تجربة الاقتراب من الموت
تعريف هذه الظاهرة باختصار هو أن بعض المرضي الذين تتوقف قلوبهم عن الخفقان – لعدة دقائق - نتيجة لسكتة قلبية او سكتة دماغية - عندما يعودون للوعي بعد موتهم السريري و اقترابهم الشديد من الموت فان بعضهم يحكي عن وقائع غريبة حصلت لهم – في عالم غير عالمنا هذا – خلال الفترة التي سجل الاطباء فيها توقف قلوبهم او أدمغتهم عن الحياة. هنالك قاسم مشترك في كثير من الوقائع التي يرويها أؤلائك الذين مروا بهذه التجربة بغض النظر عن جنسياتهم او خلفياتهم الدينية أو التعليمية أو الثقافية و يشمل ذلك مايلي:
شعور المريض بانه قد خرج من جسده حيث ينظر لجسده المسجي من مكان أعلي و يري و يسمع الاطباء الذين يلتفون حول الجسد .
شعور المريض بانه قد مات ولكنه يدهش لتوقد ذهنه و وعيه الشديد بما حوله و وضوح الرؤيا لديه لدرجة تفوق ماكان عليه خلال حياته.
مروره بعد ذلك بنفق نوراني ضيق.
مشاهدته وتواصله مع بعض من مات من أقرباؤه.
مقابلته لكائن أو كائنات نورانية ( هنا يفسر كل مريض هذا الكائن أو الكائنات – التي لم تخبرهم من هي - حسب أعتقادهم الديني فبعض المسيحيين يرون فيها السيد المسيح و بعض اليهود يصفونها بانها ملائكة- و آخرون يفسرونها ب أشباح- ملاك حارس ....الخ – في كتاب قرأته لمسلمة شيعية كندية مرت بتلك التجربة كان تفسيرها لتلك الكائنات النورانية بانهم هم الائمة – آل البيت).
يقوم كائن نوراني بعرض كل أعمال المتوفي عليه و هناك ينتفي الاحساس بالوقت حيث تعرض للمرء – في شكل شريط سينمائي - كل أعماله الدنيوية بتفصيل شديد و يري ويحس أثر عمله ( ان كان صالحا أو طالحا) علي الاخرين . يتم التاكيد و التشديد علي أهمية العمل الصالح و أن كل عمل يفعله المرء مهما كان تافها فانه يسجل و يعرض عليه .
يتم اخبار المريض بان ساعة وفاته الحقيقية لم تحن بعد لذا فعليه العودة لجسده – هنا يذكر كثير ممن خاضوا تلك التجربة بانهم كانوا يقاومون العودة و يفضلون البقاء في الجانب الآخر حيث كانوا يشعرون بسعادة لاتوصف.
يعاود القلب أو الدماغ المتعطل العمل – يعود الوعي للمريض.
ينتفي الخوف من الموت تماما عند من مروا بتلك التجربة حيث انهم يصبحون موقنيين تماما بان الموت ماهو الا بداية لمرحلة أخري من الوجود.
أكثر ما ادهش الاطباء و الباحثين في هذه الظاهرة هو ان الناجين من الموت كانوا يصفون للاطباء بدقة شديدة ماكان يفعله و يقوله الطاقم الطبي الملتف حول اجسادهم الهامدة في و قت كانت كل الاجهزة الطبية الموصولة بادمغتهم و قلوبهم تؤكد حدوث الموت السريري المؤقت لهم - بل أن بعض أولائك المرضي الذين ادهشوا اطباؤهم فيما بعد بدقة وصفهم هذا- كانت جراحة الدماغ التي تجري لهم آنذاك تتطلب تغطية عيونهم و آذانهم بشريط لاصق ولكن علي الرغم من ذلك ابصروا و سمعوا كل شئ كان يدور حولهم و هم خارج جسدهم ينظرون – من أعلي - للاطباء الذين كانوا يحاولون اعادة الحياة لجسدهم المتهالك.
بما أن معظم الذين حدثت لهم تجربة الاقتراب من الموت كانوا مرضي بمستشفيات خلال مرورهم بتلك التجربة لذا فان أهم دارسي هذه الظاهرة هم من الاطباء و رائد هذا الحقل هو دكتور ريموند مودي- الامريكي الجنسية الذي ألف اول كتاب عن تجربة الاقتراب من الموت في عام 1975 بعنوان ' حياة بعد حياة '.كما وان دكتور ملفن موريس – أخصائي طب الاطفال قد كتب عدة كتابات عن الاطفال الذين مروا بهذه الظاهرة.
من أهم الدراسات – غير الامريكية- حول تلك التجربة هي دراسة هولندية تمت عام 1988 باشراف دكتور بيم فان لوميل و أطباء آخرون درسوا حالة 344 مريضا نجوا من السكتة القلبية وتم نشر هذه الدراسة المفصلة في مجلة لانست للبحوث الطبية.
هنالك مئات المقالات و الكتب حول تلك الظاهرة الفها غير الاطباء كثير منهم ادعياء و روحانيون لذا فانني ساتجاهل تلك الكتابات تماما في هذا المقال الذي ساركز فيه علي دراسات الاطباء و العلماء خاصة المذكورين أعلاه كما و سأقوم بتلخيص بحث شيق كتبه مؤخرا د بيم فان لوميل – أخصائي أمراض القلب الهولندي حشد له 51 مرجعا علميا و اطروحة بحثه هذا هو ان وعي الانسان بذاته سيستمر بعد الموت.
كما و سبق ذكره فان دكتور ريمون مودي ( طبيب حاصل علي درجة الدكتوراه يعمل حاليا أستاذا جامعيا و رئيس قسم بجامعة نيفادا الامريكية) هو أول من نشر كتابا عن ظاهرة ال NDE عام 1975 بعنوان ' حياة بعد حياة ' . و في كتابه هذا (ص 90-96) يصف بعض من مروا بتلك التجربة بأنها ' كعودة المرء لداره' ك 'التخرج' و ' كالهروب من السجن' و 'كاليقظة بعد النوم'.
كمسلم أؤمن بما يؤكده الدين ألاسلامي بان من يموت لايعود للحياة مرة أخري ولكني أعتقد بان الذين مروا ب 'تجربة ألاقتراب من الموت'- قد أقتربوا – أكثر مايكون ألاقتراب من الموت- دون أن يموتو , و كما وأن الشخص الذي يقترب من البحر يبدأ في أستنشاق هواء البحر العليل قبل الوصول اليه فكذلك الحال هنا.
أكثر مالفت انتباهي في قصص ال NDE المسجلة في الكتب التي ذكرتها سابقا هو أن معظمها قد حدث لاناس غربيين مسيحيين – و الركن الاساسي في الدين المسيحي هو الايمان بعقيدة الخلاص . قصص أؤلائك الناجين من الموت تكاد تخلو تماما من أي سؤال عن ألايمان بتلك العقيدة- ولكن كل قصصهم تقريبا تتحدث عن مبدأ المحاسبة علي كل صغيرة و كبيرة و علي أهمية العمل الصالح.
###
لا أؤمن بان كل ما رآه المقتربون من الموت – في الجانب الآخر – هو الحق , فتلك التجربة مثل 'الكشف' عند الصوفية هي تجربة 'ذاتية' تهم مصداقيتها في المقام ألاول الشخص الذي مر بتلك التجربة – الا أننا مثل الباحثين ألاخرين في هذه الظاهرة يمكننا تعلم الكثير من اولائك الذين مروا بتلك التجربة.
يعتبر دكتور ملفن موريس أخصائي طب الاطفال والبروفسير بجامعة ولاية واشنطون من رواد دراسة تجربة الاقتراب من الموت عند الاطفال و قد قام باجراء دراسة – مع ثمانية آخرين – نشرت في عدد نوفمبر 1986 ل 'الدورية الامريكية لامراض الاطفال' توصل فيها لقناعة تامة بأن المرضي الذين يمرون بال NDE يجب أن يكونوا علي حافة الموت حتي يمروا بتلك التجربة (مقارنة مع 121 مرضي آخرين ذو حالات خطرة - و آخرون يتعاطون أدوية مخدرة لكنهم لم يكونوا علي حافة الموت- لم تتوقف قلوبهم و ادمغتهم عن العمل مؤقتا).
في كتابه 'قريب من النور' يذكر ملفن موريس بان اهتمام كيم كلارك – اخصائية العلاج النفسي بمستشفي بمدينة سياتل و زميلته في الدراسة المذكورة أعلاه – بتجربة الاقتراب من الموت , قد بدأ عندما التقت كيم كلارك بمريضة قلب بالمستشفي الذي تعمل فيه و ذلك لتقديم النصح النفسي للمريضة التي مرت بذبحة صدرية حادة . لم تكن المريضة مهتمة بنصائح كيم بل كانت راغبة في اخبارها كيف انها قد خرجت من جسدها – اثناء محاولة الاطباء انقاذها – و كيف انها وهي خارج جسدها كانت تري كل المستشفي من اعلي الجو. و لاثبات ذلك اصرت المريضة بانها وهي في تلك الحالة قد رات فردة حذاء في مسطبة فوق شباك مكتب كيم كلارك الواقع في الطابق الخامس عشر من المستشفي . فتحت كيم الشباك ولم تري الحذاء و هي داخل مكتبها – الا انه مع اصرار المريضة تسلقت كيم حافة الشباك و مدت يدها اعلي المسطبة و هنالك عثرت علي فردة الحذاء.
يذكر د . موريس بان تفاصيل تجربة الاقتراب من الموت عند الاطفال مشابهة للتجربة عند الراشدين الا في جانب واحد الا وهو خلو تجارب الاطفال من مراجعة ماعملوه اثناء حياتهم – أي ان اعمالهم لاتعرض عليهم و لايسألون عنها كما يحدث عند البالغين . في صفحة 161-162 من كتاب ' قريب من النور' يوجد النص التالي : “ the striking difference was the lack of a life review in the seventeen childhood NDEs Bush examined, no one had a life review. Yet other events were every bit as powerful as any found in the adult literature.”
الا يذكرنا ذلك بحديث المصطفي عليه الصلاة و السلام ' رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصغير حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يعقل'.
نتيجة لابحاثه المتعددة حول ظاهرة الاقتراب من الموت فقد أصبح دكتور بيم فان لوميل متشككا فيما هو متفق عليه في الاوساظ العلمية حول طبيعة و وظيفة المخ. فالنظرية العلمية السائدة منذ عشرات السنين تؤمن بان كل مايعرفه الشخص من معلومات ( حول ذاته , ذكرياته , معارفه , اعتقاداته و مااكتسبه من معارف ....الخ – كل ذلك الكم الهائل من المعلومات بما تحتويه من صور – اصوات – روائح و العلاقات المعقدة بين هذه المعلومات) يتم تخزينها داخل جهاز المخ . و عند موت المرء يتعطل عمل المخ و لايمكن استرجاع المعلومات التي خزنت فيه.
في كتاباته و مقابلاته يحوم دكتور بيم فان لوميل حول الدعوة لنظرية جديدة حول طبيعة عمل المخ – لم يأطرها تماما بعد - محور مايدعو له هو أن المخ ماهو الا جهاز استقبال ( وجهاز أرسال أحيانا) أشبه مايكون بجهاز التلفاز. و أن ذاكرة الشخص و وعيه بذاته ( شخصيته – ذكرياته - و ماتعلمه من معارف ...الخ) كل تلك المعلومات التي تتكون منها شخصية الفرد يتم تخزينها في مكان آخر خارج المخ و خارج جسد الانسان . يمضي دكتور بيم فان لوميل فيقول بانه كما و ان جهاز التلفاز يتم ضبطه لاستقبال موجات (قنوات) كهرومغناطيسية معينة من بلايين الموجات الكهرومغناظيسية التي تملا الاثير حولنا و التي لانشعر بوجودها - فكذلك الحال مع المخ فهو مجهز بحيث يقوم بالتقاط الموجات (ذكريات – وعي الفرد بذاته ...) الخاصة بالشخص المعني فقط.
عندما يتعطل جهاز التلفاز (يموت) فان الموجات (قنوات ) التي كان يقوم بالتقاطها لا تتعطل ولا تتوقف بل يتم التقاطها بواسطة جهاز آخر – كذلك الحال بالنسبة للذين بمرون بتجربة الاقتراب من الموت حسب أعتقاد دكتور بيم فان لوميل . فاؤلائك الناس قد تعطلت أمخاخهم عن العمل مؤقتا أما ذاتهم و ذكرياتهم و مكونات شخصيتهم الاخري فهي موجودة ابدا خارج اجسادهم – و هم اثناء أقترابهم من الموت يقيض لهم استخدام أدوات أخري اكثر حدة و جودة – لانعرف عنها شيء - لالتقاط تلك الموجات الخاصة بهم.
يصرح دكتور بيم فان لوميل بانه بعد أبحاثه و دراساته لظاهرة الاقتراب من الموت قد وصل الي قناعة تامة بان الجسد و الروح شيئين منفصلين و ان الوعي بالذات سيستمر بعد الموت وأنه قد اصبح يؤمن بان الموت ليس نهاية المطاف بل هو باب نولج منه لنوع آخر من الحياة.