إذا رأيت أحد الوُعول يجيء إلى صخرة كبيرة،
فيَجْعَلُ ينطَحها؛ يبتغي أن يُزحزِحَها عن مكانها، فما هو إلا أنْ يَنكَسِر قَرْنُه ويَدمى ويمضي، ثم لا يَلبث بعد أن تجفَّ دِماءُ قرْنِه المنكَسِر أن يعود مرةً أخرى لينطح الصخرة بقرنه المكسور، فيؤذي نفسه، والصخرةُ في مكانها لا تتزحزح.

فقد تنْزَعج لغبائه، وتَرثي لحاله، ولكنك تعذره؛ فالوعل حيوان لا عقْلَ له، ولا ينتفع بالتجارب.

لكن كيف لك أن تَعذر أُناسًا حبَاهم الله بالعقل والتفكير، يَستميتون في القيام بدَوْر هذا الوعل، فلا ينتفعون بالتجارِب، ولا ينجَعُ فيهم النُّصْح، ولا تُفيدهم عِبَرُ الأيام والليالي، بل هم مصِرُّون على ما فيه عَطَبُهم، مُقِيمون على ما فيه ضررهم، لا يلتفتون لقولِ ناصح، ولا يَعبَؤون بتحذيرِ مُشفِق، مَفتونون بخوض المعارك الخاسرة، ولو راحوا ضحيتَها هم وأتباعهم.

أمثلة هذا النوع من الغباء منتشرةٌ في عقولٍ كثيرة في مجتمعاتنا، وتظهر في ممارساتِ طوائفَ وتياراتٍ فكريَّةٍ عديدة، لكنَّ أشَدَّها ضررًا، وأعظمَها خطرًا، وأَنْكَاها وَبالاً على مجتمعاتنا - غباءُ أولئك العلمانيِّين واللِّبراليِّين مِن بَنِي جلدتنا، الذين أُولِعوا بمناطحة ديننا وقيمنا وتراثنا؛ مِن أجْل تحقيق نهضتِنا والرقِيِّ بأمَّتنا - زَعَموا.

فمَا هو إلا أنْ أَدْمَوا أخلاقَنا وقِيَمنا، وأهلكوا أنفسهم وغيرَهم؛ بأن أضاعوا آخرتَهم وخسروا دينهم وإيمانهم، ولم يتحقَّقْ لهم ولا لأمتهم ما كانوا يزعمون، أو يبتغون مِن نهضة ومَدَنية، مُضَاهِيَة للغرب ونهضته ومَدَنيته وحضارته.

لقد زعم هؤلاء الفاتنون المفتونون أن سِرَّ تخلُّفِنا ورجعيَّتنا في تمسُّكِنا بدِيننا وأخلاقنا وتراثنا، فشَنُّوا على ثوابتنا حرْبًا ضَرُوسًا في غاية الضَّراوة، لا تهدأ ولا تبرد، في أماكنَ كثيرةٍ مِن العالم الإسلامي، لها الآن عشرات السنين، لا تخبو في مكان حتى تقوم في غيره.

ففي مصر قبل أكثرَ مِن مائة عام، بَدأَتْ تلك الحرْبُ، وأوقد نارَها علمانيُّو مصر، وتولَّتْ صحفُهم الهجوم على الثوابت الإسلامية، وصار الدِّين هو الجلبابَ البالِيَ الذي لو نزعَتْه مصرُ عن جسدها لصارت قطعةً من أوربا؛ تَمَدُّنًا وحضارةً، وحريةً ورخاءً، وعدالةً ومساواةً!

وقامت الحرب على الدِّين على قَدَم وساق، فكلٌّ يريد أن يمزِّق مِن ذلك الثَّوبِ ما يقدر عليه؛ كي تنهض مصر مِن رَقْدتها، وتبدأ مسيرة حضارتها، ووازاهم في حربهم تلك جيشٌ من المستشرقين والمبشِّرين، بل مِن المستعمِرين الإنجليز أنفُسِهم.

فهوجم التراث، وزُعزِعت الثوابت، وشُكِّك في السُّنَّة ورُواتِها، كما يَفعل ليبراليُّو اليومِ، بل شُكِّك في القرآن، واستُهزئ بكلام الله ورسوله، كما يُستهزأ به الآن.

وارتمى علمانيو الأمس في أحضان الماركسيَّة والاشتراكية، وغيرها مِن (موضات) ذلك الزمان، كما يَرتمي علمانيُّو اليومِ في أحضان (موضة) هذا العصر "اللبيرالية".

ونُودي يومَها بوجوب البراءة مِن كل ما هو إسلامي، وسمَّوْه القديم؛ لأنه رجعيَّةٌ وتخلُّف، وبوجوب الولاء لكل ما هو غرْبي، وسموه الجديد؛ لأنه تحضر وتقدُّم!!

وكان كثيرٌ من أولئك المحاربين للدِّين اللادِّين في خصومته لا يُجاهرون بغايتهم؛ لئلا يفتضحوا عند العامة إنْ هُم أبانوا عن حقيقة مقصدهم، بل يستَتِرون بالتَّنوير والحرية، وتجديد الدِّين ليواكب العصر، تمامًا كما يفعل لِيبراليُّو اليوم.

وعندما يَمَّمَ علمانيُّو مصر وَجههم شَطْرَ أوروبَّا والغرب؛ يَبتغون عندها الحضارة والرُّقِيَّ، كانوا قد عَزموا على أخذ كل ما جادت به حضارة الغرب في سبيل أن يَحصل لنا الرُّقي المنشود، حتى قال أحدُ دُعاة التَّغريب في جَرْأة وصَفَاقة:
"سبيل النهضة واضحة بيِّنة مستقيمة، ليس فيها عِوَج، ولا الْتِواء، وهي: أن نَسير سيرةَ الأوروبيين، ونسلك طريقهم لنكون لهم أندادًا، ولنكون لهم شُركاءَ في الحضارة، خيرِها وشرِّها، حُلوِها ومُرِّها، وما يُحَبُّ منها وما يُكْرَه، وما يُحمد منها وما يعاب".

وأخذ العلمانيون على عاتقهم تَمهيدَ هذه السبيل بكل ما أُوتوا مِن قوة، حتى أُبعدت أحكام الشريعة الغرَّاء عن قاعات المحاكم ودُور القضاء، وتحاكَمَ الناس إلى القانون الفرنسي، وعُزِل الدِّين عن واقع السياسة، ونادَى المنادِي: "لا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة".

كما عُزل عن واقع الحياة الاجتماعية حتى أصبحت الدولة مدَنيَّةً، واقعًا وحقيقةً، إلا أنَّ دستورَها يَنُصُّ على أنَّ الشريعة الإسلامية هي المصْدرُ الأول للدُّستور، وإلا في بقايا مِن قضايا الأحوال الشخصية لم تَلبث أن امتدت إليها الأيدي العلمانية الآثمة بعد ذلك؛ لِتَعْبَثَ بها (وتُعَلْمِنَها) بعد أن كانت هي المظهرَ الوحيد الباقي مِن التشريع الإسلامي.

وأثيرت قضايا تحرير المرأة والحجاب والسُّفور، وقد انتصر فيها العلمانيُّون على مُناوئِيهم، فتحقَّق جُلُّ الذي كانوا يُنادون به، وسفرت المرأةُ المصرية، واختلطت بالرجال في المدارس والجامعات وأماكنِ العمل - كما يريد ليبراليُّو السعودية الآنَ للمرأة السعودية.

ونزَعت حِجابَها وحياءها، وأصبحت - كما أرادوا - مُدرِّسةً في مَدرسةٍ كُلُّ مدرِّسيها وطلابِها ذُكور، وعاملةً في مؤسَّسة جُلُّ موظفيها ذكور، ومذيعةً ووزيرةً ونائبةً في البرلمان، ومندوبةَ مَبيعاتٍ، تتَردَّد على البيوت والشركات، تَعْرِض جمالَها قبْلَ بضاعتها؛ لعلَّ "الزبون" يُعجب بها فيشتري منها، وربَّما عاملةَ بِنْزين في محطَّةٍ للوقود، كما أصبحت راقصةً في مَلْهًى ليلي، وممثِّلةً في السينما أو في فرقةٍ استعراضية... إلخ.

ولم يرْضَ علمانيُّو مصر بكل هذه الانتصارات، فهاهم يَسعَون الآن لمدَنِيَّة الدولة اسمًا وصورةً كما هي واقعًا وحالاً.

ولما كان بكل وادٍ بَنُو سعد، فقد وقع في الشام وبلاد المغرب العربي وبلاد الرافدين - ما وقع في مصر، وانتهى الحال إلى ما نراه الآن؛ هُمِّش الدِّين وماتت شعائرُه في ديار الإسلام، فالمقاهي تَعُجُّ بالزبائن في أوقات الصلاة، والمطاعم فَتَحت أبوابَها للزبائن في نهار رمضان، ومحلات بيع الخمور وبيوتات الخنا تحمل التراخيص الرسمية!

بل الأمر أكبر وأقبح من هذا؛ فقد تَسُبُّ الله ورسولَه، وتجاهِر بإلحادك في الصُّحُف والروايات والشعر (فلا يدوس لك أحد على طرف)، لكن قد تعطيك وَزارةُ الثقافة هناك جائزةَ الدولة التقديرية؛ على جُهودِك الفِكْرية المتميِّزة!

بل إنه في بعض الدُّول العربية أصبح تعدُّدُ الزوجاتِ وختانُ الإناث محرَّمَيْن بقوةِ القانون، وصار الزنا برِضَا الطَّرَفين مُباحًا بسُلْطة القانون، وغير ذلك مما يتفَطَّر له القلبُ، ويندى له الجبين!

صار كلُّ هذا وأعظمُ منه، فهل أصبحَتْ هذه الدولُ العربية دولاً متقدمةً، أو حتى طامعةً في التقدُّم، أو منتظرةً له؛ كدول جنوب شرق آسيا مثلاً؟!

ما حدث، ولن يحدث، ومع ذلك لا زال علمانيُّو تلك الدولِ يواصِلون حربَهم على ثَوابت الإسلام إلى هذه الساعة، فيُهلكون أنفسَهم وغيرَهم، ويَخسرون آخرتهم - هم ومَن أغْوَوهم - بلا فائدةٍ تُلمَس، ولا ثمرة تُقطَف.

وإن شئتَ مِثالاً آخرَ فدُونك تركيا، التي جاء عليها يومٌ حارَبَ فيه علمانيُّوها، لا الإسلامَ وأحكامَه وشرائعَه، بل أبسطَ مظاهرِه، حتى أُرغم الناس على نَزْع العمامة، وارتداء القُبَّعة الغربية، وإلى هذه الساعة الحجاب الإسلامي ممنوعٌ قانونًا في الجامعة التركية، التي مِن المفترض أنها تقع في أرض إسلامية، كانت يومًا ما عاصمةً للخلافة الإسلامية، تتعلَّق بها قلوبُ الملايين من المسلمين.

إن الكَمَاليِّين - الذين شَنُّوا حرْبَ إبادة على الهوية الإسلامية، أنْكَى مِن التي شنَّتْها أسبانيا النصرانيةُ ومَحاكمُ تفتيشِها على المسلمين بعد سقوط غرناطة - كانوا هم أيضًا قد رامُوا النهوض ببلادهم على السَّنَنِ الغربِيِّ جُملةً وتفصيلاً، حتى قال قائلُهم:
"إننا عزَمْنا على أن نأخذ كلَّ ما عند الغربيِّين، حتى الالتهاباتِ التي في رِئَاتهم، والنَّجاسات التي في أمعائهم".

وأخذَتْ تركيا - دولةُ الخلافة سابقًا - كلَّ الالتهابات والنَّجاسات الأوربِّيَّة التي آخرُها - فيما أعلم - افتتاحُ نوادٍ للعُرَاة، ومع ذلك فأين تَقِفُ تركيا اليومَ قياسًا بمكانها بالأمس، يومَ أن كانت حاضِرَةَ الخلافة التي تهتَزُّ عروشُ أوربا هيبةً لها، ويَخطبُ الغربُ بأَسْرِه وُدَّها؟!

والآن، وفي بِلاد الحرَمَين يبدأ الليبراليُّون والعلمانِيُّون السُّعوديون اليومَ معركةً مُعادةً خاسرةً، مَضى عليها أكثرُ مِن 100 سنَةٍ، ولم تأت بفائدة على الدول التي أُثيرت فيها أولَ مرة، فكيف تفيد بلادَ الحرمين مع خصوصيتها بهذا الدين وهذه الشريعةِ بما لا يَخفى على أحد، ولا يُمكن لأحد إغفالُه أو تجاهُلُه؟!

ألا يعتبر ليبراليو السعودية بما انتهت إليه حرْبُ أسلافِهم ومعاصريهم من العلمانيين في سائر البلاد العربية، فيُريحوا بلاد الحرمين مِن غائلة هذه الحرب التي تَستهدف مَحو الهوية الإسلامية في عقر دارها، ثم لن تُثْمر تمَدُّنًا ولا تطورًا ولا نهضةً بحال من الأحوال.

إن أمتنا لن يُصلِحَها النُّموذجُ الغربي؛ لأنه غيرُ ملائِمٍ لها؛ إذ هو نموذج إلحادي، أو مع التلَطُّف في العبارة: دُنْيوي؛ لا مكانَ ولا مُقامَ للدِّين فيه، وأمَّتُنا شعوبُها شعوبٌ متدينةٌ، اجتمعت كلمتُها، وصلح أمْرُها بالدِّين، بل ولا يُصلحها غيره.

فالعقيدة هي التي جعلَتْ مِن بَدْو الصحراء ملوكًا يملكون الأرض ويحكمونها، ويُخرجون الأمم مِن غياهب الجهل الفِكْري والعَقَدِي، وحَنَادِسِ الظُّلْم الطَّبَقي إلى نُور التوحيد والعدْل والمساواة.

ليس هذا فحَسْبُ، بل في الجانب المادي والتِّقْنِي والعلمي - الذي لا يجاوزه نظَرُ العلمانيين حين يتحدثون عن الحضارة - رأَيْنا المسلمين قد دخلوا ميدان العلوم، فأبدعوا وابتكروا، حتى صار هذا الميدان - في وقت ما - حكْرًا عليهم وحدهم، لا ينافسهم فيه أحد، وحتى أضْحَت لغتُهم هي لغةَ العلم التي ينبغي لكل مثقَّف وطالِبِ علْمٍ ومعرفة أن يُلِمَّ بها.

حتى قال "روجر بيكون" - أحدُ روَّاد المنهج التجريبِي الذي أخذَتْه أوربا عن المسلمين -: "مَن أراد أن يتعلَّم فليتعلَّم العربية؛ لأنها هي لغة العلم"، وحتى قال عنهم "راندال" في كتابه "تكوين العقل الحديث":
"وبنَوْا في القرن العاشر في إسبانيا حضارةً لم يكن العلم فيها مجرَّدَ براعةٍ فحسْب، بل كان علمًا طُبِّق على الفنون والصناعات الضرورية للحياة العَملية، وعلى الإجمال كان العربُ يمثِّلون في القرون الوسطى التفكيرَ العلميَّ والحياة الصناعية العلمية، اللَّذَين تُمثِّلهما في أذهاننا اليومَ ألمانيا الحديثة".

أخيرًا:
إن كان عُشَّاق المعارك الخاسرة قد غلَبَهم الشَّغَفُ بالنموذج الغربي، وملَك عليهم قلوبَهم وعقولَهم، فهَلاَّ أخذوا عن الغرب جِلْدَ بَنِيه في البحث، والنشاط والتشمير والانضباط في العمل، وتركوا له أخَسَّ ما عنده وأرذَلَه، وهو انحطاطُه الفكري والأخلاقي!




--
مقالة لأخيكم نشرتها الألوكة على هذا الرابط
http://www.alukah.net/Culture/0/22312/