المقدمة الثامنة
الأدلة الشرعية :
_ منها ما هو مجمع عليه .
_ ومنها ما هو مختلف فيه .
_ وبعض الأدلة مجمع على أصلها ومختلف في بعض تفاصيلها , كدليل " سد الذرائع "
والأدلة الشرعية متعددة ينبغي لطالب العلم أن يعرفها :
الدليل الأول :
كتاب الله
وهو أصل هذه الأدلة , وقد أمر الله بطاعته في مواضع كثيرة كقوله تعالى: { يا أيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول }, إلا أن دليل القران كثيراً ما يكون حمّال أوجه أي : يحتمل أكثر من معنى , لذا جاء عن علي رضي الله عنه أنه قال لابن عباس رضي الله عنهما لما أراد أن يناظر الخوارج قال : " لا تناظرهم بالقران , فإن القران حمّال أوجه , ولكن ناظرهم بالسنة " والسبب في كون القران حمّال أوجه : أن الله جعله الأصل وجعل ما عداه مبيناً له , كما قال تعالى: { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } , والقران محفوظ , لقوله تعالى: { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون }, قال الإمام الشافعي في كتاب ( الرسالة ) : " قد حفظ الله القران وكل ما يحتاج إليه في فهم القران فهو محفوظ كالسنة " اهـ بمعناه .
والقران كله متواتر , ومعنى التواتر في القران غير معنى التواتر عند المحدثين وعلماء المصطلح وذلك أن معناه عند القراء : ما جمع شروطاً ثلاثة :
الشرط الأول : صحة السند ولو كان فرداً , ثبت في ( سنن سعيد بن منصور ) عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال : " القراءة سنة " وفي ( الصحيحين ) أن أبا بكر رضي الله عنه لما كلف زيد بن ثابت رضي الله عنه بجمع القران فإنه لم يثبت إلا ما ثبت سماعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , وهذا الشرط هو الشرط الأساس وما عداه فرعٌ له .
الشرط الثاني :أن توافق لغة العرب ولو وجهاً , وهذا الشرط تبعٌ للشرط الذي قبله , وذلك أنه إذا صح الإسناد فهو _ ولا بد _ أن يوافق لغة العرب ولو وجهاً , ولا يصح لأحد أن يعترض بأن هذا مخالف للغة العرب لأن لغة العرب واسعة ولا يحيط بها إلا نبي أو رسول كما قاله الإمام الشافعي في كتابه ( الرسالة )
الشرط الثالث :أن يوافق الرسم العثماني ولو احتمالاً , وذلك أن الرسم العثماني هو العرضة الأخيرة , أي العرضة الأخيرة التي عرض فيها جبريل القران على النبي صلى الله عليه وسلم , وكانوا إذا كتبوا يكتبون بلا تنقيط , فإذا قرأت في الرسم العثماني الذي كتبه زيد بن ثابت وجدت كتابتهم غير منقطة ولا مشكلة فمثلاً يكتبون قوله تعالى : { جزاء بما كانوا يعملون }.
بدون تنقيط ولا تشكيل , وإذا كتبوا قوله تعالى: { وما الله بغافل عما تعملون }, فإنها تحتمل قراءة " تعملون " وقراءة " يعملون " , وهذا الشرط شرط أساس في إثبات القراءة المتواترة لا في إثبات صحة القراءة , وذلك أنه إذا صح الإسناد وخالفت القراءة الرسم العثماني صارت قراءة صحيحة يحتج بها لكن لا يصح _ على أصح أقوال أهل العلم _ أن يقرأ بها في الصلاة كقراءة ابن مسعود " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " فزاد لفظة " متتابعات " فهذه القراءة حجة لكن لا يقرأ بها في الصلاة ولا تكون قراءة متواترة , لأنها خالفت الرسم العثماني .
فائدة : نزل القران بسبعة أحرف , وأصح الأقوال الكثيرة في الأحرف السبعة : أنها ما كانت من اختلاف العرب في لغتهم كقول " أقبل _ وهلم " فبعض العرب يقول : " أقبل " وبعضهم يقول : " هلم " هذا هو القول الثابت عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .
وكان سبب نزول القران على الأحرف السبعة تيسير القرآن وتسهيله وذلك بأن يوافق لسان كل قوم فإن قبائل العرب تختلف في لغتها وأفصحها قريش وبها نزل القران فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم _ وكان قرشياً _ ازدادت قوة لغة قريش وضعفت بقية اللغات ولما كثر المسلمون من العجم تعلموا لسان قريش لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتكلم بلسان قومه فكان بقاء الأحرف السبعة شاقاً ومشككاً , والعلة التي من أجلها أنزل القران على سبعة أحرف قد زالت فلأجل هذا جمع عثمان رضي الله عنه القران على حرف واحد وهو لغة قريش , وهذا من فقهه العظيم رضي الله عنه , هذا ما قرره ابن جرير وغيره .
فائدة :ليست الأحرف السبعة هي القراءات السبعة بالإجماع كما حكى الإجماع شيخ الإسلام ابن تيمية , لأن أول من جمع القراءات السبع هو أبو بكر بن مجاهد .
فائدة :الاختلاف بين القراءات السبع اختلاف تنوع واختلاف بيان لا اختلاف تضاد كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية كما في ( مجموع الفتاوى ) .
الدليل الثاني :
السنة النبوية :
والمراد بالسنة أي أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته فهي حجة وقد أمر الله باتباع نبيه في القران كثيراً , قال الإمام أحمد : في بضعٍ وثلاثين موضعاً , وقال الإمام ابن تيمية في أربعين موضعاً , ومن ذلك قوله تعالى: { يا أيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول } , وقوله: { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك في ما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما }, ويُشترط في السنَّة التي يُحتج بها أن تكون صحيحة وثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم , حكى الإجماع على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية .
والسنة هي تفسير للقران وبيان له كما قال تعالى: { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } , ونص على هذا الإمام الشافعي في كتابه ( الرسالة ) , وقال شيخ الإسلام كما في ( العقيدة الواسطية ) : " والسنة تفسر القران وتبينه وتدل عليه " . بل ذكر غير واحد من العلماء أنه ما من حديث إلا وأصله في القران , والناس يتفاوتون في معرفة هذا .
وبسبب كون السنة مفسرة ومبينة للقران فهي لا تكون ناسخة له كما نص على ذلك الإمام الشافعي والإمام أحمد ونصره شيخ الإسلام ابن تيمية .
وكل ما صح من السنة يُحتج به في الدين كله في المسائل العملية وهي المسائل الفقهية وفي المسائل الخبرية وهي المسائل العقدية ولا يفرق بين خبر الآحاد ولا المتواتر في الاستدلال خلافاً لأهل البدع من المعتزلة الأشاعرة بل كل ما صح فهو حجة .
تنبيهات :
التنبيه الأول :معرفة صحيح الحديث من ضعيفه وأن يكون عند الرجل قدرة ومعرفة بدراسة الأحاديث هذا مطلب عظيم وهو درجة رفيعة ينبغي أن يُسعى إلى إدراكها , لكن طالب العلم في ابتداء طلبه ينبغي أن يشتغل بالأهم وهو علم التوحيد وما يحتاج إليه من الفقه وبعد ذلك يتعلم علم الحديث وعلم التصحيح والتضعيف , وبعضهم انشغل بمعرفة التصحيح والتضعيف عن التأصيل في علم التوحيد وعلم الفقه وعن أهم علوم الآلة وهو علم أصول الفقه , فصار بهذا مقدِّماً للمفضول على الفاضل .
التنبيه الثاني :يخطئ كثيرٌ من الفقهاء وكثيرٌ ممن يكتب في الاعتقاد فيستدلون بأحاديث ضعيفة لذا ينبغي لطالب العلم أن لا يقبل أي حديث يراه في كتب الفقه ولا أي حديث يراه في كتب الاعتقاد بل لا يقبل إلا ما علم صحته , فإذا كان ذا قدرة على التصحيح والتضعيف فلا يقبل إلا ما استبان له صحته وإلا قلَّد من يثق به , وفي ظني أولى من يقلَّد في هذا الزمن هو الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني لا سيما وقد قرب الأحاديث وسهَّل الوصول إليها لمعرفة حكمها من جهة الصحة أو الضعف لكن لو تبين لطالب العلم أن الأئمة الأولين الذين هم فرسان علم الحديث قالوا قولاً وخالفهم الألباني فقولهم مقدم , كالإمام أحمد وعلي بن المديني ويحي بن معين والبخاري وأبي زرعة وأبي حاتم وأمثالهم , ولما ذكر الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في ( السلسلة ) حكم الإمام أبي حاتم الرازي على حديث , قال بعد ذلك :
إذا قالت حَذامِ فصدقوها فإن القول ما قالت حَذامِ .
التنبيه الثالث : لا يلزم طالب العلم في الاستدلال بالحديث أو بغيره من الأدلة أن يكون له سلف بخلاف الأحكام الشرعية فلا يقول قولاً إلا وله سلف كما تقدم بيانه لكن في المقابل ينبغي أن يكون حذِراً فإنه لا دليل يدل على أنه لا يجوز أن يستدل بدليل إلا وله سلف في ذلك فإن الأدلة كثيرة المعاني وقد يظهر لهذا ما لا يظهر لهذا كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما في ( صحيح البخاري ) : " أو فهماً يؤتيه الله من شاء " .
التنبيه الرابع :تصحيح الأحاديث وتضعيفها أمر نسبي في كثير من صوره فمن ظهر له صحة حديث وغيره يضعفه أو العكس فلا يشنع بعضهم على بعض بالتجهيل أو التضليل لأنه أمر نسبي إلا أن بعض العلماء يُعرف بالنظر في تصحيحاته بأنه متساهل فينبغي الحذر من قبول تصحيح أمثال هؤلاء , وقد ذكر الشيخ الألباني أن السيوطي والهيثمي وأمثالهما متساهلون في باب التصحيح والتضعيف فلا يعوَّل على تصحيحهم وتضعيفهم لكن يستفاد منهم , وأيضاً يعتضد بكلامهم تبعاً لا اعتماداً .
وذكر المعلمي في مقدمة تحقيقه لــ( الفوائد المجموعة ) للشوكاني أن كثيراً من المتأخرين متساهلون في باب التصحيح والتضعيف .
التنبيه الخامس:
للسنة إطلاقات :
الإطلاق الأول :استعمال الشرع , وهو بمعنى الطريقة وقد تكون على المستحب أو الواجب , لأن الطريقة التي يسلكها النبي صلى الله عليه وسلم في عباداته ما بين واجب أو مستحب , فمثلاً طريقته في الصلاة أنه يركع فهذه طريقة واجبة , وطريقته في الصلاة أنه يقبض باليمنى على اليسرى وهذه طريقة مستحبة , والكل شرعاً يسمى سنة بإطلاق الشرع فعليه : إذا جاء في الشرع وصف هذا المأمور بأنه سنة فهذا لا يصرفه من الوجوب إلى الاستحباب لأن السنة شرعاً تطلق على الطريقة سواءً كانت مستحبة أو واجبة .
مثال ذلك :
جاء في الشرع الأمر بالختان , وجاء وصفه بأنه سنة من سنن الفطرة , فوصفه بأنه سنة لا يصرف الأمر من الوجوب إلى الاستحباب , وقد نبه على هذا جمع من العلماء كابن حجر في ( فتح الباري ) والشوكاني في ( نيل الأوطار )
الإطلاق الثاني :إطلاق السنة عند الفقهاء , والمراد بها ما يقابل الواجب وهي : ما يثاب فاعلها امتثالاً ولا يستحق العقاب تاركها .
الإطلاق الثالث :عند علماء الأصول وهو ما يقابل القرآن وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله وتقريره.
الإطلاق الرابع :السنة عند المحدثين وهي: قول النبي صلى الله عليه وسلم وإقراره وصفته الخَلقية والخُلقية.الإطلاق الخامس:السنة عند علماء الاعتقاد وهي: ما يقابل البدعة. ومنه ما خرّج الخمسة إلا النسائي عن العرباض بن سارية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة " صحح الحديث الترمذي والبزار وأبو نعيم .
الدليل الثالث :
الإجماع :
وهو من أعظم أدلة أهل السنة , وقد سبق ذكره بما يكفي إن شاء الله .
الدليل الرابع:
قول الصحابي : وهو أيضاً من أعظم الأدلة لأنه فرع عن الإجماع لكنه إجماع الصدر الأول , ثم من قوم لهم مزية علماً وتقىً فهم أفضل الخلق من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقد تقدم ذكره بما يكفي إن شاء الله .
الدليل الخامس :
القياس :
وهو من أدلة أهل السنة المجمع عليها , وقد تقدم ذكر أدلته وبعض ما يتعلق به بما يكفي إن شاء الله في إثبات أنه دليل .
أما حقيقة القياس وتعريفه فهو يرجع إلى أن الشريعة محكمة لا تفرق بين متماثلات ولا تمثل وتسوي بين متفرقات , هذا من جهة . ومن جهة أخرى أن للأحكام الشرعية عللاً شرع الحكم من أجلها فالحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً , والأصل أن تكون العلة في الأحكام الشرعية معلومة والأحكام التي هي غير معقولة المعنى والعلة خلاف الأصل كما ذكر ذلك ابن عبد البر في ( التمهيد ) وابن دقيق العيد في ( إحكام الأحكام ) فعلى هذا تعريف القياس هو :" إلحاق فرع بأصل في حكم لعلة جامعة بينهما ".
من هذا التعريف يتبين أن للقياس أركانا أربعة :
الركن الأول:الأصل .
الركن الثاني:الفرع .
الركن الثالث:العلة .
الركن الرابع:الحكم, والمراد به حكم الأصل لا حكم الفرع فإنه نتيجة, ويتضح بالمثال:
ثبت عند الخمسة من حديث أبي قتادة قال النبي صلى الله عليه وسلم في الهرة : " إنها ليست بنجس إنما هي من الطوافين عليكم والطوافات " اختلف العلماء في الفأرة هل هي طاهرة أو نجسة ؟ إذ هذا الحديث يدل على أن جميع غير مأكولات اللحم نجسة , كما ذكر ذلك الإمام الشافعي وشيخ الإسلام في ( شرح العمدة ) وإنما استثني من غير مأكولات اللحم الهرة لأنها من الطوافين علينا والطوافات , فإذا حاولنا معرفة حكم الفأرة يرجع إلى النظر إلى صحة قياسها على الهرة :
فالركن الأول :وهو الأصل هو الهرة .
والركن الثاني :وهو الفرع هو الفأرة .
والركن الثالث :وهو علة الحكم الأول وهو كونها من الطوافين والطوافات .
الركن الرابع :وهو حكم الأصل وهو طهارة الهرة .
ينتج من النظر في أركان القياس أن الفأرة كالهرة من جهة اجتماعهما في علة كونهما من الطوافين فينتج من هذا أنهما طاهرتان. وهذا هو المسمى بالقياس .
وبمعرفة ما تقدم يتضح أمرين :
الأمر الأول : أنالقياس كاشف لحكم الله وليس مبتدأ حكماً كالقران والسنة .
الأمر الثاني :أن القياس أمر اجتهادي وهو متفاوت في ظهور وخفاء صحته , فهو إذاً أمر اجتهادي يكثر الخطأ فيه , وقد ذكر الإمام أحمد أن من أكثر ما يخطئ فيه الفقيه هو القياس , فعليه لا يصار إلى القياس إلا إذا لم يوجد النص من الكتاب والسنة وقول الصحابي والإجماع , فلا يصار إليه إلا عند الضرورة إذا لم يوجد إلا هو من الأدلة , قال الإمام أحمد سألت الشافعي عن القياس فقال : " هو كالميتة لا يصار إليه إلا عند الضرورة " نقله ابن القيم في ( إعلام الموقعين ) وقرر هذا الشافعي في كتابه ( الرسالة ) , فعليه إذا خالف القياس نصاً شرعياً صار قياساً فاسداً , وهذا من أعظم شروط القياس وهو " أن لا يخالف نصاً شرعياً " ومن ذلك السنة التركية كما نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في ( الاقتضاء ). فائدة : سمى شيخ الإسلام ابن تيمية كما في ( مجموع الفتاوى ) وابن القيم كما في ( إعلام الموقعين ) القياس الصحيح بالميزان قال تعالى: { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط }
تنبيه :يكثر في كلام العلماء أن القياس لا يدخل في العبادات ومرادهم بذلك : أي العبادات المحضة غير المعقولة المعنى أي لا تعرف علتها أما إذا عُرفت علة العبادة فإن القياس يدخل في هذه العبادة كمثل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في ( الصحيحين ) :" إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده " في رواية لمسلم ساق إسنادها دون لفظها وذكر لفظها ومتنها أبو داود في سننه أنه قال :" من نوم الليل " فمفهوم المخالفة أنه إذا استيقظ من نوم النهار ولو كان طويلاً فإنه يغمس يده بلا غسل , ومن الأدلة في رد هذا المفهوم أن يقال : إن الحديث معلَّل بعلَّة , وهذه العلَّة شاملة لنوم الليل والنهار فعليه هذا العموم المستفاد من العلة يسمى أصولياً عموماً معنوياً لأن العموم عمومان :
1- العموم الأول في اللفظ وهو كالنكرة في سياق الشرط الخ , وله صيغ وألفاظ .
2-الثاني العموم من حيث المعنى وهو المستفاد من العلة فكل ما يدخل في معنى العلة فهو داخل في الحكم .
فائدة : ما من موجودين إلا وبينهما تشابه كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية كما في ( مجموع الفتاوى ) وابن القيم كما في ( إعلام الموقعين ) , فعليه ليس القياس إلحاق شبيه بشبيه على الإطلاق وإنما هو إلحاق أمر بأمر تشابها في العلة ومن ههنا قال ابن تيمية وابن القيم بعدم حجية قياس ( الشَبَه ) لأن لازم هذا أن يقاس كل شيء بكل شيء بجامع أنهما موجودان أو بجامع أنهما أشياء .
الدليل السادس
الاستحسان :
وهذا دليل يذكره الأصوليون وهو من حيث الجملة أقسام ثلاثة :
القسم الأول :استحسان شرعي ومنه قوله تعالى: { واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون } ,والمراد بهذا الاستحسان هو : العمل بما يدل عليه الدليل عند ظاهر التعارض كتقديم الخاص على العام وتقديم المطلق على المقيد والناسخ على المنسوخ وهكذا .
القسم الثاني :الاستحسان العقلي أي المبني على العقل بلا دليل وهذا من الرأي المذموم وقد نقل الغزالي وغيره عن الشافعي أنه قال :" من استحسن فقد شر[2]ع "
القسم الثالث :الاستحسان الوجدي أي شيء يجده الإنسان في نفسه ولا يستطيع أن يعبر عنه وهذا استحسان باطل وقد وصفه ابن قدامة بأنه هَوَس كما في ( روضة الناظر ) وأنكر هذا النوع الشاطبي كما في ( الاعتصام ).
فائدة / وقد حقق أبو المظفر السمعاني في كتابه قواطع الأدلة دليل الاستصحاب في بحث مفيد نتيجته : أنه لا دليل يصح أن يسمى استحساناً وذلك أن هذا الدليل المسمى استحساناً يرجع إلى غيره .
الدليل السابع :
الاستصحاب :
وهو أقسام ثلاثة :
الأول :استصحاب الأصل ويسمى بالبراءة الأصلية وهذا من حيث الجملة مجمع عليه وهو : بقاء ما كان منفياً على النفي وما كان مثبتاً على الإثبات .
الثاني :استصحاب النص وهو : استصحاب الدليل الشرعي فإن كان الدليل عاماً عمل به على عمومه وإن كان مطلقاً عُمِل به على إطلاقه .
الثالث :استصحاب الإجماع وهو : الاحتجاج بالإجماع في صورة مجمع عليها في صورة مختلف فيها ويمثل على ذلك الأصوليون باستصحاب إجماع العلماء على بطلان التيمم عند وجود الماء خارج الصلاة ببطلانه عند وجود الماء داخل الصلاة فإن الحكم ببطلان التيمم لمن شرع في صلاته بعد وجود الماء مختلف فيه .
وقد حقق أبو المظفر السمعاني في كتابه قواطع الأدلة دليل الاستصحاب في بحث مفيد نتيجته : أنه لا دليل يصح أن يسمى استصحابا ,ً وذلك أن هذا الدليل المسمى استصحاباً يرجع إلى غيره .
أما القسم الأولفيرجع إلى البراءة الأصلية وإن سمي استصحاب الحال .
والقسم الثانيفيرجع إلى العمل بالعمومات وبألفاظ الشرع , وممكن أن يقال يرجع إلى الاستحسان الشرعي .
أما القسم الثالثفهو من حيث الأصل ليس حجة لأن هذه الصورة المتنازع فيها ليس مجمعاً عليها فالأصل أن لا يحتج باستصحاب الإجماع وإنما ينظر هل تدل الأدلة الأخرى عليه أم لا ؟ فسقط هذا القسم الثالث .
وقد قرر قريباً من كلام أبي المظفر السمعاني الإمام ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين .
الدليل الثامن :
الاستصلاح :
والمراد بالاستصلاح أي الاحتجاج بالمصالح المرسلة والمصالح من حيث العموم ثلاثة أقسام :
القسم الأول : مصالح معتبرة وهي التي اعتبرها الشارع بنص خاص كتوثيق الديون بالشهادة والكتابة وتوثيق النكاح بشاهدي عدل قال تعالى: { يا أيها الذين ءامنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } , إلى قوله : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } , فهنا اعتبرت الشريعة كتابة الدَّين واستشهاد رجلين , أما في النكاح فقد ثبت عن عمر وابن عباس رضي الله عنهما أنهما قالا : " لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل ", فتثبيت هذه الأمور بالشهادة هو من المصالح المعتبرة لأنه ورد في إثباتها نص خاص .
القسم الثاني : المصالح الملغاة وهي التي وَرَدَنا نص خاص بإلغائها مما ظنه الناس مصلحة , كمصلحة كسب المال عن طريق الربا كما قال تعالى: { وأحل الله البيع وحرم الربا }.
القسم الثالث : المصالح المرسلة وهي التي لم يرد فيها دليل خاص باعتبارها مصلحة وإن كانت تدل عليها الأدلة العامة , وسميت مرسلة أي مطلقة لأنه لم يثبت دليل في اعتبارها ولا في إلغائها , وهذا الدليل دليل مهم ودقيق ويخطئ فيه كثيرون فينبغي الحذر الشديد عند تطبيق هذا الدليل .
والأدلة على حجية المصالح المرسلة : هو كل دليل يدل على أن الشريعة قائمة على تحصيل المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها , والأدلة على ذلك كثيرة منها :
الدليل الأول : قوله تعالى: { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم } , وجه الدلالة : أن الله نهى عن أمرٍ مطلوب في الشرع لأنه يؤدي إلى مفسدة أكبر . أفاد هذا شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه ( بيان الدليل على بطلان التحليل ) وابن القيم في كتابه ( إعلام الموقعين ).
الدليل الثاني : ما ثبت في الصحيحين " أن أعرابياً بال في المسجد فزجره الناس فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم فلما قضى بوله أمر بذنوب من ماء فأهريق عليه " , وجه الدلالة : أن إنكار المنكر مصلحة لكن لما ترتبت عليه مفسدة أكبر نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه . ذكر هذا كثير من العلماء كالحافظ ابن حجر وغيره .
الدليل الثالث : ما ثبت في البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لهدمتُ الكعبة وبنيتها على قواعدها الأربع ولجعلت لها بابين باباً يدخل منه الناس وباباً يخرجون منه " , وجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم تركها للمصلحة لأنه يترتب عليها جلب مفسدة أكبر .
الدليل الرابع : العَقْد الذي عقده النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية والحديث في الصحيح من حديث المسور بن مخرمة وأنس وغيرهما , وفي هذا العَقد والصُّلح : أنه إذا جاء الرجل إلى النبي مسلماً فإنه يرده بخلاف العكس , وهذا لولا المصالح والمفاسد لكان محرَّماً لأنه مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم " أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً " لكن أجاز مثل هذا النبي صلى الله عليه وسلم مراعاة للمصلحة وذلك أنه دَرَءَ مفسدةً كبرى بمفسدة صغرى .
_ ومن الأدلة استعمال الصحابة للمصالح المرسلة ومن ذلك :
- جمعهم للقران .
- كتابتهم له , كما فعل أبو بكر .
- ومن ذلك أن عثمان رضي الله عنه أثبت رسماً واحداً للقران .
- ومن ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وضع الدواوين والسجون .
تنبيهات :
_ التنبيه الأول : قد أرجع العز بن عبد السلام كما في كتابه في القواعد الفقهية الدِّين كلَّه إلى قاعدة واحدة وهي : أن الدِّين قائم على جلب المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها . ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام كثير في هذا كما في ( مجموع الفتاوى ) , وقد قرر هذا ابن القيم كما في كتابه ( إعلام الموقعين ) , وقرره الشاطبي كما في كتابه (الموافقات ).
التنبيه الثاني : إذا تعارضت جلب المصلحة مع درء المفسدة فإن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح , لذلك دَرَءَ النبي صلى الله عليه وسلم مفسدة ارتداد الأعرابي الذي بال في المسجد ونفوره عن الدِّين على مصلحة حفظ المسجد ونظافته , لكن هذه القاعدة مقيدة بقيد دقيق ذكره السبكي في ( الأشباه والنظائر ) وذكره الشيخ ابن عثيمين في بعض فتاواه : وذلك إذا تساويا أي تساوى درء المفسدة مع جلب المصلحة أما إذا غلبت مصلحة جلب المصالح فإنها مقدمة على درء المفاسد .
التنبيه الثالث : مما يعين كثيراً على التمييز بين المصالح المرسلة والمصالح الملغاة هو : أن ينظر في مقتضي جلب هذه المصلحة والمانع من فعل هذه المصلحة فإذا وُجد المقتضي لفعل هذه المصلحة عند النبي صلى الله عليه وسلم أو أصحابه ولا مانع يمنعهم فإن هذه المصلحة ليست مصلحة مرادة في الشرع فليست مصلحة مرسلة وإنما من المصالح الملغاة لأن هذه المصلحة لو كانت خيراً ومرادةً في الشرع لفَعَلَهَا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه . وقد أشار إلى هذا الضابط شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من ( مجموع الفتاوى ) , ومما ضربه على ذلك مثلاً الشاطبي في كتاب ( الاعتصام ) أن بعض العلماء إذا وقع غنيٌّ في كفَّارة ظِهَار أو جِماع في رمضان فإنه يأمره بالصيام ولا يأمره بما أمره الله به ونبيه بعتق رقبة فإن لم يجد صام , وذلك أنه يقول : إن أَمْرَهُمْ بالصيام أردع لهم وأزجر لكون الرقاب متيسرة لهم .
ردَّ هذا الشاطبي وبين أن هذه من المصالح الملغاة لأنها خلاف ما يريده الله ورسوله, ولأنه أيضاً لا يسلَّم بأن المصلحة تقتضيه بل المصلحة تقتضي أن يُبدأ بعتق الرقبة لأن الشريعة تتشوف لعتق الرقاب لما فيه من نفع للمملوك .
الدليل التاسع
دليل سد الذرائع :
وهذا الدليل مجمع عليه من حيث الجملة كما حكى الإجماع القرَّافي في ( شرح تنقيح الفصول ) والمراد بدليل سد الذرائع : سد كل طريق موصل إلى محرم .
والأدلة كثيرة في الدلالة على أنه حجة حتى أنَّ الإمام ابن تيمية بسط الكلام وذكر الأدلة على دليل سد الذرائع فذكر ثلاثة وثلاثين دليلاً على وجوب سد الذرائع , أما الإمام ابن القيم ففي كتابه ( إعلام الموقعين ) أخذ كلام شيخه وزاد على الأدلة إلى أن أوصلها إلى تسعة وتسعين دليلاً .
ومن الأدلة على وجوب سد الذرائع ما يلي :
الدليل الأول : قوله تعالى: { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم } , وجه الدلالة أنه سد الذريعة إلى سبه بالنهي عن سب آلهة المشركين .
الدليل الثاني: { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم }, وجه الدلالة أن الشريعة نهت عن النظر للحرام تطهيراً للقلوب حتى لا يقع الزنا .
الدليل الثالث : قوله تعالى: { ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن } , وجه الدلالة : أنه نهى المرأة أن تضرب برجلها سدا لذريعة النظر للزينة التي تُوقع في الحرام والزنا .
الدليل الرابع : قوله تعالى: { ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن } , وجه الدلالة أنه أمر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يحتجبن لأنه أطهر للقلوب .
الدليل الخامس : ما ثبت في ( البخاري ) عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها " وجه الدلالة نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن وصف المرأة لزوجها امرأة أخرى حتى لا يكون كالناظر إليها .
وسد الذرائع على أقسام أربعة ذكرها القرَّافي في ( شرح تنقيح الفصول ) :
القسم الأول : وهي الموصلة إلى الحرام يقيناً , كحفر بئر في طريق المسلمين وهذا محرَّم بالإجماع .
القسم الثاني : الذي لا يوصل إلى الحرام إلا نادراً كبيع , العنب لمن يتخذه خمراً . وهذا لا يمنع بالإجماع .
القسم الثالث : ما يوصل إلى الحرام غالباً , وهذا يمنع باتفاق أئمة المذاهب الأربعة .
القسم الرابع : ما يوصل إلى الحرام كثيراً لا غالباً , وسدُّ مثل هذا هو قول مالك وأحمد خلافاً للشافعي وأبي حنيفة .
تنبيهات :
التنبيه الأول : بما أن دليل سد الذرائع اجتهادي في تطبيقه على الواقع فلذا يقع الخطأ فيه إفراطاً وتفريطاً ومن الضوابط المعينة على معرفة سد الذرائع قاعدة المقتضي والمانع فما وجد مقتضاه وانتفى مانعه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ولم يسدوه فلا يجوز لنا أن نسده بل سدنا له من البدع كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في ( الاقتضاء ) , وررد ذلك كثيراً الشيخ الألباني في مسجلاته الصوتية .
أمثلة على هذه القاعدة المهمة :
المثال الأول : كان النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة يصلِّين في المسجد , لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله " أخرجه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما .
فدلَّ على أنهنَّ كنَّ يصلِّين الفروض الخمسة في المسجد , وما وضع النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه حاجزاً بين الرجال والنساء عند صلاة النساء في المساجد , فمن أراد وضع الحاجز سداً للذريعة فقد أخطأ بدلالة المقتضي والمانع , فإن قيل إن الناس قد تغيروا و كثرت المعاصي . فيقال : إن ذنوب العباد ليست مبرراً لتغيير الشريعة بل الناس مأمورون بالرجوع إلى الله والتوبة , ذكر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية في ( اقتضاء الصراط المستقيم ) , ويؤكد كلامه أن الصحابة لم يسدوا ذرائع في زمانهم مع تغيُّر حال زمانهم بالنسبة إلى حال زمان النبي صلى الله عليه وسلم لا سيما بعد دخول العَجَم في الإسلام واتساع رقعته .
المثال الثاني : ثبت في السنة ما يدل على أن النساء كنَّ يلبسن نقاباً كما أخرج البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين " فدلَّ هذا على أن النساء كنَّ ينتقبن فإذا أراد أحد أن يمنع النقاب سداً للذريعة فيقال بدلالة المقتضي والمانع : لا يصح أن تسد هذه الذريعة لأن سدها لو كان خيراً لكانوا أسبق إليه .
التنبيه الثاني : حاول كثير من أهل الباطل إسقاط دليل سد الذرائع وهو من أشد الأدلة إحراجاً لدعاة الشهوات وللمنافقين من العلمانيين والليبراليين ولدعاة الإفساد من بعض الإسلاميين الذين قد شابهوا كثيراً من الليبراليين والعلمانيين في كثير من الأمور كـ( فهمي هويدي , وحسن الترابي , وسلمان العودة ) , وسبب سعيهم لإسقاط هذا الدليل أنه يحكم على المتجددات من الوقائع بالمنع والحرمة , وهذا ما لا يريده هؤلاء .
أما المنافقون من العلمانيين والليبراليين فلأنهم لا يريدون الدين .
وأما أهل الشهوات فلشهواتهم .
وأما من هو من الإسلاميين _ إن صح التعبير _المشار إليهم فهو لأنهم يريدون إسلاماً قليل التكاليف ليُرضوا به الغرب من جهة , ومن جهة أخرى يجعلون الناس يتعلقون بهم ويرجعون إليهم لأنهم قد يَسَّرُوا وخفَّفُوا بزعمهم , ونتج من هذا ما يسمى بـ( فقه التيسير ) وهو على مراد هؤلاء مبتدَع لأنه قائم على أساس وهو : تقليل التكاليف التي جاءت بها الشريعة وتوسيع دائرة المباح مخالفة للشرع .
ولهم طرق وأساليب في ذلك :
الطريق الأول : إسقاط دليل الإجماع بحجة أنه لا ينعقد , فهم يقررونه صورياً لا حقيقياً فكلما احتُجَّ عليهم بدليل فيه إجماع ردوه بحجة أن الإجماعات لا تنعقد .
الطريق الثانية : الاحتجاج بالخلاف , وذلك أنهم إذا رأوا في المسألة خلافاً أجازوها بحجة أن فيها خلافاً , والاحتجاج بالخلاف خطأ ومردود بدليلين :
الدليل الأول : الأدلة التي تأمرنا عند الاختلاف أن نتحاكم إلى الكتاب والسنة كقوله تعالى : { وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله } .
الدليل الثاني : أن الاحتجاج بالخلاف مخالف لإجماع أهل العلم كما حكى الإجماع ابن عبد البر في كتابه ( جامع
بيان العلم وفضله ) , وابن تيمية في كتابه ( رفع الملام ) , فالخلاف ضعيف مفتقر إلى دليل لا أنه دليل .
الطريق الثالثة : تتبع الرُّخَص , فمنهجهم أنهم يتتبعون الرُّخَص فما أن يجدوا في مسألةٍ قولاً لعالم فيه تسهيل ورخصة إلا وأخذوا به ودعوا الناس إليه وهذا مردود لأمرين :
الأمر الأول : كل دليل فيه الأمر بالرجوع إلى الكتاب والسنة فيه ردٌّ عليهم لأن الشريعة لم تأمرنا بالرجوع إلى الرُّخَص .
الأمر الثاني : أن هذا مخالفٌ لإجماع أهل العلم كما حكى الإجماع ابن عبد البر في كتابه ( جامع بيان العلم وفضله ) .
الطريقة الرابعة : إسقاط دليل سد الذرائع , لما تقدم ذكره وتقدم ذكر الأدلة في حجيته وكذا إجماع أهل العلم .
الطريقة الخامسة : التوسع في التمسك والتحجج بمقاصد الشريعة وروحها ومعانيها والاستدلال بالقواعد الفقهية في غير بابها , فكم استطاعوا بهذا أن ينقضوا شيئا كثيراً من الشريعة باسم المصالح وروح ومعاني الشريعة والقواعد الفقهية وقد ذكر ابن القيم في كتابه ( إعلام الموقعين ) , والشوكاني في كتابه ( أدب الطلب ومنتهى الأرب ) أن كثيراً ردوا كثيراً من الشرع باسم القواعد الفقهية فلا نقبل القواعد الفقهية إلا بالنظر في أدلتها , والقواعد الفقهية المبنية على الدليل الشرعي مفيدة للغاية لكن قد يستغلها من يريد أن يفسد الشريعة لأي دافع كان ومن ذلك التيسير , , فلذا ينبغي لطالب العلم أن يدرس القواعد الفقهية دراسة دقيقة بعد ضبطه للفقه وأصول الفقه ثم يكون وسطاً وذلك بأن لا يردُّ القواعد الفقهية ولا يقبلها مطلقاً بل يقبل ما دل عليه الدليل ثم بعد ذلك يحسن تطبيقها .
الطريق السادسة : إسقاط دليل القياس عملياً وإن كانوا يقرُّون به نظرياً كالإجماع تماماً , وذلك أن القياس الصحيح مبيِّن لأحكام الله في الوقائع والمتجددات فعن طريقه يحكم على كثيرٍ من الوقائع والمتجددات بأنها محرمة
الدليل العاشر:
شرع من قبلنا :
تنازع العلماء في شرع من قبلنا , وتحرير محل النزاع في هذا الدليل ما يلي :
الأمر الأول : أن شرع من قبلنا إذا خالف شرعنا فليس حجة بالإجماع كما حكى هذا الإجماع شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره .
الأمر الثاني : إذا وافق شرع من قبلنا شرعنا فهو حجة بشرعنا , وهذا أيضاً بالإجماع .
الأمر الثالث : أن تكون واسطة النقل لشرع من قبلنا الكتاب والسنة لا ما يتناقله بنو إسرائيل ولا الذي يوجد في التوراة والإنجيل وهذا بالإجماع كما حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية.
وأصح أقوال أهل العلم أن شرع من قبلنا شرع لنا , وعزا ابن تيمية هذا القول لعامة السلف وجمهور الفقهاء كما في كتابه ( اقتضاء الصراط المستقيم ) .
وأقوى ما تمسك به القائلون بأنه ليس حجة الآيات التي فيها الرجوع إلى الكتاب والسنة , قالوا : فلم يأمرنا أن نرجع إلى شرع من قبلنا .
أما الذين ذهبوا إلى أن شرع من قبلنا حجة فقالوا : إننا لم نحتج بشرع من قبلنا إلا لأننا وجدنا في الكتاب والسنة ما يدل على أن شرع من قبلنا حجة :
الدليل الأول : قوله تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } , وجه الدلالة أننا إذا لم نجد في مسألة دليلاً من شرعنا ووجدنا دليلاً من شرع من قبلنا تحاكمنا به لأنه مما أنزل الله .
الدليل الثاني : ما ثبت في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك " ثم تلا قوله تعالى { وأقم الصلاة لذكري } . وجه الدلالة أن قوله تعالى : { وأقم الصلاة لذكري } , خطاب لموسى عليه السلام , ومع ذلك استدل به النبي صلى الله عليه وسلم , وهذا في المسائل الفقهية وبهذا رد ابن قدامة وغيره على من يقول بأن شرع من قبلنا حجة في باب العقائد دون المسائل الفقهية كما في ( روضة الناظر ).
الدليل الحادي عشر
العُرف:
والمراد بالعُرف أي ما تعارف عليه الناس , وأصل دليل العُرف مجمع عليه كما ذكره بعض الأصوليين , وقد دل القران والسنة على حجِّية العُرف , ومن الأدلة :
الدليل الأول : قوله تعالى : { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } , وجه الدلالة الأمر بالعرف وهو داخل في المعروف الذي يتعارفه الناس .
الدليل الثاني : قوله تعالى : { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } , وجه الدلالة أنه أجاز الإمساك للزوجة إن كان بالمعروف وهو ما تعارف عليه من الخير .
الدليل الثالث : قوله تعالى : { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف } , وجه الدلالة كالدليل السابق . الدليل الرابع : ما ثبت في الصحيحين عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهند بنت عتبة لما قالت " إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من المال ما يكفيني ويكفي بنيَّ " قال : " خذي من ماله ما يكفيك ويكفي بنيك بالمعروف " , وجه الدلالة أنه جوَّز لها أن تأخذ بمقدار ما تعارف عليه الناس , فدل على أن العرف حجة .
تنبيهات :
التنبيه الأول : معرفة دليل العُّرف والتعامل معه من أهم ما يلزم الفقيه , ومن لم يعرفه شدَّدََ على الناس وضيَّق عليهم في أمر وسَّع الله لهم فيه وهو من المراد بقول ابن القيم كما في كتابه ( إعلام الموقعين ) أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان , وذلك أن أعراف الناس تختلف باختلاف الأماكن والأزمان , وذكر ابن القيم أن من لم يعرف المسائل التي تتغير بتغير الزمان والمكان فإنه يشدد على الناس ويحرم ما أباحته الشريعة .
التنبيه الثاني : العرف يُرجَع إليه فيما دلت الشريعة بأنه يُحتج به فيه , لكن لا يصح بحال أن يُحتج بالأعراف في رد دلائل الكتاب والسنة , وكم هُدم من الدين بسبب أعراف الناس وعاداتهم .
التنبيه الثالث : مما يرجع فيه إلى العرف
_ العبادات غير المحضة ومعنى العبادة غير المحضة هي التي أرجعتنا الشريعة في صفتها إلى أعراف الناس كمثل صفة اللباس وإكرام الضيف والعزاء , وهكذا .
_ أما العبادات المحضة وهي التي لم ترجعها الشريعة إلى أعراف الناس وإنما جاءت بصفة هذه العبادة فإننا نرجع إلى ما جاءت به الشريعة من صفات ولا نرجع إلى الأعراف .
ومما يعين في التمييز بين العبادات المحضة وغير المحضة :
أن العبادات غير المحضة تكون موجودة قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فيخرج النبي صلى الله عليه وسلم في قومه فيفعل فعلهم وقد ينهى عن بعض الصور التي يفعلونها كمثل إكرام الضيف كان موجوداً قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه نهى عن الإسراف والتبذير , فعلى هذا السنة في إكرام الضيف وفي الثياب أن تفعل ما يفعل قومك , وذكر شيخ الإسلام أن السُّنَّة في الِّلباس أن تلبس لباس قومك كما في ( مجموع الفتاوى ) .
أما العبادات المحضة فتكون الشريعة جاءت بها كالزكاة والصلاة والصيام وهكذا , أو أن الشريعة وضحت صفتها.
وبعد هذا نبدأ بشرح دليل الطالب .
8/ 4 / 1431هـ
[1] _ كان ابتداء الشرح يوم السبت 13/ربيع الأول /1431 بعد صلاة الفجر.
[2] - قال الشيخ حفظه الله : الظاهر أنها بتخفيف الراء كمثل قوله تعالى: { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله }