بسم الله الرحمن الرحيم


إذا كَتَبَ شَخْصٌ كِتَاباً إلى شخْصٍ غَائِبٍ ، قائلاً فيهِ : أبيع لك سيارتي التي تعرف بخمسين ألفَ ريالٍ ، وقَبِلَ المُرسَلُ إليهِ المَبيعَ في مجلس قراءتِهِ للكِتَاب ، أو كَتَبَ كتاباً للبائعِ يُخبِرُه فيه بقبوله لهذه البيعة ، فقد انعقد العقد ، فإن قلت لي :كيف ذاك ، ولم تقع المشافهة بينهما ؟


أجبتك بقولي : قد انعقد ؛ ( لأن الكِتَابَ كالخِطَابِ ) .


ولو أرادَ رجلٌ طلاقَ زوجتِهِ فكتَبَ لها كتاباً : "أنت طالق" وأرسلَه لها ، فإن الطلاقَ يقعُ بذلك كما لو تلفَّظ بِالطلاقِ مشافهةً .


فإن قلتَ : أهو صحيحٌ ؟


فالجواب : هو صحيح ؛ ( لأن الكِتَابَ كالخِطَابِ ) .


..


الإخوة الكرام ..


هذه قاعدة فقهية من فروع القاعدة الكبرى المشتهرة ( العادة محكمة ) .


وهي مندرجة تحتها ؛ لأنها تعبِّر عن سلطان العرف اللفظي ، وأثره في الأحكام ، ومما يقوم مقام اللفظ في التعبير عن المراد = الكتابة .


فيصار إليها عند الحاجة ، يقول ابن القيم رحمه الله : "فمن عرف مراد المتكلم بدليل من الأدلة وجب اتباع مراده ، والألفاظ لم تقصد لذواتها ، وإنما هي أدلة يستدل بها على مراد المتكلم ، فإذا ظهر مراده ووضح بأي طريق كان ، عُمِل بمقتضاه سواء كان بإشارة أو كتابة أو بإيماءة أو دلالة عقلية أو قرينة حالية أو عادة له مطردة لا يخل بها " إعلام الموقعين 1/ 218


فيُعمل بالكِتَاب المكتوبِ على الوجه المتعارفِ عليه ، ويعدُّ حُجةً على من حرره .


ولفظ القاعدة واضح ، فهو مركب من أمرين : الكتاب ، الخطاب ، وكلاهما معروف المعنى ، فلما و مُزِجَ بينهما بكاف التشبيه ، بان لك أن المعنى : أن المكاتبة تعطى حكم المخاطبة من جهة ما يشترط في كلٍ منهما ، وما يترتب عليه من أحكام .



أما الآن ، وقد اتضح المراد ، فقل : وهل ثمَّ دليلٌ على ما ذهبت إليه ؟


فالجواب : إي وربي ! فقد جرى على هذه القاعدة الفقهية عملُ النبي صلى الله عليه وسلم ، وعمل أصحابه من بعده ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرسل رسله بالكتب إلى القبائل ، وزعامائها ، وإلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام ، وكان يُلزمهم مضمون تلك الكتب ، ويترتب عليها ما يترتب على مخاطبة غيرهم من أحكام بلوغ الدعوة الذي هو شرط للتكليف ، و كان يرسل سُعاته إلى القبائل بعد إسلامها ليبلغوهم أحكام الإسلام ، أو لينفذوا حكما شرعيا كجباية الزكاة ونحوها .


وكذا كان حال الخلفاء من بعده يرسلون الكتب إلى الأمراء والقضاة بالأحكام الشرعية و المصالح الدنيوية ، فتُنفذ وتمُتثل .


ولكن يشترط لإعمال هذه القاعدة ؛ شروطٌ :


فالأول :


أن يكون الكتاب مستبينا ، أي ظاهراً واضحا ، فلا عبرة البتة بما لم يكن مستبينا ، ولايثبت به شيء من الأحكام ، فهو بمنزلة الكلام غير المسموع .


والثاني :


أن يكون الكلام مرسوما ، أي مكتوبا على الوجه المعتاد في الخط ، والمخطوط عليه .


"في الخط" بأن يبين الكاتب نفسه (من فلان بن فلان إلى...) ، وأن يذيله بشيء يثبت ذلك كالإمضاء ونحوه .


"في المخطوط عليه " أن يكون بما اعتاده الناس في الكتابة كالورق ونحوه .


والثالث :


أن يكون الكتاب من غائب ، فلا عبرة بكتاب الحاضر إلا في حالتين :


1 : العجز عن الخطاب ، فيعتبر الكتاب ولو من حاضر .


2 : أن يكون الكتاب مما لا يفتقر في ثبوت حكمه إلى الإطلاع عليه ، أي يستقل به الإنسان ، فلا يحتاج للطرف للآخر كالإقرار والطلاق والإبراء ، فإنه يثبت حكمها ولو من حاضر .

ومن كان لديه ، إضافة أو إفادة ، من مشايخنا وأساتذتنا هنا ، فليتحف .

أسأل الله عز وجل لي ولكم التوفيق والسداد في الدارين ، وأن يرزقنا جميعا العلم النافع والعمل الصالح . آمين .



[ مراجع ما سيق أعلاه : القواعد الكلية / د محمد شبير ،


الممتع في القواعد الفقهية لـ د مسلم الدوسري ]