دليل النخبة إلى أحكام الخطبة (6) .
القيام حال الخطبة
اختلف الفقهاء في اشتراط القيام للخطيب حال الخطبة ، وذلك على ثلاثة أقوال :
القول الأول : أن قيام الخطيب حال الخطبة شرط مع القدرة عليه , وهذا هو القول الصحيح والمشهور عند الشافعية (ينظر : المجموع 4 / 268 ، وروضة الطالبين 2 / 26 ، ومغني المحتاج 1 / 287 ).
وهو رواية عن الإمام أحمد ، واختارها بعض أصحابه (ينظر : المغني 3 / 16 ، والفروع 2 / 119 ، والإنصاف 2 / 397 ، والمبدع 2 / 163 ) .
. قال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (10/21): " وعلى هذا جمهور الفقهاء وأئمة العلماء " وقد نقل النووي عن ابن عبد البر الإجماع فقال (المجموع 4 / 268 ) : " وحكى ابن عبد البر إجماع العلماء على أن الخطبة لا تكون إلا قائما لمن أطاقه ". .
و دعوى الإجماع لا يسلم له بها ـ رحمه الله تعالى ـ .
القول الثاني : أن قيام الخطيب حال الخطبة سنة .
وبهذا قال الحنفية (ينظر : المبسوط 2 / 42 ، وبدائع الصنائع 1 / 263 ، .) ، وبعض المالكية (ينظر : الفواكه الدواني 1 / 307 ، وشرح الخرشي 2 / 79 ، ومواهب الجليل 2 / 166 .) ، وهو وجه عند الشافعية (ينظر : المجموع 4 / 286 ، وروضة الطالبين 2 / 26) ، ولكن قال عنه في المجموع (4 / 268): " وهو شاذ ضعيف أو باطل ".
وهو الرواية المشهورة عن الإمام أحمد ، والصحيح من المذهب عند أصحابه ، وعليه جمهورهم (ينظر : شرح الزركشي 2 / 174 ، والمغني 3 / 16 ، والفروع 2 / 119 ، والإنصاف 2 / 397 ، والمبدع 2 / 162 ) .وبه قال العلامة الفقيه ابن عثيمين حيث قال :(الشرح الممتع 5/ 62 ) :( قوله: «ويخطب قائماً» أي: يسن أن يخطب قائماً؛ لفعل النبي صلّى الله عليه وسلّم ؛ ولأن ذلك أبلغ بالنسبة للمتكلم؛ لأن القائم يكون عنده من الحماس أكثر من الجالس؛ ولأنه أبلغ أيضاً في إيصال الكلام إلى الحاضرين، لا سيما في الزمن السابق، إذ ليس فيه مكبر صوت ).

القول الثالث : أن قيام الخطيب حال الخطبة واجب ، فإن خطب جالساً مع القدرة على القيام فقد أساء ، وتجزئه .
وبهذا قال أكثر المالكية (ينظر الإشراف 1 / 133 ، ومواهب الجليل والتاج والإكليل بهامشه 2 / 166 ، وحاشية الدسوقي 1 / 379 ).


الأدلة :
أدلة أصحاب القول الأول :
استدلوا بأدلة من الكتاب ، والسنة ، وآثار الصحابة ، والمعقول .
أولا : من الكتاب :
قول الله - سبحانه وتعالى - : { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا } سورة الجمعة ( 11 ) .وجه الدلالة : أن الله - تعالى - أخبر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب قائما ، وقد قال - تعالى - : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } سورة الأحزاب ( 21 ) .
، مع قوله - تعالى - :
{ وَاتَّبِعُوهُ } سورة الأعراف ( 158 ) .، وقوله - تعالى - : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ } سورة الحشر ( 7 ) .
، مع قوله - صلى الله عليه وسلم - : « صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي » رواه البخاري (605) .
وقال النووي في المجموع ( 4 / 286): (ودليلنا أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال :(صلوا كما رأيتموني أصلي ) . مع الأحاديث الصحيحة المشهورة أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ :( كان يخطب خطبتين قائماً يجلس بينهما ) أ. هـ .
وقال ابن العربي (أحكام القرآن 4/223) :(في هذه الآية دليل على أن الإمام إنما يخطب قائماً , كذلك كان النبي يفعل وأبوبكر وعمر ) .
وقال ابن قدامة المغني ( 3 / 16 ):( قال الأثرم : سمعت أبا عبدالله يُسْئَل عن الخطبة قاعداً ، أو يقعد في إحدى الخطبتين ؟ فلم يعجبه ، وقال : قال الله تعالى : { وَتَرَكُوكَ قَائِماً } . وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخطب قائماً . فقال له الهيثم بن خارجة : كان عمر بن عبدالعزيز يجلس في خطبته . فظهر منه إنكار) . أ. هـ .
مناقشة هذا الدليل : نوقش بأنه حكاية فعل ، وذلك لا يدل على الوجوب بل على الاستحباب (شرح الخرقي 2 / 174) , وقال القاضي عياض (إكمال المعلم : 3 / 257 ): (وأما ظاهر الآية فلا دليل فيها إلا من جهة إثبات القيام للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ويحمل ذلك على أن المراد به أنه كان قائماً يخطب ، وأن أفعاله على الوجوب ، مع اتفاقهم على كونه مشروعاً ) .
وأما التأسي به واتباعه وأخذ ما جاء به - صلى الله عليه وسلم - فهو حسب صيغة ما جاء ، فما جاء بصيغة الأمر وجب العمل به ، وما جاء بصيغة الاستحباب أو مجرد فعل كهذا فإنه يستحب العمل به ولا يجب ، وأما الأمر بالصلاة كما صلى فإن الخطبة ليست صلاة ، وفي الاستدلال به على الوجوب خلاف.


ثانيا : من السنة :
1 - ما رواه جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال : « كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب قائماً ، ثم يجلس ، ثم يقوم فيخطب قائماً ، فمن قال : إنه كان يخطب جالساً فقد كذب ، فلقد والله صليتُ معه أكثر من ألفي صلاة » رواه مسلم :(862) .
قال النووي (شرح مسلم :6/126): " وفي هذه الرواية دليل لمذهب الشافعي والأكثرين أن خطبة الجمعة لا تصح من القادر على القيام إلا قائماً في الخطبتين ".

وقال ابن حجر ( فتح الباري :2/401) :(وهو أصرح في المواظبة من حديث ابن عمر إلا أن إٍٍ سناده ليس على شرط البخاري ) .
ولا شك أن هذا الحديث يدل على مواظبته - صلى الله عليه وسلم - على القيام حال الخطبة .
2 - ما رواه عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال :
« كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب قائما ، ثم يقعد ، ثم يقوم ، كما تفعلون الآن » رواه البخاري :( 920 ) , ومسلم :(861) .
3 - ما رواه جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - « أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب قائماً يوم الجمعة ، فجاءت عير الشام , فانفتل الناس إليها , حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلاً. » رواه مسلم : ( 836 )
وفي لفظ : « بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - قائم يوم الجمعة إذ قدمت عير إلى المدينة . . . » الحديث , رواه مسلم :(863) .
وجه الدلالة من الحديثين : قال في التمام بعد الاستدلال بهما (1 / 233 – 234) .
: " وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا تعلق بالقرينة وجب الاقتداء به ؛ لقوله تعالى : { وَاتَّبِعُوهُ } .
قال الحجيلان :( خطبة الجمعة :62 ) :(ولم يبيّن القرينة ، ولعل المواظبة الكاملة التي دل عليها حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قرينة مع ما سبق ).
4 - ما رواه طاووس قال : خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائماً ، وأبو بكر قائماً ، وعمر قائماً ، وعثمان قائماً ، وأول من جلس على المنبر معاوية بن أبي سفيان " أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه :( 2 / 112 ) .
وطاوس تابعي فالحديث مرسل .
قال في فتح الباري :( 2 / 401 ) - في معرض استدلاله بهذه الأدلة وتوجيهها - : " وبمواظبة النبي - صلى الله عليه وسلم - على القيام ، وبمشروعية الجلوس بين الخطبتين ، فلو كان القعود مشروعاً في الخطبتين ما احتيج إلى الفصل بالجلوس , ولأن الذي نقل عنه القعود كان معذوراً" .

وقال الصنعاني (سبل السلام 2/118) : (الحديث دليل على أنه يشرع في الخطبة أن يخطب قائماً ...) .
ثالثا : من آثار الصحابة :
1- تقدم ما رواه طاووس عن أبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - ، وقد ورد بلفظ : " لم يكن أبو بكر ولا عمر يقعدون على المنبر يوم الجمعة ، وأول من قعد معاوية ".
2 - ما جاء عن كعب بن عجرة - رضي الله عنه - أنه دخل المسجد وعبد الرحمن بن أم الحكم يخطب قاعدا ، فقال : " انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعدا ، وقال الله - تعالى - : { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا } سورة الجمعة ( 11 ) . " رواه مسلم : ( 684 ) .
وفي رواية عند ابن خزيمة : " ما رأيتُ كاليوم قط إماماً يؤم المسلمين يخطب , وهو جالس " ، يقول ذلك مرتين.

قال القاضي عياض ( 3 / 257 ): (هذا الذم وإطلاق الخبيث عليه يشير إلى أن القيام عندهم كان واجباً ) . أ.هـ .
.
قال ابن العربي المالكي ( عارضة الأحوذي 2 / 295 – 296 ) .عن الاستدلال بكل ما سبق : " وملازمة النبي - صلى الله عليه وسلم- والصحابة القيام أصل في الوجوب ، والعمدة قول الله - تعالى - : { وَتَرَكُوكَ قَائِمًا } فذمهم ، وذلك دليل على الوجوب المختص به ، ولا سيما وقد قلنا إنه عوض عن الركعتين ، والقيام واجب في العوض فوجب في المعوض) .لكن القول بأن الخطبتين بدل عن الركعتين محل نظر.
رابعا : من المعقول :
أن الخطبة أحد فرضي الجمعة ، فوجب فيها القيام والقعود ، كالصلاة (المجموع 4 / 514 ) .

أدلة أصحاب القول الثاني :
استدلوا بأدلة من الكتاب ، والسنة ، وآثار الصحابة ، والمعقول .
أولا : من الكتاب :
قول الله - سبحانه وتعالى - : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } . . . . الآية سورة الجمعة ( 9 ) .
وجه الدلالة : أن الله - تعالى - أطلق الذكر في الآية ولم يقيده بحال القيام ، والمقصود يحصل بدونه ، فدل على عدم اشتراط القيام حال الخطبة (شرح الزركشي على الخرقي 2 / 174) .
مناقشة هذا الدليل : يناقش من وجهين :
الوجه الأول : أن الله - سبحانه وتعالى - بيّن بعد هذه الآية أن هذا الذكر في حال القيام ، وذلك في قوله : { وَتَرَكُوكَ قَائِمًا } سورة الجمعة ( 11 ) .، فكأنه تقييد لما قبله .
الوجه الثاني : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى بهذا الذكر قائما , وواظب على ذلك ، وكذلك الخلفاء كما تقدم في أدلة أصحاب القول الأول ، وذلك بيان لإطلاق الآية .
ثانيا : من السنة :
1- ما روي أن رجالاً أتوا سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - وقد امتروا في المنبر مِمَّ عُوده ؟ فسألوه عن ذلك ، فقال : « والله إني لأعرف مما هو ، ولقد رأيتُهُ أول يوم وضِعَ ، وأول يوم جلس عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى فلانة - امرأة قد سماها سهل - مُرِي غلامك النجار أن يعمل لي أعوادا أجلس عليهن إذا كلمتُ الناس ، فأمرته ، فعملها من طرفاء الغابة ، ثم جاء بها فأرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر بها فوُضِعتْ هاهنا ، ثم رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى عليها ، وكبَّر وهو عليها ، ثم ركع وهو عليها ، ثم نزل القهقرى فسجد في أصل المنبر ثم عاد ، فلما فرغ أقبل على الناس فقال : أيها الناس إنما صنعتُ هذا لتأتموا بي ، ولتعلموا صلاتي » أخرجه البخاري :(917) الشاهد من الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم - : « أجلس عليهن إذا كلمتُ الناس » .
والحديث واضح الدلالة حسب قولهم .
مناقشة هذا الدليل : نوقش بأنه يحتمل أن تكون الإشارة إلى الجلوس أول ما يصعد ، وبين الخطبتين .
2 - ما رواه أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : « إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جلس ذات يومٍ على المنبر وجلسنا حوله » الحديث أخرجه البخاري : (921) .
وهذا الحديث واضح الدلالة حسب قولهم .
مناقشة هذا الدليل : نوقش بأن هذا في غير خطبة الجمعة ، فلا دليل فيه

قال الصنعاني (سبل السلام 2/121) :(فقد أجاب عنه الشافعي أنه كان في غير الجمعة ) , وقال ابن حجر (فتح الباري 2 / 401 ) :( ووجه الدلالة منه أن جلوسهم حوله لسماع كلامه يقتضي نظرهم إليه غالباً، ولا يعكر على ذلك ما تقدم من القيام في الخطبة لأن هذا محمول على أنه كان يتحدث وهو جالس على مكان عال وهم جلوس أسفل منه، إذا كان ذلك في غير حال الخطبة كان حال الخطبة أولى لورود الأمر بالاستماع لها والإنصات عندها، والله أعلم ) .
3_ عن محمد بن راشد قال : حدثنا سليمان بن موسى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يخطبون يوم الجمعة قياماً لا يقعدون إلا في الفصل بين الخطبتين ، وأول من جلس معاوية ، فلما كان عبدالملك خطب قائماً , وضرب برجله على المنبر وقال : هذه السنة ، فلما طال عليه الأمر جلس بعد (انظر : أخرجه عبدالرزاق في مصنفه : ( 3 / 188 ) . أ .هـ .
و هذا الحديث مرسل ، فسليمان بن موسى ليس صحابيّاً .
ثالثاً : من آثار الصحابة :
1- ما روي عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - : (أنه كان يخطب قاعداً ) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه : ( 5262 ).
مناقشة هذا الدليل : يناقش بأن المشهور عنه - رضي الله عنه - القيام حال الخطبة كما تقدم في أدلة أصحاب القول الأول وغيرها ، وإنما فعل ذلك لعارض حيث كان يصيبه رعدة لكبر سنه ، ولم يثبت عنه أيضاً أنه كان يخطب عند جلوسه في هذه الرعدة كما في بعض الآثار .
2 - ما روي عن معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - أنه كان يخطب وهو قاعد .
مناقشة هذا الدليل : نوقش بأن جلوسه كان لعذر ، فقد روي عنه أنه خطب جالسا لما كثر شحم بطنه ولحمه قال ابن حجر (فتح الباري 2 / 401 ) : (ولا حجة في ذلك لمن أجاز الخطبة قاعداً لأنه تبين أن ذلك للضرورة ).

وقال في نفس المصدر : " وأما من احتجَّ بأنه لو كان شرطاً ما صلى من أنكر ذلك مع القاعدة ، فجوابه : أنه محمول على أن من صنع ذلك خشي الفتنة ، أو أن الذي قعد قعد باجتهاد كما قالوا في إتمام عثمان الصلاة في السفر ، وقد أنكر ذلك ابن مسعود ثم إنه صلى خلفه فأتم معه ، واعتذر بأن الخلاف شر ".
وذكر الهيثمي عن موسى بن طلحة قال : شهدت عثمان يخطب على المنبر قائماً ، وشهدت معاوية يخطب قاعداً ، فقال : أما إني لم أجهل السنة ، ولكن كبرت سني ورقَّ عظمي ، وكثرت حوائجكم ، فأردت أن أقضي بعض حوائجكم قاعداً ، ثم أقوم فآخذ نصيبي من السنة .
قال الهيثمي (مجمع الزوائد : 2 / 187 ): رواه الطبراني في الكبير ، وفيه قيس بن الربيع , وقد وثقه شعبة والثوري ، وضعَّفه غيرهما. أ.هـ .

قال الصنعاني (سبل السلام 2/121) :(وهذا إبانة للعذر, فإنه مع العذر في حكم المتفق على جواز القعود في الخطبة ).

رابعاً : من المعقول :
1 - أن الخطبة ذكر يتقدم الصلاة ، فلم يكن من شرطه القيام ، قياسا على الأذان ، والإقامة (ينظر :المبدع 2 / 162 ، وكشاف القناع 2 / 36 ) .
مناقشة هذا الدليل : يناقش بأنه قد ورد من الأدلة على القيام في الخطبة , والمواظبة عليه ، والإنكار على تركه كما تقدم في أدلة القول الأول ما لم يرد في الأذان والإقامة ، فلا يصح القياس .
2 – قال في المغني( 3/16) :( وقال القاضي : يجزيه الخطبة قاعداً , وقد نص عليه أحمد وهو مذهب أبي حنيفة لأنه ذكر ليس من شرطه الاستقبال , فلم يجب له القيام كالأذان ) . ويناقش بما نوقش به ما قبله .

أدلة أصحاب القول الثالث :
الظاهر أنهم يستدلون على الوجوب بما استدل به أصحاب القول الأول .
وأما الإجزاء عند عدم القيام مع عدم العذر فاستدلوا عليه بما يلي : -

1 - ما استدل به أصحاب القول السابق من أن الخطبة ذكر يتقدم الصلاة لأجلها ، فلم يكن من صحته القيام كالأذان ، والإقامة (ينظر : الإشراف 1 / 133 .) .
ويناقش بما تقدم مناقشته به .
2 - أن الغرض من القيام أن يشاهد الناس الخطيب ويتمكنوا من سماع الخطبة ، فلم يؤثر الإخلال به ، كالصعود على المنبر (ينظر : الإشراف 1 / 133 .) .
مناقشة هذا الدليل : يناقش من وجهين : الوجه الأول : أن الصعود على المنبر عندهم - أي المالكية - سنة وليس بواجب (ينظر : مواهب الجليل 2 / 172 ) ، بل هو سنة بالإجماع (المجموع 4 / 527 .) كما سيأتي ، فهم قاسوا أمراً واجباً على سنة ، فلا يصح .
الوجه الثاني : أنه قد جاء في القيام من الأدلة ما لم يأت في الصعود على المنبر ، فلا يقاس عليه .
الترجيح : الراجح في هذه المسألة والله تعالى أعلم هو ماذهبت إليه أكثر المالكية من وجوب القيام في الخطبة فهو ماعرف عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخلفائه الراشدين , والأئمة المهديين إلى يومنا هذا , وما جاء في بعض الآثار من الجلوس كان لعذر , قال ابن المنذر( الأوسط : 4 / 59 ) : (والذي عليه عمل أهل العلم من علماء الأمصار ، ما يفعله الأئمة إذا فرغ المؤذن من الأذان قام الإمام فخطب خطبة ... الخ) . أ.هـ .

قال الإمام الشوكاني ـ رحمه الله ـ (السيل الجرار: 182 ـ في مجلد واحد ـ ) :(والقيام في الخطبتين مع القعود بينهما هو الثابت عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخلاف ذلك بدعة )
وقال الدكتور الحجيلان (خطبة الجمعة : 68) : (بعد استعراض الأقوال في المسألة وأدلتها والمناقشات الواردة عليها تبين أن الأدلة فعلية في الجملة ، ولكنها دالة على المواظبة ، ليس من النبي - صلى الله عليه وسلم - فحسب بل ومن خلفائه من بعده ، حتى ورد الإنكار الشديد على من قعد ، فالذي يظهر من ذلك قوة أدلة أصحاب القول الأول القائل بأن قيام الخطيب حال الخطبة شرط مع القدرة عليه شرط لابد منه ,لكن القول بعدم الإجزاء مع القدرة أمر يحتاج إلى دليل ظاهر الدلالة , وهذا لم يتوفر ـ حسب اطلاعي ـ مما يجعل القول الثاني ـ قول أكثرالمالكية ـ أقوى من غيره , والله أعلم .) .
قلت : فالقول بالشرطية لا دليل عليه حيث يقول الصنعاني ( سبل السلام 2/121) :(وأما الوجوب وكونه شرطاً في صحتها فلا دلالة عليه من اللفظ إلا أنه قد ينضم إليه دليل وجوب التأسي بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ) .
وكتبه أبومالك عدنان المقطري
اليمن ـ تعز