الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده؛ ثم أما بعد..
فهذه وقفة لطيفة، ونكتة مليحة، في الكلام على الأبيات الأخيرة لمنظومة الإمام ابن الجزري الموسومة بـ(الدرة المضية في القراءات الثلاث المروية).
حيث تطرق رحمه تعالى إلى وصف الجو الذي كتب فيه هذه القصيدة، وأوضح فيه عن المكان الذي نظمها فيه، وملابسات الموضوع.
وحقيقةً وبحكم محبتي للتاريخ عامةً والنجدي خاصةً؛ فقد استوقفتني هذه الأبيات الأخيرة بحكم أنها تعرضت لذكر مدينةٍ نجدية عريقة تعتبر عروس منطقة القصيم من بلاد المملكة العربية السعودية؛ ألا وهي مدينة (عنيزة).
حيث _ وبعد أن قمت بجمع ما استطعت جمعه من شروحها _ وجدت أن بعض الشراح قد جانب الصواب بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى في شرحه لهذه الجزئية من الأبيات.. وأعطى معناً متكلفاً أسفر عن اجتهادٍ شخصيٍ في الواقع لا يلام عليه هذا الشارح أو ذاك؛ على اعتبار أنها بلدة نجديةٌ لا يعرف هذا الشارح عنها شيئاً إن لم يكن سمع بها أصلاً.
وقد وقفت وتحصلت على هذه الشروح الآتية:
- شرح الإمام الزبيدي ت 848هـ _ تلميذ الجزري _ (الإيضاح).
- شرح الإمام النويري ت 897هـ _ تلميذ الجزري _.
- شرح العلامة الرميلي ت 1130هـ (المنح الإلهية).
- شرح الإمام السمنودي ت 1199هـ.
- شرح العلامة ابن عبد الجواد ت 1257هـ (الغرة البهية).
- شرح الشيخ الضباع ت 1381هـ (البهجة المرضية).
- شرح الشيخ القاضي ت 1403هـ (الإيضاح).
- شرح لعدد من المشايخ الفضلاء [د. محمد منصور د. أحمد شكري د. أحمد القضاة د. خالد سيفي د. محمد نصر د. إبراهيم الجرمي د. محمد القضاة] (المزهر).
فوجدتهم متباينين في شروحهم.. وبعضهم أخذ من بعض.. فوفق البعض، وأخفق البقية.. على أنه نظرة يسيرة لترجمة الإمام الجزري في كتابه (غاية النهاية) تجد الصواب والحق في تحرير الموقف.
وقبل ذكر أي شيء؛ سأذكر الأبيات الأخيرة من تلك القصيدة الشهيرة؛ قال الإمام الجزري:
وتم نظام الدرة احسب بعدها *** وعام أضا حجي فأحسن تقولا
غريبة أوطان بنجد نظمتها *** وعظم اشتغال البال واف وكيف لا
صددت عن البيت الحرام وزوري الـ *** ـمقام الشريف المصطفى أشرف الملا
وطوقني الأعراب بالليل غفلة *** فما تركوا شيئا وكدت لأقتلا
فأدركني اللطف الخفي وردني *** عنيزة حتى جاءني من تكفلا
بحملي وإيصالي لطيبة آمنا *** فيا رب بلغني مرادي وسهلا
ومن بجمع الشمل واغفر ذنوبنا *** وصل على خير الأنام ومن تلا
وسأذكر الآن كلام الإمام ابن الجزري في ترجمته في كتابه المذكور 2/250:
(... حتى فتح الله تعالى عليه فخرج منها متوجها إلى البصرة، وكان قد رحل إليه المقرئ الفاضل المبرز أبو الحسن طاهر بن عزيز الأصبهاني؛ فجمع عليه ختمة بالعشر بمضمن الطيبة والنشر، ثم شرع في ختمة لقتيبة ونصير عن الكسائي، وفارقه بالبصرة، وتوجه معه المولى معين الدين بن عبد الله ابن قاضي كازرون، فوصلا إلى قرية عنيزة من نجد، وتوجها منها؛ فأخذهم الأعراب من بني لام بعد مرحلتين، فرجعا إلى عنيزة فنظم بها الدرة في قراءات الثلاثة حسبما تضمنه تحبير التيسير، وعرض المولى معين الدين ختمة بقراءة أبي جعفر؛ ختمها بالمدينة، ثم ختمة لابن كثير ختمها بمكة، وكان يقرأ عليه في أثناء الطريق قراءة عاصم فأتمها وحفظ أكثر الشاطبية، وفتح الله عليه بالمجاورة بالمدينة ومكة في سنة ثلاث وعشرين؛ بعد أخذ الأعراب له ورجوعه إلى عنيزة...).
وسأبدأ الآن بالأقدم فالأقدم ممن وقفت على شرحه من العلماء:
- أما الزبيدي فلم يتعرض لشرح هذه الفقرة من النظم؛ لكن وضّحها وأثبتها على الصواب محقق الكتاب الشيخ العلامة عبد الرزاق موسى في الحاشية؛ فقال: (عنيزة: بضم العين وفتح النون وسكون الياء وفتح الزاي مع تاء مربوطة؛ هكذا نطقها الصحيح، وهي كبرى مدن منطقة القصيم...).
- وأما النويري فقد أبعد النجعة في شرحه لهذه الفقرة.. وحقيقة لا أدري على أي شيء استند في شرحه لها؛ حيث قال:
(عنيزة: مصغر عنز؛ اسم فرس صُغر للتعظيم [هكذا في المطبوع عندي]، كنى به عن السبب الموصل إلى مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام)!!
- وقلده على ذلك الرميلي في شرحه؛ فقال بعبارة أخرى:
(عنيزة: مصغر عنزة؛ اسم فرس سميت به القبيلة، صُغّر للنظم، كنى به عن السبب الموصل إلى مدينة الرسول)!
فنجد أن المراد عندهما هو: قبيلة عنزة.. لكنه عند الرميلي أتى بشكل أوضح.. وهذا تفسير خاطئ للمراد..يكفي قراءة أبيات القصيدة نفسها لرده.
- ووافقهم على جعلها تصغيرٌ لاسم القبيلة؛ السمنودي والضباع في شرحهما.. وكأنهم قلدوا بعضهم واحداً عن آخر في ذلك.
- أما ابن عبد الجواد فلم يتعرض للأبيات الأخيرة للشرح بالمرة.
- بينما نجد الشيخ القاضي رحمه الله تعالى قد أتى على الصواب في شرحه؛ حيث قال:
(... ولكن الله عز وجل قد تداركه برحمة منه وفضل ورده إلى عنيزة؛ بلدٌ من بلاد نجد...).
- ومثله الأشياخ في شرحهم المجموع المسمى بـ(المزهر)؛ حيث قالوا:
(... فأدركه الله تعالى بلطفه الخفي، ورده سالما إلى بلدة عنيزة...).
هذا ما أراد الله تعالى أن أسطره من تعليق حول هذه النقطة.. فالحمد لله رب العالمين.