بسم الله الرحمن الرحيم: (1)
الحمد الله، و الصلاة و السلام على رسول الله، و على آله و صحبه و من والاه.
أما بعد:
هو همٌّ حرَّك مني دمعَ الجفون، و ألهبَ شغاف قلبيَ المحزون، أبُثُّهُ بثَّ الباعثِ ببرْدِ كلامه الحياة في الرَّمَم، و الُمستنهضِ بوَقْع قولِهِ فاترَ الهِمم، فلستُ براثٍ و لا ناع، و لا إلى النياحة بِداع، و لكن سُباتنا عن سبتة طال، و أسْرُ العدو لتلك الحرة استطال، و كأننا لم نَقَرَّ عينا بجمال ربوعها، و نَسْتَدِرَّ طيبَ المشربِ من ضُرُوعِها، في ما سلف من الأزمان و العصور، أليس فضلُها على المغرب كالشمس في البزوغ و الظهور؟، و هو على المغرب غير مقصور، إذ فضلها أطبق الأرض شرقا و غربا، و ارتوت منه الخليقة نهلا و شُربا، فكيف تُحَلَّى فاسُ و مراكشُ بما سبتة أولى به، أم أن الفاضلَ مبخوسُ الحق بين أترابه؟، و لعل سلوك مهيع الحِجاج في هاته المفاضلة، يكون أجلى لحقيقة هذه الدعوى في بيان فضل سبتةَ على تَيْنِك المدينتين (فاس و مراكش)، فدونك ناصعَ حُجتي، ذابَّةً الوهاءَ عن صحة قولتي:
فهي بعياضها أسمى في رُتَبِ الفخْرِ و السُّؤْدَد، و أرقى في شُرَف الشَّرَفِ و المَحْتِد، من مدينتيْ فاس و مراكش بعلمائهما و رجالهما، فإذا تفاخرت فاس بأعيانها، و تباهت مراكش بأعلامها، بعياض سبتةُ تُفحِمهم، و الحجرَ الناعمَ تُلقمهم، ففاسُ من ذكرِ عياضٍ السبْتيِّ في وُجُوم،و مراكشُ من قَرْعِ اسمه في جثوم، فهذه الفضيلة المُزيلة لكل شَكٍّ يعتلج الجَنان، تقع من النفس موقع ما فُطِرَ عليه الإنسان، مما يعلمه باضطرار دون جَحْدٍ أو نُكران، و في هذه المزية كفاية و مَقْنَع، تُورِد المرتاب من سَلْسَال اليقين أعذب مَكْرَع، فكيف إذا علمْتَ أنْ لا زال في القوس مَنْزَع، نُحيط من مديد ذُيُولِهِ، بأوْفَرِ طَرَف، و نُلِمُّ من غزير سُيُولِهِ، ما يُجَلَّي الدُّرَّ من الصَّدَف، فهاك البيان و الإيضاح، و خَلِّ عنك حَبْكَ التُّهَم، فقد اشرورق الصبحُ و لاح، فلسْتُ بمُؤْثِرٍ لنَهْج الحمية على السبيل الأَمَم، ففضل فاس و مراكش عندي ليس بمنقوص، و لكن لفضل الحرة معنى زائد مخصوص، به كانتْ إلى حِيازة قَصَبَاتِ الفخر أسْبق، و غدا الدهرُ بمآثرها -من غيرها- أنطق، فلها من الأفضال و الأيادي ما تَقْصُرُ عنه الأوصاف، و يحِلُّ مَحِلَّ الإجلال و الإعظام عند ذوي الإنصاف،....
----------------------------------------------
(1) لقد سرت في رسم هذه الرسالة على مهيع مفخرة الإسلام، و بهجة الأيام: الإمام الأشم ابن حزم - رحمه الله و رضي عنه-، و لست بأول حاذٍ لهذه السبيل، و كارع من عذب هذا السلسبيل، فقد تقدمني في ذلك العلامة أبو عبد الله محمد ابن أحمد بن سودة المري الفاسي -رحمه الله-، فألف رسالة في تفضيل فاس على مدن المغرب ، و نبزها بـ"مقامة في تفضيل مدينة فاس على سائر مدن المغرب"، و قد ذكرها حفيده العلامة عبد القادر ابن سودة -رحمه الله- في كتابه (دليل مِؤرخ المغرب،35)[ط:دار الفكر]، فقال أنه سار فيها :" على مثال رسالة أبي محمد علي بن أحمد، المعروف بابن حزم الظاهري الإمام الشهير المتوفى سنة 456 ست و خمسين و أربعمائة موافق سنة 1063، في تفضيل الأندلس على المغرب تقع في نحو ثلاثة كراريس غريبة في بابها"اهـ.
قلت: و لم أقف عليها بعد، و إن يسر الله تعالى الوقوف عليها فسأنقضها بما يقر العيون و يثلج الصدور بإذن الله تعالى.