رثاء العلامة الأصولي الحاذق/ عبد الله بن غديان رحمه الله

هذه محاولةٌ فد لا ترقى إلى ذائقةِ كثيرٍ من الشعراء القراءِ , ولكنَّ العذر فيها للقائل أنَّـهُ حاملُها محمل كلامِ المُصابِ عند صدمتهِ الأولى , فأحسنُ احوالهِ أن لا يتكلمَ بغيرِ السوء.

وللشيخ رحمهُ الله عليَّ يدٌ يكافئه الله عليها متمثلةٌ في تبسطهِ وحُـنُـوِّهِ عليَّ وبذلهِ للنصيحة حتى رأيتُ فيهِ أباً وأمًّا وجدَّينِ ومعلماً , وكـانَ طهوراً لعيني من مظاهر الكبرِ التي يستملحها بعضُ المساكين على قلةِ بضاعتهم أو كسادها إن وُجِـدت فما إن يعودُ طرفي حسيراً من الشخوص لأولئك حتى أجدَ في الشيخِ مُغتسلاً بارداً طهوراً لعينيَّ وشراباً ترتوي منهُ الرُّوح رِيا لا تظمأ معهُ إلى أولئك.

وكم مرة تمثلتُ فيها قول ابنِ الرومي:


عَذَرْنَا النَّخْلَ فِي إبْدَاءِ شَوْكٍ * * يَرُدُّ بِهِ الْأَنَامِلَ عَنْ جَنَاهُ
فَمَا لِلْعَوْسَجِ الْمَلْعُونِ أَبْدَى ** لَنَا شَوْكًا بِلَا ثَمَرٍ نَرَاه

ثمَّ أجِـدُ في معاينة حالِ الشيخِ وتربيتهِ لقُـصَّـاده غنى عن بيتي ابن الرومي هذين.

ومن جرَّبَ عقدةَ المُصاب للألسُن علمَ أن لا ملامَ على من تكلمَ بأحسنِ ما يجدُ ما لم يقل جزعاً.


أَسىً عـمَّ أنحـاءَ الجديديْـنِ وبلُـهُ ** وطوَّف في مستقبـلِ الدَّهـرِ فضلُـهُ
وبـاتَ إليـهِ كُـلِّ مُـرِّ أسَغـتُـهُ ** كخيطٍ إلـى نسـجٍ تناسـقَ غَزلُـهُ


أنوءُ بـه حِمـلاً فيجعـلُ مُهجتـي ** مطيَّتـهُ , والصبـرُ شُتِّـتَ شمـلُـهُ
لـهُ شـررٌ يرمـي ليالـيَّ غِيـلـةً ** ويرشُـقُ أيَّامـي البواقـيَ نبـلُـهُ


يجُودُ على عينـي ابتـداءً بسُهدهـا ** وبالهَـمِّ والأشجـانِ يختَـمُ بذلُـهُ
ويمنـعُ أطيـافَ السُّلـوِّ مسَارهـا ** إلـيَّ , فيُقصيهـا بمـا هُـو أهلُـهُ


ويحدو أليـمَ القاضيـاتِ فتنتشـي ** وتنشَطُ فـي الإيغـالِ صوبـيَ إبْلُـهُ
هُناكَ يَخـورُ العـزمُ غَيـرَ مُؤمَّـلٍ ** وبي ألمٌ (لا ينقضـي الدَّهـرَ جزلُـهُ)


فهل للأسى أن يستبينَ مـن الـذي ** أصـابَ سويـداءَ الفـؤادِ محـلُّـهُ
هو (ابنُ غُديَّانَ) الذي زفرُ أضلعـي ** حنيناً إليـه ينفـحُ الدَّمـع سجلُـهُ


أخو العلمِ , صِنوُ الحلمِ , عِدلُهما ومن ** على الفقه والتحرير قد شُـدَّ أصلـهُ
ومن لأصـولِ الفقـهِ فيـه مثابـةٌ ** وأمنٌ , ومن ذلَّـت لباغيـهِ سُبلُـهُ


يفيئُ إليـه الزُّهـدُ يطلـبُ شـأوهُ ** ففيـه مبيـتُ الزُّهـدِ فيـهِ مظَلُّـهُ
ومنهُ يفـرُّ العُجـبُ حامـلَ خيبـةٍ ** هزيلاً على قوسٍ وما ريـشَ نصلـهُ


بـه همَّـت الدُّنيـا تُغلِّـقُ بابَـهـا ** شغوفـاً ولوعـاً شفَّهـا منـهُ دلُّـه
تُـراودهُ عـن نفسِـهِ بـزخـارفٍ ** وتبـدي لـهُ مـا لا يقِـلُّ أقـلُّـهُ


فقال: معاذ الله! مـا هـمَّ بالـذي ** تهـمُّ بـهِ , فالغُنـجُ لا يستـزلُّـهُ
تعالى ولـم تأسـرهُ ألقابـهُ , فلـم ** يكن بالذي يعلو على النَّـاسِ مثلُـهُ


يرى النَّاسَ كلَّ النَّـاسِ أبنـاءَ عَلَّـةٍ ** يوطِّـئُ أكنافـاً لـمـن يستـدلُّـهُ
ولم يلهلهِ أهلُ الدُّثورِ , ذووا النُّهـى ** عن الأشعثِ المدفوعِ صُـرِّمَ حبلُـهُ


ولا عن ضعيفٍ فـي العلـومِ مُبـرَّزٌ ** ولا عن عيِّـيٍ مـن ترصَّـعَ قولُـهُ
كأنَّهمُ الأيتـامُ فـي حجـرِ كافـلٍ ** ويشملهـم منـهُ الحُنُـوُّ وبـذلُـهُ


أخو حكمةٍ يعطي أخا الحـقِّ حقَّـهُ ** ويبسمُ في سـودِ الدُّجُنَّـاتِ عقلـهُ
يحـارُ حـراءٌ فيـهِ عنـد ثبـاتـهِ ** وسيفُ الهُدى فـي كفِّـهِ آنَ سلُّـهُ


يذودُ عن الدِّيـنِ الحنيـفِ مُجاهـداً ** وكل بـلاد الله كانـت مـدىً لـهُ
فبالهاتـفِ السيَّـارِ يقطـعُ فدفـداً ** من الأرضِ كالغيثِ المؤمَّـلِ هطلُـه


يشيـدُ بأوربـا صُـروحَ هـدايـةٍ ** ويُبدلُ علمـاً مَـن تأصَّـلَ جهلُـهُ
وفي داخلِ السُّودانِ كانـت دروسـهُ ** غيوثاً على أرضٍ بها اخضـرَّ سهلـهُ


وفـي مسجـدِ الله الحـرامِ لنفسـه ** عُكوفٌ على التعليـمِ ليـس يملُّـهُ
فيا مـن تعالـى أن تضيـعَ ودائـعٌ ** يُوَدَّعُهـا ,سبحانـهُ مــا أجـلَّـهُ


غدا الشَّيخُ يا ربِّي نزيـلَ جواركـم ** وعَقـدُ أسانـاَ بعـدُ أعجـزَ حلُّـهُ
فأكرمـهُ بالرِّضـوانِ منـكَ وحَلِّـهِ ** بحليـةِ مـن زكَّـاهُ عنـدكَ فعلُـهُ


فنـالَ بـهِ منـكَ اقترابـاً ورحمـةً ** وأسدى عليهِ الأمـنَ عـرشٌ يُظِلُّـهُ
وصلِّ على خير البريـة مـا سـرت ** بروقٌ , وما افترَّ السحـابُ ووبلـهُ



من شعر الفاضل : محمود بن كابر الشنقيطي