هل كبر السن يمنع من طلب العلم
أنا في ال 32 من عمري ، فهل فاتني الوقت للبدء بطلب العلم ، فمعلوم أن العلم في الصغر ليس كالعلم في الكبر ، أيضاً فإني أحتاج إلى سنوات عديدة للدراسة ، وقد تذهب قوتي وجلَدي على الدعوة حينما أكبر .
الحمد لله
أولاً:
نعم ، الحفظ في الصغر كالنقش في الحجر ، لكن ينبغي التنبه لأمور في هذا الباب ، منها :
1. أن الحفظ في الصغر إن لم يكن معه متابعة للحفظ ، وإحياء له : ضاع ، وكالحجر قابل لترسب الأتربة عليه ، وتغطية نقوشه كلها .
2. أن هذا ليس حصراً للحفظ في سن مبكرة ، بل هو تشجيع لأولياء الأمور بالاهتمام بالطفل في سنهم المبكرة ، فإن الأطفال في سنهم المبكرة ليس عندهم قدرة على الفهم ، فتكون طاقاتهم متوجهة نحو الحفظ فقط ، بخلاف الكبير فإنه يجمع بين الحفظ والفهم ، فليس هذا حصراً لسن الحفظ ، وإلا فقد وجدنا كثيراً ممن حفظ متأخراً في سنه كأنه نقش في الحجَر كذلك .
3. أن الحفظ ليس هو كل العلم ، بل هو جزء منه ، ومن فاته الحفظ في صغره : فلا يفوِّت الحفظ والعلم في كبَره ، بل يستطيع أن يجمع بينهما ، ولا ينبغي له الاستعجال على نفسه ، فهو في عبادة عظيمة – وهي طلب العلم – فلا يستعجل قطف الثمرة .
ثانياً:
أنت أخي الفاضل في بداية الثلاثين من عمرك ، ولم يفتك الوقت لتبدأ طلب العلم ، فلا زلت في ريعان الشباب وقوته ونشاطه ، بل إن بعض العلماء يرى أن سماع الحديث يبدأ من سن الثلاثين ! .
قال السيوطي – رحمه الله - :
قال جماعة من العلماء : يُستحب أن يبتدئ بسماع الحديث بعد ثلاثين سنة ، وعليه أهل الشام ... .
" تدريب الراوي " ( 1 / 414 ) .
ولتعلم أن مَن أسلم من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا كلهم صغاراً ، بل الكثرة الكاثرة كانوا كباراً في السن ، وما منعهم سنهم من الطلب والتعلم ، وهم أساتذة الدنيا في العلم الشرعي ، وإليهم المرجع في فهم نصوص القرآن ، والسنَّة ، فأبو بكر الصدِّيق هو أعلم هذه الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد بدأ في طلب العلم قريباً من الأربعين ، ثم الخليفة عمر الفاروق ، بدأ العلم قريباً من الثلاثين ، وهكذا غيرهم كثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
وفي كتاب " العلم " من صحيح البخاري قال البخاري – رحمه الله - :
باب الاغتباط في العلم والحكمة وقال عمر : " تفقهوا قبل أن تُسوَّدوا " .
قال أبو عبد الله – يعني : البخاري نفسه - : وبعد أن تسوَّدوا ، وقد تعلم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في كبر سنِّهم .
" صحيح البخاري " ( ص 39 ) .
وقُل مثلَ ذلك فيمن طلب العلم متأخراً من الأئمة والعلماء المشهورين ، وإليك نماذج طيبة من هؤلاء ؛ لترفع همتك ، وتجدد نشاطك ، وتحيي قوتك :
1. أبو بكر عبد الله بن أحمد بن عبد الله المروزي ، المعروف بـ " القفّال " ، شيخ الشافعية في زمانه ، المتوفى سنة 417 هـ .
قال السبكي الشافعي – رحمه الله - :
الإمام الجليل أبو بكر القفال الصغير ، شيخ طريقة خراسان ، وإنما قيل له " القفَّال " لأنه كان يعمل الأقفال في ابتداء أمره ، وبرع في صناعتها ، حتى صنع قفلا بآلاته ومفتاحه وزن أربع حبات ، فلما كان ابن ثلاثين سنة أحس من نفسه ذكاء : فأقبل على الفقه ، فاشتغل به على الشيخ أبي زيد وغيره ، وصار إماماً يُقتدى به فيه ، وتفقه عليه خلقٌ من أهل خراسان ، وسمع الحديث ، وحدَّث وأملى ... .
انظر " طبقات الشافعية " للسبكي ( 5 / 54 )
2. أصبغ بن الفرج ، مفتي الديار المصرية في زمانه ، ومن علماء المالكية .
قال الذهبي – رحمه الله - :
الشيخ الإمام الكبير ، مفتي الديار المصرية ، وعالِمها ، أبو عبد الله الأموي مولاهم ، المصري ، المالكي .
مولده بعد الخمسين ومئة .
وطلب العلم وهو شاب كبير ، ففاته مالك ، والليث .
" سير أعلام النبلاء " ( 10 / 656 ) .
3. عيسى بن موسى غنجار ، أبو أحمد البخاري ، محدِّث ما وراء النهر .
قال الحاكم :
هو إمام عصره ، طلب العلم على كبر السنِّ ، وطوَّف .
" شذرات الذهب " ( 1 / 330 ) .
4. قاضي القضاة بمصر : الحارث بن مسكين ، توفي سنة 250 هـ .
قال الذهبي – رحمه الله - :
وإنما طلب العلم على كبَر .
" سير أعلام النبلاء " ( 12 / 54 ) .
وغير هؤلاء كثير ، وقد ذكر في طلب غير هؤلاء وهم كبار في السن كأمثال الفضيل بن عياض ، وابن العربي ، وابن حزم ، والعز بن عبد السلام ، فلم يمنعهم سنهم من الطلب حتى صاروا نجوماً في سماء العلم .
قيل لعمرو بن العلاء : هل يحسن بالشيخ أن يتعلم ؟
قال : إن كان يحسن به أن يعيش فإنه يحسن به أن يتعلم !!
وهذا ابن عقيل رحمه الله يقول : إني لأجد من لذة الطلب وأنا ابن ثمانين أشد مما أجد وأنا ابن أربعين .
ثالثاً:
وهذه فتاوى ووصايا بعض العلماء في الموضوع نفسه :
1. سئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - :
بماذا تنصح من بدأ في طلب العلم على كبَر سنِّه ؟ وإن لم يتيسر له شيخ يأخذ منه ويلازمه فهل ينفعه طلب العلم بلا شيخ ؟ .
فأجاب :
نسأل الله تعالى أن يعين من أكرمه الله بالاتجاه إلى طلب العلم ، ولكن العلم في ذاته صعب يحتاج إلى جهد كبير ؛ لأننا نعلم أنه كلما تقدمت السن من الإنسان زاد حجمه ، وقل فهمه ، فهذا الرجل الذي بدأ الآن في طلب العلم ينبغي له أن يختار عالماً يثق بعلمه ليطلب العلم عليه ؛ لأن طلب العلم عن طريق المشايخ أوفر ، وأقرب ، وأيسر ، فهو أوفر ؛ لأن الشيخ عبارة عن موسوعة علمية ، لا سيما الذي عنده علم نافع في النحو ، والتفسير ، والحديث ، والفقه وغيره ، فبدلاً من أن يحتاج إلى قراءة عشرين كتاباً يتيسر تحصيله من الشيخ ، وهو لذلك يكون أقصر زمناً ، وهو أقرب للسلامة كذلك ؛ لأنه ربما يعتمد على كتاب ويكون نهج مؤلفه مخالفاً لنهج السلف سواء في الاستدلال أو في الأحكام .
فننصح هذا الرجل الذي يريد طلب العلم على الكبر أن يلزم شيخًا موثوقًا ، ويأخذ منه ؛ لأن ذلك أوفر له ، ولا ييأس ، ولا يقول بلغت من الكبر عتيًّا ؛ لأنه بذلك يَحرم نفسه من العلم .
وقد ذُكر أن بعض أهل العلم دخل المسجد يوماً بعد صلاة الظهر فجلس ، فقال له أحد الناس : قم فصل ركعتين ، فقام فصلى ركعتين ، وذات يوم دخل المسجد بعد صلاة العصر فكبَّر ليصلي ركعتين فقال له الرجل : لا تصلِّ فهذا وقت نهي ، فقال : لا بد أن أطلب العلم ، وبدأ في طلب العلم حتى صار إماماً ، فكان هذا الجهل سببًا لعلمه ، وإذا علم الله منك حسن النية ومنَّ عليك بالتوفيق : فقد تجمع من العلم الشيء الكثير .
" كتاب العلم " ( السؤال رقم 63 ) .
2. وسئل الشيخ عبد الله بن جبرين – حفظه الله - :
يعتذر البعض عن طلب العلم بحجة كبَر السن ، وفوات وقت الطلب ، ويعتذر آخرون بكونهم لا زالوا صغاراً ينتظرون أن يتقدم بهم العمر ؟
فأجاب :
متى تيسر للمسلم التعلم والتفقه : لزمه ذلك ، ولا يجوز الاعتذار عن التعلم بتقدم السن ؛ فإن الكثير من الصحابة تعلموا وهم شيوخ ، كأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، والعباس ، وابن عوف ، وأبي عبيدة ، وغيرهم ، ثم من علماء التابعين من تعلموا في الكبر ، كصالح بن كيسان ، فقد أدرك ابن عمر وابن الزبير وتتلمذ على الزهري وطال عمره فمات سنة 140 هـ ، ولما كان طلب العلم قد يكون واجبا على المسلم لم يخرج عن ذلك الكبير ، ولا الصغير ، وقد روي عن مكحول مرسلاً : " لا يستحي الشيخ أن يتعلم من الشاب " ؛ أي : لأن بقاءه على الجهل نقص وعيب ، وليس في تعلمه من الصغار غضاضة .
وأما الشاب : فعليه التعلم في حداثته ؛ فإن ذلك أقوى لمعلوماته ، فقد قال الحسن رحمه الله : " طلب الحديث في الصغر كالنقش في الحجر " ، وروي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال : " تعلموا العلم فإنكم إن تكونوا صغار قومٍ تكونوا كبارهم غداً " ، وقال الزهري : " لا تحقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم ؛ فإن عمر رضي الله عنه إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان فاستشارهم " ، وأيضاً : فإن الشاب عنده وقت فراغ ، ولا يدري ما يحدث بعده من العوائق .
" كيف تطلب العلم " ( السؤال رقم 43 ) من موقع الشيخ .
لذا ، بادر أخي الفاضل لطلب العلم ، ولا يمنعنك سنك ، وقد سبقت نماذج طلبوا العلم بعد سنك هذا بزمن ، واحرص على الإخلاص ، واجعل طلبك للعلم بنية التقرب إلى الله ، وأداء الواجب الذي أوجبه الله عليك في الطلب ، واقصد بعلمك رفع الجهل عن نفسك ، ثم ساهم في الجهل عن الناس ، وجد واجتهد في الطلب ، واحرص على مشايخ أهل السنة والجماعة ، الزمهم ، وخذ علمهم ، وإياك وأهل البدعة والضلالة ، واسأل ربك أن يوفقك ، وأن يسهل لك الطلب والحفظ والفهم .
والله أعلم