حَدِيثُ
العَـمَاءِ رِوَايَـةً وَدِرَايَـةً
حَقَّقَهُ
وَلِيـدُ بنُ حُسْـنِي بنِ بَـدَوِي بنِ مُحَمَّـدٍ الأُمَـوِيُّ
عَفَا اللهُ عَنْهُ
مُقَدِّمَةٌ
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فهذا جزءٌ جَمَعْتُهُ من كلامِ أهلِ العلمِ في حديثِ أبي رُزَينٍ العُقَيلِيِّ المشهورِ والذي فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى إنه كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء، أسميته (حديث العماء رواية ودراية) وجعلت الكلام فيه في فصلين:
الفصل الأول: طرق الحديث، وذكر من صححه أو ضعفه من العلماء، ثم ذكر الترجيح.
الفصل الثاني: ذكر معنى الحديث عند أهل السنة، وذكر كلام بعض الفرق فيه.
والله أسأل أن يجعل عملي هذا مقبولًا وفي سبل الخير مصروفًا، وهو حسبي ونعم الوكيل، وصلى الله على نبينا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
الفصل الأول: طرق الحديث، وذكر من صححه وضعفه من العلماء، ثم ذكر الترجيح.
طرقه
رواه أحمد بن حنبل في مسنده ( 26 / 108 ) قال: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ وَكِيعِ بْنِ عُدُسٍ، عَنْ عَمِّهِ أَبِـي رَزِينٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ؟ قَالَ:" كَانَ فِي عَمَاءٍ مَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ وَمَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ، ثُمَّ خَلَقَ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ".
وأيضًا رواه ( 26 / 117 ) من طريق بهز قال: حدثنا حماد به.
ورواه كذلك من طريق يزيد بن هارون : ابن بطة في الإبانة الكبرى(2536). وكذلك ابن ماجه ( 1 / 64 ) ، والترمذي (5/288)، وابن أبي شيبة في العرش(ص 313 برقم 7).
ورواه ابن الجوزي في تاريخه المسمى "المنتظم في تاريخ الملوك والأمم"(1/122) وهو إسناد أحمد في المسند.
ورواه الطبراني ( الكبير 19 / 207 ) من طريق أسد بن موسى ، وحجاج بن منهال قالا: حدثنا حماد بن سلمة به.
وابن حبان( 14 / 8) من طريق حجاج وحده قال حدثنا حماد به. وكذلك ابن جرير في تفسيره (15/246 ، 246-247) من طريق حجاج ، ويزيد بن هارون قال حدثنا حماد به.
ورواه كذلك ابن أبي عاصم في السنة(331 ) من طريق حجاج بن منهال.
ورواه أبو الشيخ في العظمة(1 / 363 ) من طريق أبي داود الطيالسي قال حدثنا حماد به. وأصل تلك الرواية في مسند الطيالسي(ص 147 ). وكذلك رواه البيهقي في الأسماء والصفات(2/235).ورواه أيضًا في الأسماء والصفات(2/303) من طريق ابن أبي إياس عن حماد به.
ورواه ابن عبد البر في التمهيد(7/137) من طريق محمد بن عبد الله الخزاعي قال حدثنا حماد بن سلمة به.
ورواه ابن الجوزي في تاريخه المسمى "المنتظم في تاريخ الملوك والأمم"(1/122).
فلم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم أحد غير أبي رزين، ولم يروه عن أبي رزين أحد غير وكيع بن عُدُس، ولم يروه عن وكيع أحد غير يعلى بن عطاء- ووكيع لا يرو عنه غير يعلى-، ولم يروه عن يعلى غير حماد بن سلمة، ورواه عن حماد نفر منهم : يزيد بن هارون، وأبوداود الطيالسي، وأسد بن موسى ، وحجاج بن منهال، وبهز بن أسد العمي، وابن أبي إياس.
ذكرُ من صحَّحهُ من العُلماءِ
(1) الإمام إسحاق بن راهويه : قال فيما رواه ابن بطة في الإبانة عنه بسنده الصحيح([1]) :" قوله في عماء قبل أن يخلق السموات والأرض تفسيره عند أهل العلم أنه كان في عماء يعني سحابة"اهـ
وحكاية إسحاق ذلك التفسير عن العلماء ورضاه به يدل على اقتناعه بصحة الحديث وإلا صار كلامه من القول في الله بغير علم .
(2) الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام: قال بعد تفسيره غريب ذلك الحديث([2]):" وإنما تأولنا هذا الحديث على كلام العرب المعقول عنهم ولا ندري كيف كان ذلك العماء وما مبلغه والله أعلم وأما العمى في البصر فإنه مقصور وليس هو من معنى هذا الحديث في شئ"اهـ
وما كان لأبي عبيد أن يقول ذلك وقد ضعف الحديث، أو حتى توقف فيه، لأنه عند ذلك يكون متجرئًا على القول في الصفات بلا مستند([3]).
(3) الإمام أبو عيسى الترمذي: حسنه في سننه([4]) .
وقال ابن القيم([5]):"... هذا الإسناد صححه الترمذي في موضع، وحسنه في موضع فصححه[ أي الإسناد] في الرؤيا : أخبرنا الحسن بن علي الخلال، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا شعبة، عن يعلى بن عطاء، عن وكيع بن عدس، عن عمه أبي رزين العقيلي، قال: قال رسول الله:" رؤيا المؤمن جزء من أربعين جزءًا من النبوة وهي على رجل طائر ما لم يحدث بها فإذا حدث بها وقعت" ،قال: وأحسبه قال: لا تحدث بها إلا لبيبًا أو حبيبًا. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
قال ابن القطان: فيلزمه تصحيح الحديث الأول أو الاقتصار على تحسين الثاني يعني لأن الإسناد واحد .قال: فإن قيل لعله حسن الأول لأنه من رواية حماد بن سلمة ،وصحح الثاني لأنه من رواية شعبة وفضل ما بينهما في الحفظ بين قلنا، قد صحح من أحاديث حماد بن سلمة مالا يحصى وهو موضع لا نظر فيه عنده ولا عند أحد من أهل العلم فإنه إمام وكان عند شعبة من تعظيمه وإجلاله ما هو معلوم"اهـ
(4) ابن جرير الطبري : صححه في تاريخه قال([6]):" وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: إن الله تبارك وتعالى خلق الماء قبل العرش لصحة الخبر الذي ذكرت قبل عن أبي رزين العقيلي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال حين سئل أين كان ربنا عز و جل قبل أن يخلق خلقه قال كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء ثم خلق عرشه على الماء"اهـ
(5) ابن تيمية النمري الحراني : ذكره في كثير من كتبه([7]) محتجًا به ، ولم يذكر في سنده مطعنًا.
(6) الحافظ الذهبي: قال في كتابه العلو([8]) :"إسناده حسن".
(7) ابن قيم الجوزية: صححه في إعلام الموقعين([9]) ، وفي فتاوى إمام المفتين([10])، وفي حاشيته على أبي داود([11]).
(8) ابن كثير : نقله في تفسيره([12]) ، وأردف بعده قول الترمذي:"هذا حديث حسن"، ولم يعقب.
ذكرُ من ضعَّفوهُ من العلماءِ
(1) ابن الجوزي: في دفع شبه التشبيه([13]).
(2) ابن قتيبة : قال في تأويل مختلف الحديث([14]):" ونحن نقول: إن حديث أبي رزين هذا مختلف فيه، وقد جاء من غير هذا الوجه بألفاظ تستشنع أيضًا!، والنقلة له أعراب !!،ووكيع بن حدس الذي روى عنه حديث حماد بن سلمة أيضًا لا يعرف غير أنه قد تكلم في تفسير هذا الحديث أبو عبيد القاسم بن سلام: حدثنا عنه أحمد بن سعيد اللحياني أنه قال: العماء السحاب. وهو كما ذكر في كلام العرب إن كان الحرف ممدودًا وإن كان مقصورا كأنه كان في عمى، فإنه أراد كان في عمى عن معرفة الناس كما تقول: عميت عن هذا الأمر فأنا أعمى عنه عمى إذا أشكل عليك فلم تعرفه ولم تعرف جهته ،وكل شيء خفي عليك فهو في عمى عنك .
وأما قوله:" فوقه هواء وتحته هواء" فإن قومًا زادوا فيه (ما) فقالوا "ما فوقه هواء وما تحته هواء استيحاشًا من أن يكون فوقه هواء وتحته هواء !! ويكون بينهما والرواية هي الأولى والوحشة لا تزول بزيادة ما لأن فوق وتحت باقيان والله أعلم"اهـ
(3) بدر الدين بن جماعة : قال([15]):" وأما حديث أبي رزين العقيلي أين كان ربنا قال كان في عماء فهو حديث ضعيف تفرد به يعلى بن عطاء عن وكيع بن عدس ويقال حدس"اهـ
(4)العلامة الألباني: في المشكاة(3/244)، وظلال الجنة(331)، والضعيفة(11/321)، ومختصر العلو ( 193 و 250)،وضعيف ابن ماجه(182)......،وكذل ضعفه بعض العلماء طلاب العلم المعاصرين.
وقال الشيخ الألباني في تعليقه على كتاب التنكيل:" حديث أبي رزين مع شهرته وتحمس بعض السلفيين له لا يصح من قبل إسناده ، فيه وكيع بن حدس، قال الذهبي : ( لا يعرف)، وفيما صح في الباب ما يغني عنه"اهـ
وعلته عند الشيخ -رحمه الله- هي وكيع بن عدس أبو مصعب العقيلي: بضم الدال وقيل بفتحها. قال ذلك شعبة وهشيم .وقال أحمد([16]):" وهم فيه هشيم ، أخذه من شعبة".
وقيل: ابن حُدُس ، قاله سفيان وأبو عوانة،وحماد.واخ اره أحمد بن حنبل- رحمه الله-([17]).
وقال الألباني في ظلال الجنة (1 / 228):" يقال حدس بالحاء المهملة وهكذا وقع في الرواية المتقدمة وهو الصواب كما قال الإمام أحمد في المسند وهذا من الفوائد التي خلت منها كتب الرجال فإنهم لم يحكوه عنه بينما نقلوا عن ابن حبان أنه قال في الثقات: أرجو أن يكون الصواب حدس بالحاء سمعت عبدان الجولقى يقول ذلك"اهـ
وعلة التضعيف جهالة وكيع بن عدس؛ قال الذهبي([18]):" عن عمه.
لا يعرف.تفرد عنه يعلى ابن عطاء"اهـ
وقال في الكاشف([19]):" وكيع بن عدس أو حدس العقيلي عن أبي رزين وعنه يعلى بن عطاء وثق"اهـ
قوله(وثق): حكاية عن توثيق ابن حبان له([20]).
قال في (مشاهير علماء الأمصار!)([21]):" وكيع بن عدس بن عامر بن أخى أبى رزين العقيلي لقيط بن عامر ويقال حدس من الأثبات!".
وكلام ابن حبان عنه بضميمة تخريجه له في صحيحه([22]) كما مرَّ يدل على معرفته به فيصير توثيقه له في المرتبة الرابعة التي ذكرها العلامة المعلمي لما قال([23]):"وَالتَّحْقِيق فِي تَوْثِيقِ ابْنِ حِبَّانَ أَنَّهُ عَلَى دَرَجَاتٍ :
الأُولَى : أَنْ يُصَرِّحَ بِهِ كَأَنْ يَقُولَ: كَانَ مُتْقِنَاً، أَوْ مُسْتَقِيمُ الْحَدِيثِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.
الثَّانِيةُ : أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مِنْ شُيُوخِهِ الَّذِينَ جَالَسَهُمْ وَخَبَرَهُمْ .
الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمَعْرُوفِينَ بِكَثْرِةِ الْحَدِيثِ ، بِحَيْثُ يُعْلَمَ أََنَّ ابْنَ حِبَّانَ وَقَفَ لَهُ عَلَى أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ .
الرَّابِعَةُ : أَنْ يَظْهَرَ مِنْ سِيَاقِ كَلامِهِ أَنَّهُ قَدْ عَرَفَ ذَاكَ الرَّجُلَ مَعْرِفَةً جَيِّدَةً .
الْخَامِسَةُ : مَا دُونَ ذَلِكَ .
فَالأُولَى لا تَقِلُ عَنْ تَوْثِيقِ غَيْرِهِ مِنْ الأَئِمَّةِ ، بَلْ لَعَلَّهَا أَثْبَتُ مِنْ تَوْثِيقِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ ، وَالثَّانِيَةُ قَرِيبٌ مِنْهَا ، وَالثَّالِثَةُ مَقْبُولَةٌ ، وَالرَّابِعَةُ صَالِحَةٌ ، وَالْخَامِسَةُ لا يُؤْمَنُ فِيهَا الْخَلَلُ . وَاللهُ أَعْلَمُ"اهـ
وقال ابن قتيبة :" غير معروف". وقال ابن القطان:"مجهول الحال". نقلهما ابن حجر في التهذيب([24]).
ولكنه قال في التقريب([25]):" وكيع بن عدس بمهملات وضم أوله وثانيه وقد يفتح ثانيه ويقال بالحاء بدل العين أبو مصعب العقيلي بالفتح الطائفي مقبول من الرابعة"اهـ
وقال الألباني(السنة لابن أبي عاصم:459):" وقال الحافظ : مقبول، يعني: عند المتابعة"اهـ
وقال في اللسان([26]):" وكيع بن عدس أو حدس على وزنه الا انه بحاء مهملة أبو مصعب العقيلي الطائفي عن عمه أبي رزين وعنه يعلى بن عطاء فقط وثقه ابن حبان "اهـ
وقال الجورقاني([27]):" صدوق صالح الحديث".
وذكره مسلم في الوحدان([28]) ولم يذكره النسائي فيمن لم يرو عنه إلا واحد . وذكره ابن أبي حاتم في(الجرح والتعديل) ولم يذكر فيه شيئًا([29]).وكذلك فعل البخاري في تاريخه الكبير([30]).
وقد اختلف أهل العلم في مجهول العين وهو الذي يروي عنه راو واحد فقط ولم يوثقه معتبر:
فقالت طائفة من المحققين : مجهول العين ترتفع جهالته برواية عدل مشهور عنه ، ذهب إلى ذلك الحنفية، وابن خزيمة ، وعزاه النووي في مقدمة شرح مسلم لكثير من المحققين.
وقالت طائفة: كذلك ، إذا عرف الراوي عنه بأنه لا يروي إلا عن عدل،كابن مهدي رحمه الله.
وقيل: بل ترتفع إذا كان معروفًا في قبيلته ، أو مشهورًا بفضل ، أو روى عنه آخر([31]).
وقيل: ترتفع جهالته مع رواية واحد عنه بتزكية أحد أئمة الجرح والتعديل له.
وقيل: يستأنس بحديث من كان في عصر التابعين ولم يرو عنه إلا واحد لخيرية القرن.
والأكثرون على عدم قبول رواية مجهول العين([32]).
وبعضهم يعلل الضعف باختلاط حماد بن سلمة أو إن شئت فقل : لصحة عقيدة حماد بن سلمة ولموافته للسلف في إمرار آيات الصفات وأحاديثها على طريقة السلف الصالحين، ومن اولئك المغرورين محمد زاهد الكوثري في تعليقه على(السيف الصقيل في الرد على ابن زفيل)، قال([33]):" وأما حديث أبي رزين ففي سنده حماد بن سلمة مختلط، وكان يدخل في حديثه ربيباه ما شاءا؛ وليس في استطاعة ابن عدي ولا غيره إبعاد هذه الوصمة عنه، ويعلى بن عطاء تفرد به عن وكيع بن حدس أو عدس، وهو مجهول الصفة، وهو تفرد عن أبي رزين، ولا شأن للمنفردات والوحدان في إثبات الصفات فضلا عن المجاهيل وعمن به اختلاط، فليتق الله من يحاول أن يثبت به صفة لله.
وقد سئم أهل العلم من كثرة ما يرد بطريق حماد بن سلمة من الروايات الساقطة في صفات الله سبحانه. وقد روى أبو بشر الدولابي الحافظ عن ابن شجاع عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال: " كان حماد بن سلمة لا يعرف بهذه الأحاديث حتى خرج خرجة إلى عبدان فجاء وهو يرويها، فلا أحسب إلا شيطانا خرج إليه في البحر فألقاها إليه"اهـ
(قلت): أما قوله بأن ربيبيه يدخلان في كتبه ما شاءا فتكرار لما قال في (تأنيب الخطيب) ينقله عن ابن الجوزي الذي لم يذكر في دفع شبه التشبيه علة للحديث غير وكيع بن حدس وتفرد يعلى عنه، فلو كان حماد كذلك عنده لضعف الحديث بحماد ولكنه لم يفعل!، هذه واحدة.
وأما حكاية أن شيطانًا خرج إليه من البحر...إلخ : فهي من رواية محمد بن شجاع ابن الثلجي ، قال فيه الذهبي:" ابن الثلجي ليس بمصدق على حماد وأمثاله وقد اتهم. نسأل الله السلامة "اهـ
وأما أن يكون إبراهيم بن عبد الرحمن بن مهدي قال ذلك ففيه نظر، ولذا قال المعلمي :" وإبراهيم بن عبد الرحمن ابن مهدي ولد أبوه سنة 135 فمتى ترى ولد إبراهيم ؟ ومولد ابن الثلجي كما ذكر عن نفسه سنة 181 فمتى تراه سمع من إبراهيم ؟ وفي ترجمة قيس بن الربيع من ( التهذيب ) شيء من رواية ابن المديني عن إبراهيم وهذا يشعر بأنه عاش بعد أبيه ، وأبوه مات سنة 198 فإذا كان إبراهيم مات سنة 200 فمتى صحب حماد بن سلمة حتى عرف حديثه وعرف أنه لم يكن يروي تلك الأحاديث حتى خرج إلى (( عبادان )) وكيف عرف هذا الأمر العظيم ولم يعرفه أوه وكبار الأئمة من أقران حماد وأصحابه ؟ وكلهم ابلغوا في الثناء على حماد كما يأتي"اهـ
وأما دعوى الاختلاط فمردودة ، ولا نطول بردها البحث فردها مبسوط في (التنكيل) للمعلمي: ترجمة حماد بن سلمة.
ويكفينا أن علي بن المديني وهو من هو في معرفة الحديث وعلله والإمامة في الجرح والتعديل قد قال:" من تكلم في حماد بن سلمة فاتهموه في الدين".
وغريب من الكوثري أنه لم يعله لروايته في المسند!!، لأنه القائل في المسند([34]):"والمسند مع انفراد ابن المذهب والقطيعي بروايته لا يكون موضع تعويل في شيء! "اهـ
والحاصل أن تعليل ضعف الحديث باختلاط حماد بن سلمة ونحوه لا يقوم به مسموع كلمة في هذه الصناعة وإنما يتحمس له متعصبة الجهمية ونحوهم الذين يبغضون أهل الحق وأئمة السلف ولا يألون جهدًا في غمزهم ولمزهم،
وكما قال ابن قيم الجوزية- قدس الله روحه-:
إنَّ الكلامَ مع الكبارِ وليسَ مَعْ
تلك الأراذلِ سِفْلةِ الحيوانِ
أوساخِ هذا الخلقِ بل أنتانِه
جيفِ الوجودِوأخبثِ الإنسانِ
الطالبين دماءَ أهلِ العِلمِ بالـ
كفرانِ والعُدوانِ والبُهتانِ
الشاتمي أهلِ الحديثِ عداوةً
للسُّنةِ العليا مع القرآنِِ
جعلوا مسبتهَم طعامَ حُلُوقِهم
فاللهُ يقطعُها من الأذقانِ
التَّرجيحُ
· ويترجح لي قبول الحديث لعدة أمور:
الأول: أني لم أقف على أحد ضعفه من أئمة السلف الذين هم أعلم من غيرهم بهذا الشأن لا سيما أئمة الجرح والتعديل منهم كأحمد وإسحاق وأبي عبيد . قال المعلمي- رحمه الله تعالى-([35]):" أئمة الحديث قد يتبين لهم في حديث من رواية الثقة الثبت المتفق عليه أنه ضعيف، وفي حديث من رواية من هو ضعيف عندهم أنه صحيح، والواجب على من دونهم التسليم لهم"انتهى
الثاني: أن العلة المذكورة في تضعيف الحديث وهي الجهالة العينية لوكيع بن حدس تزول عند طائفة بقرائن متعينة في وكيع منها أنه من التابعين ومن خير القرون بعد قرن الصحابة وأن عمه أبو رزين صاحب رسول الله وهو الراوي عنه.
قال الحافظ أبو عبد الله الذهبي([36]) في ترجمة أصقع بن أسلع عن سمرة بن جندب:" ما علمت روى عند سوى سويد بن حجير الباهلي، وثقه مع هذا يحيى بن معين ، فما كل من لا يعرف ليس بحجة لكن هذا الأصل"انتهى
الثالث: قبول كثير من أئمة السلف لهذا الحديث دون طعن على وكيع، مع علمهم بأن موضوعه أخطر موضوعات الدين موردًا.
الرابع: توثيق ابن حبان لوكيع بن حدس على النحو والشرح المذكورَينِ.
الخامس: عناية العلماء المتقدمين بوكيع بن حدس واختلافهم في ضبط اسمه، وتصحيحهم لحديثه في غير ذلك الموضع، هذه العناية لم نر مثلها لمثله.
السادس: قول الحافظ في التقريب إنه مقبول.
السابع: كون وكيع من مجاهيل التابعين فهو مظنة التوثيق.
قال الحافظ الذهبي([37]):" وأما المجهولون من الرواة , فإن كان الرجل من كبار التابعين أو أوساطهم احتمل حديثه وتلقي بحسن الظن , إذا سلم من مخالفة الأصول وركاكة الألفاظ , وإن كان الرجل منهم من صغار التابعين فيتأنى في رواية خبره , ويختلف ذلك باختلاف جلالة الراوي عنه وتحريه وعدم ذلك"انتهى
قال المعلمي([38]):" فإن أئمة الحديث لا يقتصرون على الكلام فيمن طالت مجالستهم له وتمكنت معرفتهم به بل قد يتكلم أحدهم فيمن لقيه مرة واحدة وسمع منه مجلساً واحداً أو حديثًا واحدًا وفيمن عاصره ولم يلقه ولكنه بلغه شيء من حديثه وفيمن كان قبله بمدة قد تبلغ مئات السنين إذا بلغه شيء من حديثه ومنهم من يجاوز ذلك فابن حبان قد يذكر في الثقات من يجد البخاري سماه في تاريخه من القدماء وإن لم يعرف ما روى وعمن روى ومن روى عنه ولكن ابن حبان يشدد وربما تعنت فيمن وجد في روايته ما استنكره وإن كان الرجل معروفاً مكثرا والعجلي قريب منه في توثيق المجاهيل من القدماء وكذلك ابن سعد، وابن معين والنسائي وآخرون غيرهما يوثقون من كان من التابعين أو أتباعهم إذا وجدوا رواية أحدهم مستقيمة ، بأن يكون له فيما يروي متابع أو شاهد وإن لم يرو عنه إلا واحد ولم يبلغهم عنه إلا حديث واحد"انتهى
الفصلُ الثَّاني: ذكرُ معنى الحديثِ عندَ أهلِ السُّنَّةِ، وذكرُ كلامِ الفرقِ فيهِ.
اختلف الناس في العماء صورة ومعنى، فقال بعضهم إنها بالمد، وهو الأشهر والأصوب. وقال بعضهم: إنها بالقصر (العمى). وحكى ابن الجوزي وغيره أنها رويت(غمام) بالغين المعجمة وقال: إنه ليس محفوظًا([39]).
أما الأولى، فقال فيها أبو عبيد في غريبه([40]):" قوله: في عماء، في كلام العرب السحاب الأبيض، قال الأصمعي([41]) وغيره: هو ممدود .
وقال الحارث بن حِلِّزة اليشكري:
وكأن المنون تردي بنا *** أعصم ينجاب عنه العماء
يقول: هو في ارتفاعه قد بلغ السحاب ينشق عنه، يقول: نحن في عزنا مثل الأعصم، فالمنون إذا أرادتنا فكأنما تريد أعصم.
قال زهير يذكر ظباء وبقرًا:
يشمن بروقه ويرش أري الجنوب على حواجبها العماء"اهـ
وقال يزيد بن هارون:" العماء أي ليس معه شيء".
وقال الأصمعي([42]):" ويجوز أن يكون معنى الحديث في عمى أنه عمى على العلماء كيف كان".
وقال إسحاق بن راهويه([43]):" في عماء يعني في سحابة". وقال الخليل بن أحمد([44]):"العماء: السحاب الكثيف المطبق".
وقيل:"العماء : الغيم الرقيق".وقيل: السحاب الممطر.
وقيل:السحاب الأسود.
وأما بالقصر(العمى): هو عبارة عن الحالة المضادة للبصر([45]).
أولًا: معنى الحديثِ على ذلك عندَ أهلِ السُّنَّةِ.
قال شيخ الإسلام في بيان تلبيس الجهمية:" وأما قوله (في عماء) فعلى ما ذكره يزيد بن هارون ورواه عنه أحمد بن منيع وقرره الترمذي في أن معناه ليس معه شيء فيكون فيه دلالة على أن الله تعالى كان وليس معه شيء"اهـ
وقال أيضًا([46]):" ...قوله (كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء) لا سيما وهذا لا ينافي الفوقية والعلو بالقدرة والقهر والتدبير"اهـ
وقال([47]):" وذكر بعضهم أن هذا هو السحاب المذكور فى قوله (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله فى ظلل من الغمام)"اهـ
وقال مرعي الكرمي([48]):" هذا الحديث من المشكلات حيث قال عليه السلام كان في عماء وهو سبحانه منزه عن الظرفية ولم أر من كشف عن حقيقته بما يرفع إشكاله إلا أن يقال إن في بمعنى على كما قالوا في قوله أأمنتم من في السماء الملك"اهـ
قلت: وليس كما ذكر، بل قد رفع إشكاله البيهقي في الأسماء والصفات([49])، فقال:" وَيُرِيدُ بِقَوْلِهِ فِي عَمَاءٍ أَيْ : فَوْقَ سَحَابٍ مُدْبِرًا لَهُ وَعَالِيًا عَلَيْهِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ، يَعْنِي : مَنْ فَوْقَ السَّمَاءِ وَقَالَ : وَلأُصَلِّبَنَّ كُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ يَعْنِي : عَلَى جُذُوعِهَا"اهـ
وأما قوله ( ما فوقه هواء وما تحته هواء) فما فيه محتملة لأن تكون نافية أو موصولة، والضمير عائد اتفاقًا على (العماء).
ومن فوائد الحديث:
· جواز السؤال: أين الله؟
· العلو الذاتي لله تعالى.
· الإشارة إلى سبق خلق الماء على العرش، كما قال ابن جرير.
وليس في الحديث إدنى إشارة إلى ما ذهب إليه الدهرية والفلاسفة من قدم العالم الذاتي أو الطبعي، قال ابن تيمية([50]):" ثم لو دل على وجود موجود على قول من يفسر العماء بالسحاب الرقيق لم يكن في ذلك دليل على قول الدهرية بقدم ما ادعوا قدمه ولا بأن مادة السموات والأرض ليستا مبتدعتين وذلك أن الله سبحانه وتعالى أخبر في كتابه بابتداء الخلق الذي يعيده كما قال وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وأخبر بخلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام في غير موضع وجاءت بذلك الأحاديث الكثيرة"اهـ
ونقل ابن القيم([51]) في تفسير رواية(العمى):" قال أبو القاسم: العماء ممدود، وهو السحاب والعمى مقصور: الظلمة، وقد روي الحديث بالمد والقصر، فمن رواه بالمد فمعناه عنده كان في عماء سحاب ما تحته هواء وما فوقه هواء. والهاء راجعة على العماء، ومن رواه بالقصر فمعناه عنده كان في عمى عن خلقه لأنه من عمي عن شيء فقد أظلم عنه"اهـ
وذلك لأن (العمى) هو(الظلمة).
ثانيًا: معنى الحديثِ عندَ الأشاعرةِ.
ذهب كثير من أئمة الأشاعرة إلى تضعيف الحديث منهم: الفخر الرازي في تفسيره لما قال([52]):" السؤال الثاني : هل يصح ما يروى أنه قيل يا رسول الله ، أين كان ربنا قبل خلق السموات والأرض؟ فقال كان في عماء فوقه هواء وتحته هواء . والجواب : أن هذه الرواية ضعيفة، والأولى أن يكون الخبر المشهور أولى بالقبول وهو قوله صلى الله عليه وسلم كان الله وما كان معه شيء، ثم كان عرشه على الماء "اهـ
وبدر الدين بن جماعة في إيضاح الدليل لما قال:" وأما حديث أبي رزين العقيلي أين كان ربنا ؟ قال كان في عماء فهو حديث ضعيف تفرد به يعلى بن عطاء عن وكيع بن عدس"اهـ
ورد على ظاهره بقوله([53]):" قد بينا ضعف الحديث وعدم الاحتجاج به، وبتقدير ثبوته فالجواب: أن النبي لم ينفر الداخلين في الإسلام أولًا من الأعراب والجاهلية لأنهم كانوا أهل جفاء وغلظة طباع غير فاهمين لدقائق النظر فكان لاينفرهم ويعيرهم بمبادرة الأفكار عليهم.
وقيل: معناه أين كان عرش ربنا؟ بحذف المضاف ويدل عليه قوله: (وكان عرشه على الماء).
وأما قوله: في عماء، روي بالمد والقصر فأما المد فهو الغيم الرقيق والمراد به جهة العلو أي فوق العماء بالقهر والتدبير لا بالمكان.
وأما بالقصر قال الترمذي عن يزيد بن هارون أنه قال: العمى أي ليس معه شيء. فالمراد أنه كان وحده ولا شيء معه، ويدل عليه حديث عمران بن حصين الثابت في الصحيح كان الله ولم يكن شيء غيره وروي ولا شيء معه فشبه عدم الأشياء بالعمى لأن الأعمى لا يرى شيئًا وكذلك المعدوم لا يرى، ونفي التحتية والفوقية في العمى بقوله ما تحته هواء يعني ليس تحت المعدوم المعبر عنه بالعمى هواء ولا فوقه هواء لأن ذلك المعدوم لا شيء فلم يكن له تحت ولا فوق بوجه"اهـ
وذهب إلى تقدير محذوف مضاف إلى لفظ الجلالة كما تقدم من قولهم (عرش الله)، ذهب إلى ذلك غير واحد مهم ابن الأثير الجزري صاحب النهاية([54])، وحكاه ابن الجوزي عن بعضهم في غريبه([55])، وأبو عبيد الهروي صاحب الغريبين([56])، وغير واحد.
وهو مردود لما تقدم من كلام ابن جرير، ولما "روى السدي في تفسيره بأسانيد متعددة أن الله لم يخلق شيئًا مما خلق قبل الماء "([57])، ولمناسبة عود الضمير على لفظ الجلالة في قوله (ثم خلق عرشه على الماء)، ومعناه على هذا التأويل أيضًا فاسد لأنه يكون: أين كان عرش الله ؟ فيجاب: كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء ثم خلق عرشه !! على الماء. هذا لا يستقيم.
وقال القاضي ناصر الدين بن المنير([58]):" وجه الإشكال في الحديث الظرفية والفوقية والتحتية قال: والجواب: أن في بمعنى على، وعلى بمعنى الاستيلاء أي كان مستوليًا على هذا السحاب الذي خلق منه المخلوقات كلها.
والضمير في فوقه يعود إلى السحاب وكذلك تحته أي كان مستوليًا على هذا السحاب الذي فوقه الهواء وتحته الهواء وروى بلفظ القصر في عمى والمعنى عدم ما سواه كأنه قال كان لم يكن معه شيء بل كل شيء كان عدمًا عمي لا موجودًا ولا مدركًا والهواء الفراغ أيضا العدم كأنه قال كان ولا شيء معه ولا فوق ولا تحت".
ثالثًا: معنى الحديثِ عندَ الصُّوفيَّةِ.
صنف([59]) في ذلك الحديث أبو البركات الجامي الصوفي([60]) رسالة ، ونقل الكشميري عن الصوفية في معنى الحديث أنهم قالوا([61]):" إن عماء صفته تعالى وجلّ شأنه هو الصادر الأول ويسمى وجوداً منبسطاً ، ويقولون: إن الصفات زائدة لا عين الذات كما نسب إليهم من لا يدري مذهبهم ، وقالوا: إن الصادر الأول صدر بالإيجاب وهو قديم ، وحاصل الحديث عندهم : كان الله ولم يكن شيء ، لأن العماء وغيره من الصفات ليست بغير الله ، وقال الشيخ محب الله أبادي الصوفي : إن الوجود المنبسط هو مستقر كل شيء ويتصور عليه الأشياء وتستقر وإنه غير متناهٍ"اهـ
وقال ابن عربي([62]):" ولا يقال الأشياء المذكورة ليس شيء منها على صورة الرحمن إلا الإنسان لأنا نقول معنى هذا على زعمك أن أول ظهور الحق من العماء ظهوره في صورة الإنسان ثم ظهر في الصور الأخر"اهـ
والصوفية عليهم غضب الله يعتقدون أن لله صورة تجلت في محمد صلى الله عليه وسلم كما تتجلى صورة المواجه المرآة في المرآة ! صرح بذلك الكفر غير واحد منهم([63]): الكشخانلي، ومحمد الدمرداش ، والجيلي، والبيطار، والقاشاني، والفوتي، وعلي حرازم، والشعراني.
ويقولون في تفسير ذلك فيخبرون عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه([64]):" الخاتم لما سبق من صور التجليات الإلهية التي تجلى الحق سبحانه بصورها في عالم الظهور لأنه - صلى الله عليه وسلم - أول موجود أوجده الله في العالم من حجاب البطون وصورة العماء الرباني ثم ما زال يبسط صورة العالم بعدها في ظهور أجناسها بالترتيب القائم على المشيئة الربانية جنسا بعد جنس إلى أن كان آخر ما تجلى به في عالم الظهور الصورة الآدمية على صورته - صلى الله عليه وسلم - وهو المراد بالصورة الآدمية "اهـ
وعندهم أن أول منفصل من عالم الغيب هو الدرة البيضاء التي هي مركز العماء! والدرة البيضاء([65]) هي العقل الأول المذكور في الحديث الموضوع([66]) :" أول ما خلق الله العقل".
وقد يعبرون عن الدرة البيضاء بمصطلح الياقوتة البيضاء ،و"الياقوتة البيضاء : حقيقة الحقائق ، وتفسيرها عندهم أن اللَّه تعالى قبل أن يخلق الخلق ، كانت الموجودات مستهلكة فيه ، ولم يكن له ظهور فى شئ من الوجود ، وتلك هى الكنزية المخفية ، وحقيقة الحقائق التى فى وجودها ليس لها اختصاص بنسبة من النسب ، لا إلى ما هو أعلى ولا إلى ما هو أدنى ، وهى الياقوتة البيضاء ، فلما أراد الحق سبحانه وتعالى إيجاد هذا العالم ، نظر إلى حقيقة الحقائق ، وإن شئت قل إلى الياقوتة البيضاء ، التى هى أصل الوجود ، فذابت وصارت ماء ، ثم نظر إليها بنظر العظمة ، فتموجت لذلك ، كما تموج الأرياح بالبحر فانفهقت كثائفها بعضها فى بعض ، كما ينفهق الزبد من البحر، فخلق اللَّه من ذلك المنفهق سبع طباق الأرض ، ثم خلق سكان كل طبقة من جنس أرضها ، ثم صعدت لطائف ذلك الماء ، كما يصعد البخار من البحار ، ففتقها اللَّه تعالى سبع سموات ، وخلق ملائكة كل سماء من جنسها ، ثم صير اللَّه ذلك الماء سبعة أبحر محيطة بالعالم ، فهذا أصل الوجود جميعه ، ثم إن الحق تعالى ، كما كان فى القدم موجودًا فى العماء التى عبر عنها بحقيقة الحقائق ، والكنز المخفى ، والياقوتة البيضاء كذلك هو الآن موجود فيما خلق من تلك الياقوتة ، بغير حلول ولا مزج ، فهو متجل فى جميعها ، لأنه سبحانه وتعالى على ما عليه كان وقد كان فى العماء ، وقد كان فى الياقوتة البيضاء"([67]).
واليواقيت عندهم كثيرة وتفسيرها متغير بتغير لونها: فاليواقيت منها يواقيت بيضاء، وزرقاء، وصفراء، وحمراء ..ولكل معنى!!