الحمدلله وحده، والصَّلاة والسَّلام على من لا نبيَّ بعده، وبعد
فإنَّ الطرق والأساليب في خطاب الناس أوالإشارة إليهم كثيرة بالعتاب أوالَّلوم أوالتَّقريع.
ومنها طرق النصيحة أو اللوم، بالشِّدَّة أواللَّين.
ومما ينبغي التنبُّه له في هذا المقام أنَّ بعض الأخوة الأفاضل -وكلكم كذلك- لو أرد نصح أخيه بكلام فيه (قسوة) ولا يخلو من (تهمةٍ) لجأ إلى طريقة (العموم المراد به الخُصوص).
إما بمزامنة كتابة موضوع ذي صلةٍ بحدث ما.
وإما بالتعقيب في موضوع ذي صلة بكلامه الذي يعمِّمه (حتى يسلم من مقص المشرف وتحريره).
وليس هو على باب قول النبيِّ : (ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا).
فإنَّا لسنا في مدينة كبيرة حتى يقال مثل هذا الكلام، فيخفى مَن المقصود بالكلام! ويقع المراد من النصح والبيان، وإنَّما نحن في منتدىً محصورٌ ومعلومٌ عدد روَّاده وكتَّابه وهيئاتهم.
ومعروف أيضًا (بين الأعضاء) من القاسي في خطابه واللَّين في ألفاظه ((دائمًا)) أو ((أحيانًا)).
فحين تكتب مثل هذه المواضيع (للنُّصح) أو (التعريض) بالمزامنة مع ((بعض المواقف)) تتوجَّه الأذهان مباشرة لبعض الناس، المتهمين من البعض بشدتهم في الخطاب، أوقسوتهم في الرَّدِّ.
والحق والإنصاف أنَّ بعض من يوصفون بذلك كذلك، لكن.. ((أحياناً))، وعلى ((بعض الناس)).
لكن الأسى ومخالفة الإنصاف أن تتشكَّل صورةٌ بعيد هذه المواقف بأنَّ فلاناً طبعه القسوة والجفاء (مع الجميع)، (ودون مسوِّغ شرعي) و(دائمًا).
وعليه .. فعلى الأخ المحب لأخيه أن يكون حريصاً على إصلاح الودِّ، لا إفساده وتعكيره، فيسلك النصح في الخصوص قبل الإعلان في الملأ، وهذا لو كانت التهمة (بالتعميم والمداومة) صحيحة.
هذه واحدة فاحفظوها..
وأيضًا.. فإنَّ بعض الأخوة يتهم أخاه بعموم القسوة وسوء الخلق (إطلاقاً) أو (كثيرًا) في التعامل مع إخوانه كلهم، ثم يأتي فيقع هو فيما هو أنكى.
ألا وهو .. الشِّدَّةُ في مناصحته بحسن الخلق؛ فيصفه بأنَّه سيء الخلق، أومتكبِّر ... الخ؛ من الأوصاف الخارجة أيضاً عن حدود الأدب الذي ندعو إليه جميعاً، ونسأل الله أن يرزقناه على الدَّوام.
سواءٌ اكان ذلك النصح الشديد مباشرةً وعلانيةً، أو بالطريقة المبتكرة المتقدم ذكرها من التَّعميم بالمزامنة مع بعض المواضيع أوالحوارات الدَّائرة ههنا.
وهذه ثانيةٌ فتأمَّلوها..
والثالثة: أنَّ الخطاب أوالجدال ليست مشروعيَّته محصورةٌ كلُّها بالكلام الهيِّن الليَّن، وعلى الدوام، ومع كل الأنام ؛ بل لكل مقام مقال.
فمن ابتدأ سوء الخِطاب لأخيه أولمن يحرم عليه ذلك فإنَّه يُباح ردعه بمثله أوبما يناسبه، وقد قال الله تعالى: ((وقالت اليهود يد الله مغلولة غُلَّت أيديهم ولُعِنُوا بما قالوا)).
وقال تعالى: ((ولا تجادلوا أهل الكتاب إلَّا بالتي هي أحسن إلَّا الذين ظلمُوا منهم)).
وقد قال الله لنبيه (الرؤوف الرحيم بالمؤمنين): ((جاهد الكفَّار والمنافقين واغلظ عليهم)).
ولا يشك فاضلٌ من الأفاضل أنَّ الإنكار الشديد على من يغربُ كثيراً على العلم وأهله، أويقع في بدع الأقوال ولا يتراجع، أو غير ذلك =أمرٌ مشروعٌ لا ممنوع، بل قد يكون علاجًا له ولو بعد أمدٍ، أوكابحًا له عن التعجُّل والاستهتار، أوعبرةً لمن يُوعِظَ بغيره.
نعم .. لا شكَّ أنَّ اللِّين أولاً، فالإعراض والإشارة ثانيًا، ثم الإغلاظ ثالثاً.
ونعم.. الإعراض والملاينة حلٌّ سهلٌ وطريقة مريحة ومسلك أولى يقدر عليها كلُّ أحد، لكن.. من لهؤلاء؟! من لهم؟!
والحكمة من القسوة (أحياناً)، ومع ((بعض الناس)) هي زجره عن معاودة تلك الألفاظ الخارجة عن الأدب وحسن الخطاب، وأنَّه إنْ:
جاء (....) عارضًا رمحه إنَّ بني عمِّك فيهم رِماحوزجره عن الخوض بالمحدثات الغرائب، أو التقحُّم في مضائق العلم بكلامٍ فيه باطل، أوتعالمٍ فاضح.
فقسا ليزدجروا...
وإليكم الرابعة فانتبهوا لها..
من الطرق المبتكرة في الشِّدَّة على الإخوان: التعريض بالدعاء، مثل أن يقال: رزقك الله (يا فلان!) حسن الخلق، والمعنى أنك سيء الخلق، أو شفاك الله؟! والمعنى أنك معتوه!، أو نسأل الله الإخلاص، والمعنى أنك مراءٍ!
أو يذكر حديثاً فيه تعريض، مثل أن يقول: (الحسد يأكل الحسنات)؛ والمعنى أنك (يا فلان) حاسد، أوغير ذلك من الأساليب التي تخفى على أحدٍ.
ثمَّ إليكم آخر هذه الطرق وأخسها وضعًا..
إذ من الطرق المبتكرة في الشدة على الإخوان، وإن كان فيها شيء من الجبن وخِسَّة الطَّبع والخور =ما أسمِّيه بـ(ولادة المعرِّفات)؛ وذلك باستخدام الكاتب للمعرِّفات الحادثة، اسمين أو ثلاثة أو أكثر -بحسب الحاجة-؛ لاستخدامه في مثل ما تقدم ذكره من أساليب الثلب وهتك العرض.
ومن المضحك المبكي أنَّ هذه المعرِّفات إنَّما تكثر ولادتها (العسرة المفضوحة) عند المحاككة والمحاصصة في بعض المواضيع، مرَّة بفلان الفلاني، ومرَّة بأبي فلان.
وقد يتجاوز ذلك فيثني على نفسه ويطريها ويزكِّيها، ويطعن فيمن خالف ((نفسه)) المتواضعة، ثم يشاء الله فضحه في يومٍ من الدَّهر، ويكون من باب: فعجبنا له يسأله ويصدِّقه؟!
وقد لا يكون أولئك المواليد الجدد المستترين خلف تلك المعرِّفات جبنًا أصحاب وجوهٍ وألوان في نفس الأمر، ولكن كما قيل: (بئس الرجل لا يُعرف إلَّا وقت الفتنة).
فأين كنت عن الإفادة والنُّصح يا (أبا فلان الفلاني) قبل هذا النِّقاش، أبعثك الله الآن لترفع الخلاف وتعيد الأمَّة إلى سلفها التَّليد؟! وبئس الرجل لا يكون إلَّا وقود فتنة وشقاق! ياحسرةً على العباد!
وعلى كلٍّ.. فكل الأساليب هي في الحقيقة قسوة؛ لكن القسوة في المخترعات المتقدمة أنكى وأحكم، ومن مقص المشرف أسلم، وفي نفوس الناس أقبل!
هذا بيان أردت به البيان، والله يغفر لنا جميعاً ويهدينا إلى سواء الصراط، ويرزقنا حسن الأدب والخطاب، وإليه سبحانه المرجع والمآب.