إنّ العلو في حقه تعالى هو بمعنى الإحاطة. فوجوده محيط بالكائنات، مباين لها. وما كان محيطا، لا جهة له على التعيين؛ لأنه في كل الجهات، عدا جهة الكائنات المخلوقة، وكل الجهات علوّ بالنسبة للمخلوقات. وهذا يتضح إذا استصحبنا كرّيّة الأرض وغيرها من الكواكب.
هنا يجاب هذا المتكلم بأنه يضيف إلى المعنى الظاهر الواضح معان أخرى ما أنزل الله بها من سلطان، ولا يجوز لنا القول بها إلا بنص.. من الذي قال إن العلو في حقه بمعنى الإحاطة؟؟ هذا ليس بلازم من المعنى اللغوي للعلو كما هو واضح!
فإن قال: أليس هذا لازم كونه في جهة العلو بالنسبة للمخلوق أينما كان ذلك المخلوق على ظهر الأرض، مع اعتبار كرويتها؟ قلنا ليس يلزم هذا المعنى - عقلا - في ذاته جل وعلا، لأنه ليس كمثله شيء، وذاته سبحانه لا كالذوات المخلوقة! ونحن إنما قلنا إنه يجب - عقلا - أن يحده حد يفصله عما دونه، لأن هذه ضرورية عقلية تأتي من تحقيق معنى العلو فوق العرش وفوق الخلق جميعا.. أما ما سوى ذلك من وصف لذاته فلا نخوض فيه! ولهذا قال بعض السلف إننا لا نثبت له إلا حدا واحدا وهو ما يفصله عن خلقه، أما ما سوى ذلك فلا علم لنا به..
أما هذا الذي تقولون أنتم به من إحاطة ذاته بالخلق لكروية الأرض وغيرها فزيادة ما أنزل الله بها من سلطان!
ثم إن الإحاطة تعارض معنى العلو أصلا كما لا يخفى! إذ ما كان محيطا بالأرض فلا هو في أعلاها ولا في جانبها ولا في أسفلها وإنما هو في كل جهة من أي واقف عليها!! فكيف يكون في العلو حقيقة - دون غيره من الجهات - للواقف في أي مكان من الأرض مع النظر إلى كرويتها؟ هنا نقول: الله أعلى وأعلم! ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. هو كذلك على الحقيقة، ولا يعلم كيف ذاته إلا هو سبحانه.
وماذا لو اعترض معترض قائلاً:
الإطلاق إطلاق، سواء كان في مقام تقرير العقائد أو في مقام الحِجاج. فاللفظ إمّا جائز توقيفًا، أو غير جائز.
وبما أنّ هذه الألفاظ أُطلِقَت لتفسير وشرح المعنى الظاهر للصفات. أليس مطلقها عرضةً للخطأ؟ أليس تقريرها ضربًا من التأويل، وإن كان مآله مزيدًا من الإثبات لا التعطيل؟ فكما أنّ التأويل الأشعري مآله التعطيل، فإن هذا الضرب من الزيادة في الإثبات بألفاظ لم تطلقها النصوص مآله التشبيه...
فالأشعري يقول: أنا لا أعطّل الصفة، وإنما أعطيها معناها اللائق،
والزائد في الإثبات يقول: أنا لا أشبّه، وإنما أعطيها معناها الظاهر!
لو قال: اللفظ إما جائز توقيفا أو غير جائر، فإنني أسأله: فما قولك في لفظ الوجود؟ هل تجيز أن نقول إن الله موجود (بهذا اللفظ)؟ فإن قال لا، قلنا ألأنك ترفض اللفظ أم ترفض المعنى؟ فإن قال أرفض اللفظ، قلنا وهل يقوم اللفظ إلا بمعناه؟؟ إن وقفت على لفظ واحد ثابت يغني في هذا المقام لتحقيق المعنى المطلوب في الإخبار عن الله تعالى بهذا فهاته وحبذا، وحينئذ نقول لا ينبغي مجاوزة الألفاظ الثابتة إلى ما يرادف معناها مما سواها إن كان استعمالها يقوم بالمطلوب في الإخبار عن رب العزة جل وعلا.. ولكن ما قولك فيما إن أردنا مخاطبة رجل أعجمي لا يفقه العربية، وأردنا أن نشرح له صفات الله تعالى، أو أردنا أن ندعو ملحدا للدخول في الإسلام، فماذا نصنع وكيف يقال لنا قفوا على ألفاظ الصفات ولا تتكلموا بما لم يثبت؟؟ لا يعقل ولا يصح أن يقال إن الكلام عن الله تعالى لا يجوز إلا باللفظ الثابت توقيفا وفقط!! واللفظ إنما يعبر عن معنى مراد، فإن كان المعنى حقا فحق، وإلا فلا.
أما إن قال المخالف
وبما أنّ هذه الألفاظ أُطلِقَت لتفسير وشرح المعنى الظاهر للصفات. أليس مطلقها عرضةً للخطأ؟
فإننا نجيبه بأن كل بني آدم يقعون في الخطإ، فلا حجة لأحد على أحد في مجرد هذا المعنى! وإلا فهل يدعي هذا المخالف أن تفسيره الاستواء بالاستيلاء، لا يتطرق إليه الخطأ (عقلا)؟؟؟ بل هو إلحاد عن ظاهر المعنى بلا موجب إلا ما يتوهمونه من لزوم التجسيم والمشابهة من إثبات المعنى الظاهر، وهذا هو بيت الداء عندهم!! فإن قال إن هذا لازمه أن يكون أعدل الأقوال وأوسطها أن نفوض ولا نخوض أصلا في التفسير لا بظاهر ولا غيره، حتى نسلم من الخطإ، فقد عطل بذلك قدرة عقول البشر على فهم مراد الرب جل وعلا مما وصف به نفسه ووصفه به نبيه في خطابه إليهم، وهدم أصلا من أصول الدين وهو يحسب أنه ينزه الرب عن القول عليه بغير علم، بل إنه – لو تأمل - يتهم الوحي بالعبث والكلام بما لا فائدة فيه، والله المستعان!! فالقول بالتفويض كالقول بالتأويل على خلاف الظاهر، كلاهما سواء في العدوان على الوحي وعلى عقول البشر!
فإن قال: أليس إثبات هذه المعاني ضربا من التأويل؟ قلنا له بلى، وكل التفسير – لغة – ضرب من التأويل! فهل نمتنع من تفسير خطاب الله في القرءان مخافة الوقوع في الخطإ في ذلك؟؟ لو أنصف هؤلاء وتجردوا من تقليد أئمتهم لتبين لهم أن أعدل وأسلم ضروب التأويل والتفسير إنما هي الحمل على ظاهر المعنى اللغوي، ما لم يرد ما يفيد امتناع ذلك الظاهر (بالنص)! أما قولهم إن المشابهة لازمة من إثبات معنى كذا دون معنى كذا مما صح من الصفات فما ضابطه عندهم ومن أين أتوا به؟؟ بأي ضابط قال من قال منهم إن ظاهر معنى السمع لا يلزم منه التشبيه، بينما ظاهر معنى الكلام يلزم منه التشبيه، ومن أين جاء بذاك الضابط؟؟ والذي قال إن كلا المعنيين يلزم منه التشبيه بم يجيب هذا الأخير عليه؟؟ تجدهم يفرعون في قواعد فلسفية ما أنزل الله بها من سلطان، ولا أثارة من دليل على شيء منها البتة، ثم يقولون هذه طريقة السلف في التنزيه!!! أي تنزيه قاتلهم الله؟؟ قد تقرر عندنا جميعا أنه سبحانه ليس كمثله شيء، وفي نفس الآية تقرر كذلك أنه هو السميع البصير، فمع كونه موصوفا بهذا فليس كمثله شيء.. فهذه قاعدة السلف في سائر ما صح عندهم من وصف لله تعالى، دون توهم المشابهة في هذا أو في ذاك!!
فصحيح هو تأويل، ولكن هذه حقيقة التفسير، الذي هو سبيل المخاطبين إلى فهم الخطاب على وجهه الصحيح.. وفهم صفات الله على معناها الحق واجب، كما هو الشأن في سائر نصوص الوحي، بل هو أول واجبات المكلفين في ديننا أصلا! فماذا يريدون؟؟
يقولون هذه الألفاظ التي معنا ضرب من التأويل، فكان ماذا؟؟ ما هي تلك الألفاظ وما معناها تحقيقا في اللسان الأول، لسان المخاطبين الأوائل الذين لم يرد إلينا ما يفيد هروبهم من فهم تلك المعاني على ظاهرها بدعوى لزوم المشابهة؟ فإننا نقول إن الصفات ألفاظ يلزمنها فهم معناها.. فهذا المعنى المثبت عندنا للصفة إن كان نفيه يلزم منه تعطيل الصفة نفسها أو حملها على خلاف المتبادر إلى الذهن دون بينة، فلا يجوز المنع من الكلام به وإطلاقه في حق الله تعالى عند الحاجة إلى ذلك!
وجوابا عن قوله:
فكما أنّ التأويل الأشعري مآله التعطيل، فإن هذا الضرب من الزيادة في الإثبات بألفاظ لم تطلقها النصوص مآله التشبيه...
نقول حرر مرادك بالزيادة في الإثبات أولا! فإن كان مجرد نقل لفظ الصفة إلى معناه الظاهر في مقام إثباتها والرد على من يعطلها، هو على اصطلاحك من "زيادة الإثبات"، فما حقيقة الإثبات أصلا عندك؟ وكيف تقف على ذاك الوسط الذي تدعيه بين التعطيل والتشبيه، إن كنت لا تسمح لعقلك بفهم أي معنى ظاهر أو غير ظاهر للفظ بدعوى أن هذا تأويل وذاك تأويل؟؟؟ لا إثبات إذن وإنما تفويض وتعطيل! الإثبات إنما يعني الإيمان بنسبة هذا اللفظ بمعناه الحق إلى الرب جل وعلا، على الوجه اللائق بذاته. فما هو المعنى الحق عندك ومن أين جئت به؟ هذا هو بيت القصيد!
عندما يقول الأشعري أنا لا أعطل وإنما أعطي المعنى اللائق، فإننا نقول له بل تصرفه عن المعنى الظاهر المتبادر إلى الأذهان بلا دليل إلا ما تتوهمه أنت من لزوم مشابهة المخلوقين من القول بالمعنى الظاهر! وهذا اللزوم لم نسمع أحدا من الصحابة والتابعين يقول به البتة، مع أنه أصل أصول نحلتكم هذه كما لا يخفى، فمن أين جئتم به، وأنتم ترون القراءن يمنعه وينفيه نفيا صريحا عن سائر الصفات في قوله تعالى ((ليس كمثله شيء وهو السميع البصير))؟؟!! إنما هو تحكم بالباطل هربا من لازم باطل!
أما قول القائل: أنا لا أشبه وإنما أعطيها معناها الظاهر، فلا يكون هذا زيادة في الإثبات – بما يفضي إلى التشبيه – إلا إن ادعى لزوم ما ليس بلازم عقلا ولا لغة من ظاهر المعنى، دون الوقوف على نص يثبته! كقول القائل – مثلا – إن استواء الرب على العرش يلزم منه إثبات معنى الثقل! الثقل ليس من معنى الاستواء ولا يلزم – عقلا – إلا في المخلوق.. ولكن هل يعني عدم لزومه في حق الله تعالى الجزم ببطلانه؟ كلا! إذ لو شاء الله تعالى أن يثقل العرش فوق رؤوس حملته لفعل، ولم يلزم من ذلك الإثقال معنى الاتكاء عليه أو الاعتماد عليه على نحو ما يكون من المخلوقين!! فنحن نتوقف هنا، لا نثبت إلا إن وقفنا على نص صحيح صالح للاحتجاج! أما الأشاعرة فيقولون بل نجزم بالامتناع العقلي لمثل هذا المعنى لأنه يلزم منه ما يلزم في المخلوقين، وهذا باطل واضح! إذ هم الذين وقعوا بقولهم هذا في قياس صفات الرب على صفات المخلوقين في الكيف والحقيقة، لذلك فهم – كما قال شيخ الإسلام رحمه الله - لما شبهوا، وانقدح ذلك القياس الباطل في عقولهم، لم يجدوا إلا أن يعطلوا المعنى أو يصرفوه عن الظاهر إلى أي وجه آخر بلا موجب لذلك! فلما كانت عقولهم تتفاوت فيما تراه يلزم منه التشبيه وما لا تراه كذلك، جاءت طوائفهم على طبقات عدة، وفرق شتى من الجهمية المحضة إلى الكرامية والكلابية ونحوها! أما أهل السنة فقد تبرأوا إلى الله من ذلك اللازم أصلا، فلم يصرفوا المعاني إلى المجاز بلا صارف معتبر، ولم يمنعوا من تفسير صفات رب العالمين وفهمها بالمعنى المتبادر إلى الذهن العربي الصحيح، دون تكلف ما لم يقل به أحد من القرون الفاضلة في ذلك! فالحمد لله على نعمة الإسلام والسنة.