جنة اللبراليين وجنة الدجال

جاء في أحاديثِ أشراط الساعة: أنَّ الله تعالى يختبر عبادَه في آخر الزمان بفِتنة عظيمة، هي الدجَّال الذي يَدَّعي الأُلوهية، ويكون معه مثلُ الجنة والنار، ومِن ذلك ما أخرجه الإمام مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ألاَ أُخبِرُكم عن الدجَّال حديثًا ما حَدَّثه نبيٌّ قومَه، إنه أعور، وإنه يَجيء معه مِثلُ الجنة والنار، فالتي يقول: إنَّها الجنة، هي النار، وإني أَنذرتُكم به، كما أنذر به نوحٌ قومَه)).


وعلى هذا فالذي يدخل جَنَّةَ الدجال الوهمية، فإنَّه يدخل نار الآخرة، ومَن لم تخدعه نارُه التي معه، فإنَّه ينجو من نارِ الآخرة ويدخل الجنة.

أذْكَرني هذا الأمرُ بحال الليبراليِّين في هذا الزمان، فإنهم يَدْعُون إلى جنة وهميَّة يخدعون بها الناسَ، ثم يكون مصير مَن دخل جَنَّتهم أن يُحرم من جنة الآخرة، ويُعذَّب في نار جهنم، وبئس المصير.

فإنَّ الليبراليين يرفعون شِعارًا برَّاقًا مغريًا كشِعار الدجال يفتتن به فئامٌ مِن الناس وفئام، إنَّه شعار الحريَّة، حرية الإنسان وتقديسها، وجعْلها غايةَ الغايات، ومحورَ الحياة والتشريعات والأهداف.

فعندهم أنَّ الحريَّةَ في جميع مظاهرها هي أثمنُ ما يملك الإنسان، وهي أجَلُّ ما ينبغي له أن يحافظَ عليه، وتقدير اللائق من غير اللائق، والجائز مِن غير الجائز مِن هذه الحريَّة مَردُّه إلى عقل الإنسان، وما يُملي عليه ضميرُه هو.

إنهم يقولون للإنسان: أنت إلهُ نفسك، فعقلُك وضميرُك هو مِقياس الحقِّ والباطل في هذه الأرْض، فما رآه عقلُك وضميرك خيرًا فهو خير، وما لا فلا، وأنت أيُّها الإنسان العظيم الممجَّد لا ينبغي لك أن تخضعَ في وزن تصرُّفاتك وتقييمها لأيِّ سلطة كائنة مَن كانتْ، مجتمعيةً أو دِينية؛ فإنَّ هذا يؤدِّي إلى إلْغاء إرادتك، والحَجْر على عقلك وتفكيرك، والإنسان رشيدٌ عاقِل مفكر، فينبغي له أن يختارَ بنفسه ما ينبغي فعْلُه، وما ينبغي ترْكُه، المهم ألاَّ تؤدِّي حريتَك فيما تختار إلى المساس بحريَّة الآخرين، فإنَّه حيث تبتدأ حرية الآخرين فحينئذٍ تنتهي حريتك.

ويستمع الناس - وخصوصًا الشباب - إلى هذه الأقاويل، ويرَوْن أنَّ مِن حقهم أن يكونوا أحرارًا في تصرُّفاتهم، وما يأتون وما يذرون، وأنَّه متى ما قِيل للرجل: لا تشربْ المسْكِر فإنَّه حرام، كان هذا تدخلاً في خصوصيته، وتطفلاً عليه، واستعبادًا لكرامته!

ومتى ما قيل للمرأة: لا تتبرَّجي، كان هذا حجرًا على إرادتها، ووَأْدًا لحريتها! ومتى ما أُمِر أصحاب المحلاَّت بإغلاق متاجرِهم وقتَ الصلاة، كان هذا استرقاقًا لهم، ونكاية بآدميتهم!

ويومًا فيومًا تنتشر الدعاية لجَنَّة الليبراليين هذه، ويتمنَّى من كان خارجَها أن يدخل فيها، ومَن كان فيها ألاَّ يخرج منها، فأنت حرٌّ حرٌّ، لا يحاسبك أحدٌ إلا إذا أسأتَ للآخرين، أما إذا أسأتَ إلى نفسك، أو إلى ربِّك، فهذا شأنك الخاص، ليس لأحد أن يتطفَّل عليك فيه!!

فيَنطلق الشابُّ - مثلاً - يُواقِع فاحشةَ الزنا، ويُدْمن شُرْب الخمر، وهو يرى أنَّه إنسان صالِح، فإنه وإن زنَى وشرِب الخمر، لكنَّه لم يغتصبْ، بل كانتْ شريكتُه غيرَ ممانعة، بل راغبة في ذلك، وأنهما كانَا يقضيان وقتًا جميلاً! فقط استمتع بحياته، وأعْطى جسدَه من اللذَّات ما يحتاجه.

وتفعل الشابَّة نفس الشيء، فتنزع حِجابَها الذي ترى فيه أَسْرًا لحريتها، وسجنًا لأنوثتها، وتلبس أنيقَ الملابس، وتتجمَّل في أبهى زِينة، وتخرج تنتظر مَن يغازلها، ويُثني على جمالها وأناقتها، تخرُج كاسيةً عارية ترتاد النوادي والمسارح والشواطئ، وتعيش حياةَ الحفلات والسهرات، وتقول: إنَّ قلبها أبيض، وضميرها طاهر!!

ويأكل الرجلُ الرِّبا أضعافًا مضاعَفة، ويرى أنَّه على خيرٍ؛ لأنَّه لم يسرقْ ولم يقتلْ، ولم يتاجرْ في المخدرات، لم تؤدِّ حريتُه إلى إيذاء الآخرين، فلِمَ يؤنِّب نفسه، وينكد حياته؟!

أراد الليبراليون أن يجعلوا مِن الدنيا جَنَّةً يتمتَّعون فيها بالشهوات والملذات قبلَ جَنَّة الآخرة الحقيقية، يقولون: لماذا أعطانا الله الحياة؟ ألِنَحرِمَ أنفسنا من اللذات والشهوات، ونحيط حياتنا بسياجٍ حديدي من المحرَّمات والمحظورات؟! ألِنَبْقى دائمًا نفكر في الموت، وفي عذاب النار، وحيات جهنم، فتملتئ قلوبُنا رهبةً، وتسيل أعيننا بالدموع؟!

أَإِذا نظرت إلى وجه مليحة كان حرامًا؟! أَإِذا شربت كأسًا من الخمر، أو سيجارةً من البانجو كان حرامًا؟! أإِذا قضيتُ سهرة في مرقص كان حرامًا؟! أإذا عالجتِ المرأة شعرَها، وزَيَّنت وجهها بأبْهى زِينة - عند خروجها من بيتها - ولَبِستْ قصيرًا أو ضيقًا يبرز محاسنَ جسدها، ويزيد في جمالها كان حرامًا؟! أإِذا ذهب الإنسانُ إلى السينما حيث الفنُّ والإبداع؛ ليرى فيلمًا، كان حرامًا لمجرَّد أنَّ في بعض مشاهده تبادلاً للقُبُلات، أو ظهورَ بعض النساء عاريات؟!


أفي الذَّهابِ للمسرح لسماع حفْلة موسيقية إثمٌ وخطيئة؟!
أكلُّ اللذَّات والمسرَّات حرام؟!
فكيف نعيش الحياة إذًا؟!


ويعيش الشبابُ والشابات، والكبار والصغار، حياةَ الحرية التي دعا إليها الليبراليُّون، الحياة الجميلة اللذيذة، حياة الغِناء والموسيقا والأفلام، والسهرات والحفلات، والأماني والأحلام، طارحِين عنهم التفكيرَ في الآخرة وهمومِها، قد أراحوا أنفسَهم من الانشغال بمسألة الحلال والحرام.

وفي خضمِّ هذه الحياة المفعمة باللذَّات والشهوات تحتَ سِتار الحريَّة، تحلو الدنيا في أعين الناس، حتى لكأنَّها الجنة، وكأنَّها لا نهايةَ لها لجمالها وبهجتها، وكأنَّ الإنسان فيها مُخلَّد لن يموت.

لكن بينما الإنسانُ كذلك يعيش هذه الجَنَّة التي صنَعها الليبراليون والعلمانيُّون إذا به يهجم عليه الموت بغتةً، بلا سابق إِذْن، ولا قديم إنذار، وربما وقع هذا - بل كثيرًا ما يقع - لشباب في زهرة أعمارهم، وفَوْرة شبابهم، فإذا الإنسانُ قد خرج من الدنيا وحيدًا فريدًا، وإذا به يدخُلُ القبر المظلِم وحدَه، لا يدخل معه جُموعُ الليبراليين التي تكتب في الصُّحف، وتظهر في القنوات تأمُر بالمنكر وتنهى عن المعروف.

ثم إنَّه قد انكشَف له الغطاءُ، فإذا الأمر خلاف ما كان يزعُمه الدجَّالون الليبراليُّون جملةً وتفصيلاً، وإذا الحياة الدنيا ما هي إلا جسْر موصل للآخرة، وليستْ متبوأً للنهل مِن الشهوات واللذات، بل لا يُؤخذ من تلك الشهوات إلا ما أباحه الشَّرْع للاستعانة به على الوصولِ للدار الآخرة.

انكشف الغطاءُ، فإذا الإنسان ليس حرًّا كما ادَّعى الليبراليون، بل هو عبدٌ لخالقه كان عليه أن يُطيعَه فيما أمَر، ويُصدِّقه فيما أخْبر، وها هو ذا موقوفٌ بيْن يدي ربِّه ليس بينه وبينه ترجمان؛ ليسأله عن شَرْعه الذي أنزله: لِمَ لمْ يتبعه؟ وعن أوامره التي أمر بها: لِمَ لمْ يعمل بها؟ وعن نواهيه التي نَهَى عنه: لِمَ اقترفها، وبأيِّ برهان واقعها؟

انكشف الغِطاء، فإذا الزِّنا والتبرُّج، والرقص والمجون، وما شابهها من الشهوات، آثامٌ يُحاسَب العبد عليها، وليست حريةً شخصية - كما قال الليبراليون.

انكشَف الغطاء، فإذا ما كان يُسمِّيه الليبراليون تزمُّتًا وتشددًا، ورجعيةً وقشورًا، بان أنَّه من دِين الله الذي شرَعه، ويحاسب عليه، وإذا ما كان يُسمِّيه الليبراليون تنويرًا وحداثةً، بانَ أنه إضلالٌ وسخافة، وآثام تُسخِط الربَّ، وتقطع الطريق إليه.

انكشف الغطاء، فإذا اللهُ قد أعطانا هذه الحياةَ لنعبدَه، ونحياها على منهجه وشِرْعته، لا لنعبد أهواءَنا، ونعيش على منهجِ الليبراليِّين.

انكشف الغطاء، فإذا هناك جَنَّة أبديَّة، ونعيم سَرْمديّ، به كلُّ اللذات والشهوات التي ترَكها المؤمنون في الدنيا؛ طاعةً لربهم حتى لا تقطعهم عن لذَّات الآخرة ومُتعها.

انكشف الغطاء، فإذا هناك نارٌ وجحيم، وسلاسل وأغلال - تلك التي كان يَسْخَر بها الليبراليون، ويَرْونها فَبْرَكةً من الإسلاميين؛ ليسيطروا على عقول الناس - أُعِدَّت لمن كان يعيش في جَنَّة الليبراليين ناسيًا لربه، غافلاً عن الدار الآخرة، متبعًا لهواه وشهواته تحتَ شِعار الحريَّة الشخصية!

انكشف الغطاء، فظَهَر للعالَمين أنَّ الليبراليين كانوا تجَّارَ شعارات، يُسمُّون الأمور بغير مسمياتها؛ لتنقلبَ حقائقها في أعين البلهاء، فهُم الذين سمَّوا الانحلال حداثةً، والإلحادَ تمدُّنًا وتنويرًا، والشرعَ المنزل رجعيةً وظلامًا.

انكشف الغطاء، فظَهَر للخَلْق أجمعين أنَّ جنة العلمانيين والليبراليين ما هي إلا خدعةٌ خدعوا بها الناسَ، كما سيخدع بها الدجَّالُ أتباعَه.
-----
من مقالاتي بالألوكة