْمِلُنِي لاَ يَسْتَحِقُّ أَنْ أَحْمِلَهُ، الْقَلْبُ الَّذِي لاَ يَحْمِلُنِي لاَ يَسْتَحِقُّ أَنْ أَحْمِلَهُ؛ فَلْيَذْهَبْ مَزْجَرَ الْكَلْبِ، الْقَلْبُ الَّذِي لاَ يَحْمِلُنِي لاَ يَسْتَحِقُّ أَنْ أَحْمِلَهُ.
النَّاسُ لاَ تَحْيَى بِالْأَجْسَادِ، تَحْيَى بِالْقُلُوبِ، بِالْأَرْوَاحِ، وَإِنْ كَانَتْ هُنَالِكَ مُعَلَّقَةً بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ بِنَفَسٍ يَتَرَدَّدُ، بِنَفَسٍ يَتَرَدَّدُ، لاَ يَأْتِي مِنْ دَاخِلٍ, وَإِنَّمَا يُفْرَضُ عَلَى الرِّئَتَيْنِ فَرْضاً، يُفْرَضُ فَرْضاً، يُفْرَضُ فَرْضاً، بِنَفَسٍ يَتَرَدَّدُ.
نَعَم! النَّاسُ تَحْيَى بِالْقُلُوبِ، بِالْأَرْوَاحِ، بِرَصِيدِ الرُّوحِ وَالْقَلْبِ، تَحْيَى فِي الْحَيَاةِ لاَ بِشَبَقٍ يَحْيَى بِهِ الْمَرْءُ فِي كَثْرَةِ صِفَاتٍ كَأَنَّهُ عُصْفُورٌ، وَلاَ بِتَحَمُّلٍ يَمْضِي بِهِ الْمَرْءُ فِي الْحَيَاةِ كَأَنَّهُ الْبَغْلُ أَوِ الْجَمَلُ.
لاَ! وَإِنَّمَا هِيَ الْأَرْوَاحُ وَحَيَاةُ الْقُلُوبِ، بِرَصِيدٍ يَحْيَى بِهِ الْمَرْءُ، يَبْذُلُ بِهِ الْمَرْءُ، بِكَلِمَةٍ صَالِحَةٍ، وَعَمَلٍ مُطْمَئِنٍّ عَلَى قَرَارٍ، بِعَقِيدَةٍ ثَابِتَةٍ، فَإِذَا جَاءَ الْمَوْتُ؛ جَاءت الشَّهَادَةِ - إِنْ شَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ -، وَالْأَمْرُ بَعْدُ بِيَدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لِلّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمُنْتَهى، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.
فَاللَّهُمَّ مُنَّ بِحُسْنِ الْخَاتِمَةِ، مُنَّ بِحُسْنِ الْخَاتِمَةِ، مُنَّ بِحُسْنِ الْخَاتِمَةِ؛ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
يَكْرَهُ السَّفَاسِفَ، وَهَذَا الْحِقْدُ مَا هُوَ؟
الْغَضَبُ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الْمَرْءُ لَهُ إِنْفَاذاً، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مُخْرِجا؛ً كُظِمَ -لاَ دِيناً؛ وَإِنَّمَا عَجْزاً-؛ يَصِيرُ حِقْداً، يَسْتَثْقِلُ بِهِ الْمَرْءُ الْمَحْقُودَ عَلَيْهِ، يَسْتَثْقِلُهُ، يَكْرَهُ النِّعْمَةَ الْوَاصِلَةَ إِلَيْهِ، يَتَمَنَّى لَهُ الْهَلاَكَ، وَيَكْرَهُ لَهُ الْخَيْرُ، يَحْقِدُ عَلَيْهِ، كالجمل إِذَا أَنْفَذَ غَضَبَهُ مِنْ بَعْدِ كَظْمِهِ - وَكَانَ قَبْلُ كَظِيماً - فَإِذَا أُطْلِقَ، فَإِذَا أُطْلِقَ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يُنْفِذُ غَضَبَهُ حِقْداً مَسْمُوماً.
يُقَالُ فِي الْمَثَلِ: فُلاَنٌ أَحْقَدُ مِنْ جَمَلٍ، أَحْقَدُ مِنْ جَمَلٍ؛ فَيُنْفِذُ حِقْدَهُ بِغَيْرِ وَعْيٍ، حِقْدٌ مَجْنُونٌ.
يَقُولُ الْمَأْمُونُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَيَدَعُ أَهْلَ الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدَعُوهُ))، نَعَم! لَيْسُوا أَهْلاً لِلْمَغْفِرَةِ، لَيْسُوا أَهْلاً لِلاطِّلاَعِ عَلَيْهِمْ، ((يَطَّلِعُ اللهُ إِلَى خَلْقِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانٍ؛ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلاَّ لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ))، وَفِي الْحَدِيثِ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ: ((إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- إِذَا كَانَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانٍ اطَّلَعِ إِلَى خَلْقِهِ؛ فَيْغَفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَيُمْلِي لِلْكَافِرِينَ، وَيَدَعُ أَهْلَ الْحِقْدِ)).
يَطَّلِعُ وَيَتْرُكُ، يَتْرُكُ أَهْلَ الْحِقْدِ، مَحَلٌّ نَجِسٌ بِقَلْبٍ نَجِسٍ حَوَى زِبَالَةَ الصِّفَاتِ وَقُمَامَةَ الْعَادَاتِ, وَأَتَى بِأَحَطِّ دَرَكَاتِ الْأَخْلاَقِ وَالْخِصَالِ وَالشِّيَاةِ، هَذَا إِنَّمَا تَؤُمُّهُ كُلُّ الْحَشَرَاتِ الْحَيَّاتِ وَالنَّافِقَاتِ ، هَذَا إِذَا مَا تَحُطُّ عَلَيْهِ الْهَوَامُّ الْبَغِيضَاتُ، هَذَا لَيْسَ أَهْلاً لِنُزُولِ الرَّحَمَاتِ، هَذَا مَاذَا يَكُونُ؟
هَذَا لَوْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَيْسَ شَيْئاً؛ لَكُنَّا قَدْ مَدَحْنَاهُ، كَلاَ وَاللهِ! إِنَّكَ إِنْ قُلْتَ: إِنَّهُ لَيْسَ شَيْئاً؛ تَكُونُ قَدْ مَدَحْتَهُ، لاَ، هَذَا أَحَطُّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهِ وَصْفٌ مُزْرٍ يَكُونُ بِهِ حَقِيقةً.
نَعَم! هَذَا قَلْبٌ؟!
لاَ؛ هَذَا قَلِيبٌ، لاَ؛ بَلْ هَذَا كَنِيفٌ!
لَيْسَ قَلْباً، وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ قَلْبٌ، تَذُمُّ الْقُلُوبَ, إِنْ قُلْتَ: إِنَّهُ قَلْبٌ؛ فَقَدْ ذَمَمْتَ الْقُلُوبَ - قُلُوبَ الْأَحْيَاءِ -، تَنْبِضُ بِالْحَيَاةِ، بِالْحَيَاةِ الْحَقَّةِ، تَسْتَمِدُّ الْحَيَاةَ بِقُدْرَةِ مُحْيي الْمَوْتَى، يُحِيهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِقُدْرَتِهِ، بِإِحْيَائِهِ إِيَّاهَا، هَذِهِ الْقُلُوبُ تَكُونُ لَهَا هَاجِياً وِبِهَا مُزْرِياً إِنْ قُلْتَ: هَذَا الْقَلْبُ قَلْبُ، بَلْ هُوَ كَنِيفٌ، بَلْ هُوَ أَحَطُّ مَنْ ذَلِكَ؛ إِذِ الرَّجِيعُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فَائِدَةٌ عَلَى نَحْوٍ مِنَ الْأَنْحَاءِ، إِمَّا بِذَاتِهِ - غِذَاءً لِلْهَوَامِّ وَالْحَشَرَاتِ -، وَإِمَّا بِالاسْتِحَالَة ِ - عِنْدَمَا يَصِيرُ شَيْئاً آخَرَ -، وَأَمَّا هَذَا فَهَذَا مَاذَا؟!
((فَيَدَعُ أَهْلَ الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدَعُوهُ))، أَيَّتُهَا الْقُلُوبُ الشَّارِدَةُ وَالْأَرْوَاحُ النَّافِرَةُ! إِلَى أَيْنَ؟
إِلَى أَيْنَ؟!
إِنَّ الْعَبْدَ مُعَلَّقٌ بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ بِنَفَسٍ يِتَرَدَّدُ، وَقَدْ يُفْرَضُ عَلَيْهِ، يُفْرَضُ عَلَيْهِ فَرْضاً؛ فَلاَ يَنْبُعُ مِنْهُ نَبْعاً، وَإِنَّمَا يُفْرَضُ عَلَيْهِ فَرْضاً، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ مُحْيِي الْمَوْتَى، عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، يَحُيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قَادِرٌ - هَوُ - وَقَدِيرٌ وَمُقْتَدِرٌ عَلَى أَنْ يَمُنَّ بِالْحَيَاةِ عَلَى الْجَسَدِ الَّذِي يُشَارِفُ أَنْ يُفَارِقَ الْحَيَاةَ، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَهُوَ - سُبْحَانَهُ - لاَ يَقْطَعُ رَجَاءَ الْمُرْتَجِينَ، لاَ يَقْطَعُ رَجَاءَ مَنْ يَرْتَجِيهِ؛ فَيَا رَبَّ الْعَالَمِينَ! وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ! وَيَا ذَا الْقُوَّةِ الْمَتِينُ! لاَ تَقْطَعْ رَجَاءَ عِبَادِكَ فِيكَ؛ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.