الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الاول
الحلقة (35)
صـ470 إلى صـ 484
فصل
وقد تطلق الرخصة على ما استثني من أصل كلي يقتضي المنع مطلقا ، من غير اعتبار بكونه لعذر شاق فيدخل فيه القرض والقراض والمساقاة ورد الصاع من الطعام في مسألة المصراة ، وبيع العرية بخرصها تمرا ، وضرب الدية على العاقلة ، وما أشبه ذلك ، وعليه يدل قوله : نهى عن بيع ما ليس عندك ، [ ص: 470 ] وأرخص في السلم ، وكل هذا مستند إلى أصل الحاجيات ; فقد اشتركت مع الرخصة بالمعنى الأول في هذا الأصل ، فيجري عليها حكمها في التسمية ، كما جرى عليها حكمها في الاستثناء من أصل ممنوع ، وهنا أيضا يدخل ما تقدم في صلاة المأمومين جلوسا اتباعا للإمام المعذور ، وصلاة الخوف المشروعة بالإمام كذلك أيضا ، لكن هاتين المسألتين تستمدان من أصل التكميلات لا [ ص: 471 ] من أصل الحاجيات ; فيطلق عليها لفظ الرخصة وإن لم تجتمع معها في أصل واحد ، كما أنه قد يطلق لفظ الرخصة وإن استمدت من أصل الضروريات ، كالمصلي لا يقدر على القيام ; فإن الرخصة في حقه ضرورية لا حاجية ، وإنما تكون حاجية إذا كان قادرا عليه لكن بمشقة تلحقه فيه أو بسببه ، وهذا كله ظاهر .
فصل
وقد يطلق لفظ الرخصة على ما وضع عن هذه الأمة من التكاليف الغليظة ، والأعمال الشاقة التي دل عليها قوله تعالى : ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا [ البقرة : 286 ] .
وقوله تعالى : ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم [ الأعراف : 157 ] .
فإن الرخصة في اللغة راجعة إلى معنى اللين ، وعلى هذا يحمل ما جاء في بعض الأحاديث : أنه عليه الصلاة والسلام صنع شيئا ترخص فيه ، [ ص: 472 ] ويمكن أن يرجع إليه معنى الحديث الآخر : إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه ، وسيأتي بيانه بعد إن شاء الله ; فكان ما جاء في هذه الملة السمحة من المسامحة واللين رخصة ، بالنسبة إلى ما حملته الأمم السالفة من العزائم الشاقة .
فصل
وتطلق الرخصة أيضا على ما كان من المشروعات توسعة على العباد مطلقا ، مما هو راجع إلى نيل حظوظهم ، وقضاء أوطارهم ; فإن العزيمة الأولى هي التي نبه عليها قوله : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [ الذاريات : 56 ] .
وقوله : وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا الآية [ طه : 132 ] .
وما كان نحو ذلك ما دل على أن العباد ملك الله على الجملة والتفصيل ; فحق عليهم التوجه إليه ، وبذل المجهود في عبادته ; لأنهم عباده وليس لهم حق لديه ولا حجة عليه ، فإذا وهب لهم حظا ينالونه ، فذلك كالرخصة لهم لأنه توجه إلى غير المعبود ، واعتناء بغير ما اقتضته العبودية .
فالعزيمة في هذا الوجه هو امتثال الأوامر واجتناب النواهي على الإطلاق والعموم ، كانت الأوامر وجوبا أو ندبا ، والنواهي كراهة أو تحريما ، وترك كل [ ص: 473 ] ما يشغل عن ذلك من المباحات ، فضلا عن غيرها ; لأن الأمر من الآمر مقصود أن يمتثل على الجملة ، والإذن في نيل الحظ الملحوظ من جهة العبد رخصة ، فيدخل في الرخصة على هذا الوجه كل ما كان تخفيفا وتوسعة على المكلف ، فالعزائم حق الله على العباد ، والرخص حظ العباد من لطف الله ، فتشترك المباحات مع الرخص على هذا الترتيب من حيث كانا معا توسعة على العبد ورفع حرج عنه ، وإثباتا لحظه ، وتصير المباحات ـ عند هذا النظر ـ تتعارض مع المندوبات على الأوقات ، فيؤثر حظه في الأخرى على حظه في الدنيا أو يؤثر حق ربه على حظ نفسه ; فيكون رافعا للمباح من عمله رأسا أو آخذا له حقا لربه ، فيصير حظه مندرجا تابعا لحق الله ، وحق الله هو المقدم والمقصود ; فإن [ على ] العبد بذل المجهود ، والرب يحكم ما يريد .
وهذا الوجه يعتبره الأولياء من أصحاب الأحوال ، ويعتبره أيضا غيرهم ممن رقى عن الأحوال ، وعليه يربون التلاميذ ، ألا ترى أن من مذاهبهم الأخذ بعزائم العلم ، واجتناب الرخص جملة ، حتى آل الحال بهم أن عدوا [ ص: 474 ] أصل الحاجيات كلها أو جلها من الرخص ، وهو ما يرجع إلى حظ العبد منها حسبما بان لك في هذا الإطلاق الأخير ، وسيأتي لهذا الذي ذهبوا إليه تقرير في هذا النوع إن شاء الله تعالى .
فصل
ولما تقررت هذه الإطلاقات الأربعة ، ظهر أن منها ما هو خاص ببعض الناس ، وما هو عام للناس كلهم ; فأما العام للناس كلهم فذلك الإطلاق الأول ، وعليه يقع التفريع في هذا النوع ، وأما الإطلاق الثاني فلا كلام عليه هنا ; إذ لا تفريع يترتب عليه ، وإنما يتبين به أنه إطلاق شرعي ، وكذلك الثالث ; وأما الرابع فلما كان خاصا بقوم لم يتعرض له على الخصوص ، إلا أن التفريع على الأول يتبين به التفريع عليه ; فلا يفتقر إلى تفريع خاص بحول الله تعالى .
المسألة الثانية
حكم الرخصة الإباحة مطلقا من حيث هي رخصة ، والدليل على ذلك أمور :
أحدها : موارد النصوص عليها كقوله تعالى : فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه [ البقرة : 173 ] .
وقوله : فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم [ المائدة : 3 ] .
وقوله : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة الآية [ ص: 475 ] [ النساء : 101 ] .
وقوله : من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان [ النحل : 106 ] الآية إلى آخرها .
وأشباه ذلك من النصوص الدالة على رفع الحرج والإثم مجردا لقوله : فلا إثم عليه [ البقرة : 173 ] ، وقوله : فإن الله غفور رحيم [ المائدة : 3 ] ، ولم يرد في جميعها أمر يقتضي الإقدام على الرخصة ، بل إنما أتى بما ينفي المتوقع في ترك أصل العزيمة ، وهو الإثم والمؤاخذة على حد ما جاء في كثير من المباحات بحق الأصل ، كقوله تعالى : لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة [ البقرة : 236 ] .
ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم [ البقرة : 198 ] .
ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء [ البقرة : 235 ] .
إلى غير ذلك من الآيات المصرحة بمجرد رفع الجناح ، وبجواز الإقدام خاصة .
[ ص: 476 ] وقال تعالى : ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر [ البقرة : 185 ] .
وفي الحديث : كنا نسافر مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فمنا المقصر ومنا المتم ، ولا يعيب بعضنا على بعض .
والشواهد على ذلك كثيرة .
[ ص: 477 ] والثاني : أن الرخصة أصلها التخفيف عن المكلف ورفع الحرج عنه ; حتى يكون من ثقل التكليف في سعة واختيار بين الأخذ بالعزيمة والأخذ بالرخصة ، وهذا أصله الإباحة كقوله تعالى : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا [ البقرة : 29 ] .
قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق [ الأعراف : 32 ] .
متاعا لكم ولأنعامكم [ النازعات : 33 ] .
بعد تقرير نعم كثيرة .
وأصل الرخصة السهولة ، ومادة [ رخ ص ] للسهولة واللين كقولهم : شيء رخص : بين الرخوصة ، ومنه الرخص ضد الغلاء ، ورخص له في الأمر فترخص هو فيه إذا لم يستقص له فيه ، فمال هو إلى ذلك ، وهكذا سائر استعمال المادة .
والثالث : إنه لو كانت الرخص مأمورا بها ندبا أو وجوبا لكانت عزائم لا رخصا ، والحال بضد ذلك ; فالواجب هو الحتم واللازم الذي لا خيرة فيه ، [ ص: 478 ] والمندوب كذلك من حيث مطلق الأمر ، ولذلك لا يصح أن يقال في المندوبات : إنها شرعت للتخفيف والتسهيل من حيث هي مأمور بها ، فإذا كان كذلك ; ثبت أن الجمع بين الأمر والرخصة جمع بين متنافيين ، وذلك يبين أن الرخصة لا تكون مأمورا بها من حيث هي رخصة .
فإن قيل : هذا معترض من وجهين :
أحدهما : إن ما تقدم من الأدلة لا يدل على مقصود المسألة ; إذ لا يلزم من رفع الجناح والإثم عن الفاعل للشيء أن يكون ذلك الشيء مباحا ; فإنه قد يكون واجبا أو مندوبا ، أما أولا ; فقد قال تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما [ البقرة : 158 ] ، وهما مما يجب الطواف بينهما ، وقال تعالى : ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى [ البقرة : 203 ] ، والتأخر مطلوب طلب الندب ، وصاحبه أفضل عملا من المتعجل ، إلى غير ذلك من المواضع التي في هذا المعنى .
ولا يقال : إن هذه المواضع نزلت على أسباب ، حيث توهموا الجناح كما ثبت في حديث عائشة ; لأنا نقول : مواضع الإباحة أيضا نزلت على أسباب ، [ ص: 479 ] وهي توهم الجناح كقوله تعالى : ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم [ البقرة : 198 ] .
وقوله : ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم [ النور : 61 ] إلى آخرها .
وقوله : ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج [ النور : 61 ] . [ استدراك : 4 ] .
ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء [ البقرة : 235 ] .
جميع هذا وما كان مثله متوهم فيه الجناح والحرج ، وإذا استوى الموضوعان لم يكن في النص على رفع الإثم والحرج والجناح دلالة على حكم الإباحة على الخصوص ، فينبغي أن يؤخذ حكمه من محل آخر ودليل خارجي .
[ ص: 480 ] والثاني : أن العلماء قد نصوا على رخص مأمور بها ، فالمضطر إذا خاف الهلاك وجب عليه تناول الميتة وغيرها من المحرمات الغاذية ، ونصوا على طلب الجمع بعرفة والمزدلفة ، وأنه سنة ، وقيل في قصر المسافر : إنه فرض أو سنة أو مستحب ، وفي الحديث : إن الله يحب أن تؤتى رخصه ، وقال ربنا تعالى : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ البقرة : 185 ] إلى كثير من ذلك ; فلم يصح إطلاق القول بأن حكم الرخص الإباحة دون التفصيل .
فالجواب عن الأول : إنه لا يشك أن رفع الحرج والإثم في وضع اللسان إذا تجرد عن القرائن يقتضي الإذن في التناول والاستعمال ، فإذا خلينا واللفظ كان راجعا إلى معنى الإذن في الفعل على الجملة ; فإن كان لرفع الجناح والحرج سبب خاص فلنا أن نحمله على مقتضى اللفظ لا على خصوص السبب ; فقد يتوهم فيما هو مباح شرعا أن فيه إثما بناء على استقرار عادة تقدمت أو رأي عرض كما توهم بعضهم الإثم في الطواف بالبيت بالثياب ، وفي بعض المأكولات حتى نزل : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق [ الأعراف : 32 ] ، وكذلك في الأكل من بيوت الآباء [ ص: 481 ] والأمهات ، وسائر من ذكر في الآية ، وفي التعريض بالنكاح في العدة ، وغير ذلك ، فكذلك قوله : فلا جناح عليه أن يطوف بهما [ البقرة : 158 ] يعطي معنى الإذن ; وأما كونه واجبا فمأخوذ من قوله : إن الصفا والمروة من شعائر الله [ البقرة : 158 ] أو من دليل آخر ; فيكون التنبيه هنا على مجرد الإذن الذي يلزم الواجب من جهة مجرد الإقدام مع قطع النظر عن جواز الترك أو عدمه .
ولنا أن نحمله على خصوص السبب ، ويكون مثل قوله في الآية من شعائر [ الحج : 36 ] قرينة صارفة للفظ عن مقتضاه في أصل الوضع ; أما ما له سبب مما هو في نفسه مباح فيستوي مع ما لا سبب له في معنى الإذن ولا إشكال فيه ، وعلى هذا الترتيب يجري القول في الآية الأخرى ، وسائر ما جاء في هذا المعنى .
والجواب عن الثاني أنه قد تقدم أن الجمع بين الأمر والرخصة جمع بين [ ص: 482 ] متنافيين فلا بد أن يرجع الوجوب أو الندب إلى عزيمة أصلية ، لا إلى الرخص بعينها ، وذلك أن المضطر الذي لا يجد من الحلال ما يرد به نفسه ، أرخص له في أكل الميتة قصدا لرفع الحرج عنه وردا لنفسه من ألم الجوع ; فإن خاف التلف وأمكنه تلافي نفسه بأكلها كان مأمورا بإحياء نفسه لقوله تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم كما هو مأمور بإحياء غيره من مثلها إذا أمكنه تلافيه ، بل هو مثل من صادف شفا جرف يخاف الوقوع فيه ، فلا شك أن الزوال عنه مطلوب ، وأن إيقاع نفسه فيه ممنوع ، ومثل هذا لا يسمى رخصة ; لأنه راجع إلى أصل كلي ابتدائي ، فكذلك من خاف التلف إن ترك أكل الميتة هو مأمور بإحياء نفسه ، فلا يسمى رخصة من هذا الوجه ، وإن سمي رخصة من جهة رفع الحرج عن نفسه .
فالحاصل أن إحياء النفس على الجملة مطلوب طلب العزيمة ، وهذا فرد من أفراده ، ولا شك أن الرخصة مأذون فيها لرفع الحرج ، وهذا فرد من أفرادها ; فلم تتحد الجهتان ، وإذا تعددت الجهات زال التدافع ، وذهب التنافي ، [ ص: 483 ] وأمكن الجمع .
وأما جمع عرفة والمزدلفة ونحوه ، فلا نسلم أنه عند القائل بالطلب رخصة ، بل هو عزيمة متعبد بها عنده ، ويدل عليه حديث عائشة ـ رضى الله عنها ـ في القصر : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين الحديث ، وتعليل القصر بالحرج والمشقة لا يدل على أنه رخصة ; إذ ليس كل ما كان رفعا للحرج يسمى رخصة على هذا الاصطلاح العام ، وإلا فكان يجب أن تكون الشريعة كلها رخصة لخفتها بالنسبة إلى الشرائع المتقدمة أو يكون شرع الصلاة خمسا رخصة ; لأنها شرعت في السماء خمسين ، ويكون القرض والمساقاة والقراض وضرب الدية على العاقلة رخصة ، وذلك لا يكون كما تقدم ، فكل ما خرج عن مجرد الإباحة فليس برخصة .
وأما قوله : إن الله يحب أن تؤتى رخصه فسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .
[ ص: 484 ] وأيضا ; فالمباحات منها ما هو محبوب ومنها ما هو مبغض كما تقدم بيانه في الأحكام التكليفية فلا تنافي .
وأما قوله : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ البقرة : 185 ] ، وما كان نحوه ; فكذلك أيضا لأن شرعية الرخص المباحة تيسير ورفع حرج ، وبالله التوفيق .