أين الصديق؟
لقد دفعني إلى كتابة هذا المقال موقف حدث قبل أيَّام عند شرحي درسًا يتناول موضوع الصداقة، فعلى الرغم مما ساد عرض الدرس من متعة وتفاعل كبيرين، فإن وقت الحصة الافتراضية لم يَنته بعد؛ مما جعلني أن أطرح على طالباتي السؤال التالي: (من هي صديقتكِ المفضلة؟ ولماذا؟)، وما إن سألت إحداهن هذا السؤال إلا والدموع بدأت تنهمر من عينيها الصغيرتين، كانت هذه الدموع أشبه بوابل من الأمطار الغزيرة التي تهطل عليَّ كمعلمة، فكيف لي أن أعرض لها الواقع الذي كثيرًا ما شغلني؟ كيف لي أقول لها الحقيقة وهي في هذا العمر الصغير؟
بدأت أرتِّب أفكاري، وأُلَملم شتات تجارب كثيرة قرأتها وخُضتها في حياتي؛ لتصل الثقة إلى قلبها النقي بما أقوله، ولأحقِّق التأثير والتغيير في حياتها الحالية والمستقبلية اتجاه هذا الموضوع العميق جدًّا، وما إن بدأت معها في الحديث إلا وجاء فتح الله عليَّ بالكلمات التي كفكفت دموعها، وربطت على قلبها، وجعَلتها تبتسم قناعة بما تمتلِكه.
إن رغبة كل إنسان في أن يكون محطَّ اهتمام وإعجاب الجميع هو أعمق فخ سيسقط فيه إن سعى إليه، فكما أن السعي خلف السراب جنون، فإن السعي خلف إرضاء الناس، ونيل إعجابهم وهم كبير، وغاية لن يدركها حرصُ حريص، وذلك لِما في هذا الأمر من مساوئ عديدة، لعل من أبرزها وقوعه في المجاملات، والنفاق، والرياء، والكذب - عافانا الله وإيَّاكم من كل ذلك - على حساب الحق والصواب، ولهذا نجد أحمد أمين في كتابه (حياتي) يؤكد أن التزام الحق يكسب المرء العديد من المزايا، رغم ما سيجده من الآلام، فقد يغضب بعض الأنام، وتضيع عليه بعض المصالح، ولكنه سيستفيد منه أكثر مما سيفقده، فقد استفاد منه على صعيده الشخصي راحة الضمير، وثقة الناس بما يقول، وما يعمل، وحسن ظنِّهم بما يصدر عنه ولو لم يفهموا سببَه، فعلى المرء أن يستخدم ميزان عقله؛ ليفرِّق بين كسب قلوب الآخرين باللطف، وحسن العبارة، وبين المجاملة والمبالغة في إظهار اللطف لمقاصد خفية، وأهداف ضمنية، ولهذا فقد جاءت مفردة الصديق لتحمل في طياتها معاني الإخلاص، والوفاء، والصدق المتبادل بين كلِّ مَن تسودهم علاقة الصداقة، لا معاني التقرب لتحقيق مآرب دنيئة، وغايات خسيسة.
وإن قلَّ الصديق مع المواقف والتجارب الحياتية، فهذا لا ينفي وجوده، فإن هناك أصدقاء تَحلو معهم الحياة وتَزين، وما أجمل الصديق إن كان من أحد الوالدين أو المحارم، فيجتمع معهم ثواب البر وصلة الرحم، مع ثواب الأخوَّة والحب في الله تبارك وتعالى، ولا يتحقق ذلك إلا إذا بنيت الصداقة على أساس متين قوامُه تقوى الله والخوف منه، فإن كل ما كان لله وللدار الآخرة يَبقى، وكل ما حاد عن هذا الطريق يَفنى، فاجعل أُنسك بالله بداية البدايات كلها، وخاتمة النهايات كلها؛ حتى تستقيم حياتك، فلا تضلَّ الطريق، ولا تتوه خطاك، ولقد صدق حسان بن ثابت رضي الله عنه، شاعر رسول الله عليه الصلاة والسلام عندما، قال: "وكل أخ يقول أنا وفيٌّ، ولكن ليس يفعل ما يقول، سوى خلٍّ له حسب ودين، فذاك لما يقول هو الفعول".
______________________________ _________
الكاتب: إسراء عادل جناحي