هذا سؤال يتبادر للأذهان ، بناء على مانراه و ما نلمسه من أحوالنا و أحوال من حولنا، و لقد قرأت كلاما ماتعا للشيخ/ محمد بن إبراهيم الحمد -حفظه الله- فأحببت أن أنقله للفائدة ، نفعني الله و إياكم بما نقرأ و نسمع ...

قال حفظه الله في مقال بعنوان ( الاجترار) ....

الاجترار من خصائص بعض الدواب، فهي التي تأكل الطعام ثم تجتره بعد فترة.
أما الآدمي فإنه يأكل مقدار ما يشبعه، ثم إذا احتاج إلى الطعام أكل مرة أخرى، و هكذا دون أن يجتر الطعام؛ إذ إن ذلك ليس من خصائصه ، و لم يُودع فيه تلك الغريزة.
و لكنه يجتر اجترار من نوع آخر، ألا و هو الاجترار الذهني.
و الناس في ذلك طبقات؛ فمنهم من يعود عليه اجتراره بالضرر، و منهم من يعود عليه بالنفع.
فهناك من هو مولع باجترار المآسي، و الأخطاء و المصائب، و الأحداث الأليمة؛ فتراه دائما يكررها على نفسه، و على من حوله.
فإذا حدثت له -على سبيل المثال- مشكلة ثم انتهت بحل من الحلول، و أغلق بابها-لم يكتف بذلك، بل تراه دائم التذكير بها خصوصا إذا حدثت مشكلة أخرى.
و اللائق بمثل هذه الأحوال أن إذا حدثت مشكلة جديدة أن يُسعى في حلها بعيدا عن أجواء المشكلة الأولى؛ حتى تهدأ النفوس، و تتهيأ لقبول الحلول طالما أن المشكلة الجديدة ليس لها ارتباط بالأولى.
بل اللائق أن يُبتعد عن كل ما يكدر الصفو من العتاب القاسي، أو المنة في العفو إذا حصل؛ كما قال الله –عزوجل- ( فاصفح الصفح الجميل) .
و الصفح الجميل: هو الصفح بلا عتاب؛ فهذا يوسف –عليه السلام- لما مكَّنه الله في الأرض، و أذعن له إخوته، و اعترفوا بخطئهم، و رأوا كيف آثره الله عليهم-لم يجترَّ المآسي الأولى، و إنما أشار إلى مصائبه السابقة -من الإلقاء في الجب، و مشاهدة مكر إخوته- بقوله ( من بعد أن نزغ الشيطان بيني و بين إخوتي) فكلمة ( بعد) اقتضت-كما يقول الطاهر ابن عاشور- أن ذلك شيء انقضى أثره، و قد ألمَّ به إجمالا؛ اقتصارا على شكر النعمة و إعراضا عن التذكير بتلك الحوادث المُكدِّرة للصلة بينه و بين إخوته؛ فمرَّ بها مرور الكرام، و باعدها عنهم بقدر الإمكان؛ إذ ناطها بنزغ الشيطان.
و من أنواع الاجترار المُضرِّ تذكر الإخفاقات؛ فمن الناس من إذا همَّ بعمل تذكر أنه قد أخفق في يوم من الأيام في كذا و كذا، فتنصرف نفسه، و تفتر همته عن المضي قدما في ذلك السبيل، خوفا من الإخفاق.
و من ذلك تذكر الإنسان المصائب التي حلت به، فتراه يُكثر من تردادها على ذهنه، فكلما همَّ بفرح هجمت عليه تلك الخواطر الرديئة هجوم الليل إذا يغشى، فما تلبث أن تقلب سروره إلى جحيم مُلْهِب، على حد قول القائل:
أحب ليالي الهجر لا فرحا بها... عسى الدهر يأتي بعدها بوصال
و أكره ليال الوصال لأنني ... أرى كل وصل محكما بزوال
و من هذا القبيل المبالغة في اجترار بعض صور النجاح؛ فقد يقدر لبعض الناس أن ينجح في عمل ما، فتراه يُكثر من ذكر ذلك النجاح بمناسبة و غير مناسبة، إما استعلاء على الحاضرين، أو تفاخرا بذلك، أو اكتفاء به عن السعي لنجاحات أخرى، أو تسويغا لإخفاقات حصلت له.
و قد يُغتفر للإنسان أن يستدعي نجاحاته إذا هُضم، أو نيل منه، أو صُدعت قناة عزته،أو نحو ذلك من الاعتبارات الصحيحة، فلا بأس حينئذ أن يذكر شيئا مما يرفع من قدره، و يعيد إليه قيمته و ثقته بنفسه.
و يغتفر –له ذلك- إذا وجد من يُثبطه عن عمل من الأعمال، أو وجد من نفسه إحباطا و تثاقلا عن الإقدام؛ خوفا من الإخفاق، فلا بأس-و الحالة هذه- أن يتذكر أو يذكر بعض نجاحاته؛ ليقوده ذلك إلى الإقدام، و يمنعه من التردد و الإحجام.
و من أنواع الاجترار اجترار الإحسان إلى الناس، إما على سبيل الفخر ، أو على سبيل المنة، فذلك مذموم ممقوت و ربما يكون محبطا للعمل.
و قد لا يلام الإنسان على ذلك، إذا كان وراء ذلك مصلحة كاستنهاض الهمم دون ذكر الأسماء، أو لم يكن هناك ضرر كالإخبار المحض.
أما خلاف ذلك فإنه يحسن بالإنسان تجنب المنة، و نسيان إحسانه إلى الناس.
و من أنواع الاجترار اجترار معايب الناس، و تذكر أخطائهم، و تعييرهم بذلك، إلى غير ذلك من صور الاجترار المثبطة عن العمل، الجالبة للهم، المفرقة للقلوب، المورثة للبطالة و اليأس.
و المقصود- ههنا- التمثيل لا الحصر، و التنبيه على تلك الظاهرة التي تنال نيلها من فئام من الناس.

انتهى كلامه حفظه الله، و هو منقول من كتاب له بعنوان ( ارتسامات) ...