تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: مقدمات في دراسة الفقه

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    المشاركات
    152

    افتراضي مقدمات في دراسة الفقه



    مقدمات في دراسة




    مقدمات في دراسة الفقه


    المقدمة الأولى

    أن فهم السلف حجة في الشريعة كلها في باب الاعتقاد والسلوك أي التعبد والمعاملات والفقه كما قال تعالى : { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا } , قوله : { ويتبع غير سبيل المؤمنين } , عام في اتباع غير سبيلهم في الاعتقاد والفقه وغير ذلك من الدين .
    وقوله تعالى :{ فإن ءامنوا بمثل ما ءامنتم به فقد اهتدوا } , عامٌ في كل ما يؤمَنُ به مما جاء اللهبه في الاعتقاد والفقه وغير ذلك من الدين .
    _ ويتفرع عن هذا عدة أمور :-
    الأمر الأول: -حجية الإجماع, لأن معنى الإجماع هو :" اتفاق فقهاء الإسلام على حكم شرعي بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ". وأول من يدخل في فقهاء الإسلام: السلف والتابعين لهم بإحسان , وسيأتي الكلام على الإجماع.
    الأمر الثاني: -أن أقوال الصحابة حجة بشروطه كما سيأتي فإن أول من يدخل في قوله :{ ويتبع غير سبيل المؤمنين }الصحابة.
    الأمر الثالث: - عدم جواز إحداث قول جديد في الدين, ومن ذلك الفقه وهذا الإحداث له صور ثلاثة: -
    الصورة الأولى: -أن يأتي بقول جديد لم يُسَبق إليه.
    الصورة الثانية: -أن يختلف العلماء على قولين فيحدث قولاً ثالثاً.
    الصورة الثالثة: -أن يختلف العلماء على قولين فيأتي بقول ثالث ملفَّق لا يرفع القولينجميعاً بل يأخذ من كل قولٍ جزءاً.
    كل هذه الصور الثلاثة داخلة في إحداث قول جديد .

    المقدمة الثانية


    حجية الإجماع

    الأدلة كثيرة على حجية الإجماع :
    _ من ذلك قوله تعالى : {ويتبع غير سبيل المؤمنين } , وجه الدلالة من الآية أن الله علَّق الذم على مخالفة سبيل المؤمنين فدل هذا على وجوب اتباع سبيلهم وهو الإجماع , وذلك أنه إذا لم يعرف في المسألة إلا قول واحد لأهل العلم من الصحابة ومن بعدهم فهذا هو سبيل المؤمنين .
    _ الدليل الثاني قوله تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} , وجه الدلالة : أن العلماء إذا لم يتنازعوا فهو حجة يجب العمل بها , بخلاف ما إذا اختلفوا فإنهم يبحثون عن الدليل .
    _ مسألة:الإجماع حجة متى ما وقع , سواء وقع بعد خلاف أو كان الخلاف بعده , لأن الأدلة ذكرت حجية الإجماع ولم تفرق بين إجماع قبله خلاف أو إجماع بعده خلاف.
    _ مسألة:الإجماع نوعان :
    النوع الأول :إجماع قطعي .
    النوع الثاني :إجماع ظني .
    _ أما الإجماع القطعي فهو : ما كان مبنياً على نص , كقوله تعالى :{ وأقيموا الصلاة } ,فأجمع العلماء على وجوب الصلاة .
    _ أما الإجماع الظني فهو : الإجماع القائم على الاستقراء والتتبع , فإذا استقرأ عالمٌ مسألةً فحكى إجماعاً وكان العالم واسع الإطلاع فإن الأصل صحة ما حكاه من الإجماع , وهذا هو المسمى بالإجماع الظني أي هو إجماع من باب الظن الغالب , والظن الغالب حجة في الشريعة في باب الاعتقاد والفقه خلافاً للمتكلمين في باب الاعتقاد .
    _ مسألة : -إذا حكى عالم صاحب استقراء _ كابن المنذر وابن قدامة والنووي ومن باب أولى كالإمام أحمد _ إجماعاً فالأصل قبول إجماعه حتى يتبين خرمه , ثم إذا وقفت على عالم خالف فلا تتعجل في زعم الإجماع مخروماً لأنه قد يكون بعد انعقاد الإجماع .
    كمثلقول داود الظاهري ومن تبعه بجواز مس القران لمن عليه حدث أصغر , فإن أول من خالف وقال بجواز مس القران لمن عليه حدث أصغر هو : داود الظاهري . كما أفاده ابن قدامة , فعليه خلاف داود بعد إجماع فلا يعتد به .
    _ ولابد أيضاً من النظر فيمن خالف الإجماع فقد يكون الإجماع منعقداً بعد خلاف .
    كما اختلف التابعون في الخروج على السلطان الفاسق ثم انعقد الإجماع كما أفاده النووي والقاضي عياض وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن حجر .
    ومن أمثلة ذلك :
    _ جماع الرجل زوجته من غير إنزال , كان فيه خلاف كما أشار للخلاف البخاري في ( صحيحه ) ثم انعقد الإجماع كما يدل عليه كلام ابن المنذر .
    _ مسألة :-إن لدليل الإجماع مزية على بقية الأدلة وهذه المزية أنه لا يكون إلا " قطعي الدلالة " ونصَّ على ذلك الغزالي في ( المستصفى ) , لذلك مسائل الاعتقاد التي لم يختلف فيها أهل السنة قطعية في دلالتها ومن ها هنا لم يسُغ الخلاف فيها .
    _ مسألة :-ما من إجماع إلا وهو مستند إلى نص ولم يخالف في ذلك إلا فرقة شاذة كما قاله الآمدي , لكن لا يشترط في الاحتجاج بالإجماع أن يعرف مستنده وإنما يكفي ثبوت الإجماع فإن عرفنا مستنده كان أكمل .
    _ مسألة : -أول من خالف في حجية الإجماع هو النظام المعتزلي وتبعه من تبعه , كما أفاده ابن قدامة في ( روضة الناظر ) وابن عبد البر في ( جامع بيان العلم وفضله ) , وقد أخطأ خطأً كبيراً من ظن أن الإمام أحمد إمام أهل السنة لا يرى حجية الإجماع وذلك أنه رحمه الله تعالى قد حكى الإجماع في مسائل كثيرة :
    _ كما حكى الإجماع على أن الدم نجس .
    _ وحكى الإجماع على أن أطفال المؤمنين في الجنة .
    _ وحكى الإجماع على أن الميت ينتفع ببعض أعمال الحي .
    _ وحكى الإجماع على أن الاعتكاف سنة . الخ
    فإن قيل على ماذا توجه كلمة الإمام أحمد لما قال : " من ادعى الإجماع فهو كاذب " فيقال : أحسن ما يحمل عليه , ما ذكره بعض الحنابلة من أن هذا محمول على من ليس أهلاً لحكاية الإجماع فتعجَّلَ وحكى الإجماع , وهذا ظاهر كلام ابن القيم في ( أعلام الموقعين ) وهو أحد توجيهات أبي يعلى في كتاب ( العدة ) .

    المقدمة الثالثة

    مذهب الصحابي حجة وكل دليل يدل على حجية الإجماع يدل على حجية مذهب الصحابي إذ القول بحجية مذهب الصحابي مشروط بشرطين : -
    الشرط الأول :-أن لا يخالف نصاً من كتاب أو سنة .
    الشرط الثاني :-أن لا يخالفه صحابي آخر .
    وهذان الشرطان مجمع عليهما .
    فإذا لم يخالف الصحابي صحابياً آخر فإن قوله يكون حجة لأنه صورة من صور الإجماع , وقد ذكر الإمام ابن القيم في كتابه ( أعلام الموقعين ) ستة وأربعين دليلاً على حجية قول الصحابي .
    _ مسألة : -كثيراً ما يشكل هل هذا القول مخالف للنص أم ليس مخالفاً له وإنما من باب بيان النص كتخصيص العام وتقييد المطلق وتبيين المجمل .
    والضابط في التفريق بين المخالفة التي ليست من باب البيان والمخالفة والتي هي من باب بيان النص وتفسيره هو: أن ينظر هل خالف هذا الصحابي صحابي آخر أو لا ؟
    فإن لم يخالفه صحابي آخر فهذا من باب تفسير النص وبيانه , كأن يكون تخصيصاً لعام أو تقييداً لمطلق أو تبييناً لمجمل أفاد هذا الضابط ابن القيم – رحمه الله – في كتابه ( أعلام الموقعين ) واستدل على هذا الضابط بقوله تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} , وجه الدلالة : أنه لو كان قول الصحابي مخالفاً للنص من كل وجه لكان تعبداً لله بخلاف ما يريد الله وهذا منكر من هذا الوجه فلابد أن يوجد من ينكر عليه من الصحابة ومحال أن يُنقل القول المنكر دون القول المعروف .
    أمثلة :-
    وعلى هذا التأصيل أمثلة كثيرة :-
    المثال الأول : -ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من مات وعليه صيام , صام عنه وليه " وثبت عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه خصصه بصيام النذر وعموم النص يقتضي أن يكون لكل صيام , لكن لمّا أفتى ابن عباس بأنه في صيام النذر صار خاصاً به وهذا من تخصيص الصحابي للنص العام .
    المثال الثاني : -قال الله عز وجل: { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر }, ظاهر هذه الآية أنه يقضي فقط من غير إطعام لو أخَّر القضاء إلى رمضان الذي بعده , وقد ذهب جمع منالصحابة إلى أنه إذا أخره إلى رمضان الذي بعده فإنه يطعم , ثبت هذا عن أبي هريرة وغيره .
    المثال الثالث : -ظاهر الآية السابقة أنه لا يفرق بين المفرِّط ولا غير المفرِّط فمن أخَّر القضاء إلى رمضان الآخر , وثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه فرَّق بينهما , وفي كلا هذين المثالين أي الثاني والثالث قول الصحابي خصص العام .
    المثال الرابع : -استحبت الشريعة صيام التطوع كيوم الاثنين والخميس ويوم عاشوراء وعرفة , وظاهر النصوص لم تشترط أن لا يكون بقي عليه شيء من الفرض , وثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه كما عند عبد الرزاق أنه قال : " إبدأ بما فرض الله " , فعليه لا يصح أن يصوم نفلاً وعليه فرض لم يقضِه .
    المثال الخامس :-بيَّن القران والسنة نواقض الوضوء , ومما لم يذكر في القران والسنة : أن خروج الدم الكثير وكذا القيء الكثير ناقض , لكن أفتى بذلك صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كابن عمر رضي الله عنهما وغيره .
    المثال السادس : -بينت الأدلة من الكتاب والسنة نواقض الوضوء , ولم تذكر من نواقض الوضوء تغسيل الميت , وقد ثبت عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كما عند عبد الرزاق أنه أوجب الوضوء على من غسَّل الميت .قال ابن قدامة في المغني: ليس له مخالف .
    المثال السابع : -ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر المواقيت الأربعة قال : " هنَّ لهنَّ ولمن أتى عليهنَّ من غير أهلهنَّ ممن أراد الحج أو العمرة " مفهوم المخالفة من هذا النص أن من أراد دخول الحرم ولم يُرِد الحج أو العمرة فإنه يدخل حلالاً من غير إحرام , لكن ثبت عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كما عند الشافعي وغيره : أنه كان يَرُدّ من أراد أن يدخل الحرم ولو كان حلالاً غير مُحرِم . قال ابن تيمية في " شرح العمدة " : " وليس لابن عباس مخالف "
    فعلى هذا يقال: إنه ليس للحديث مفهوم مخالفة لأمرين:
    الأمر الأول :-أن هذا المفهوم خرج مخرج الغالب وقد أجمع العلماء على أن ما خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له كما ذكر شيخ الإسلام .
    الأمر الثاني :-أن هذا المفهوم في حديث ابن عباس مخالف للمنطوق من قول ابن عباس , وإذا عارض المنطوق المفهوم قُدِّم المنطوق .
    المثال الثامن :-ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء " ظاهر هذا النص أنه للتحريم لكن ثبت عند ابن أبي شيبة عن البراء بن عازب رضي الله عنه : أنه استيقظ من النوم فغمس يده في موضئته قبل أن يغسلها . فدل هذا على أن النهي ليس للتحريم .
    المثال التاسع :-أجمع العلماء على أن استقبال القبلة بالبدن شرط لصحة الصلاة قال تعالى: { فول وجهك شطر المسجد الحرام }, وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم : " إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر " الحديث , دلت الآية والحديث على أن من لم يستقبل القبلة ببدنه ولو قليلاً تبطل صلاته , وثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أرعف في الصلاة ثم خرج وتوضأ ثم رجع وبنى على صلاته ولم يتكلم . قال الطحاوي : " وليس لابن عمر مخالف ". وإلى هذا القول ذهب أبو حنيفة وأحمد في رواية.
    _ مسألة :-ولقائل أن يقول إننا إذا جعلنا قول الصحابي حجة فقد جعلناه بمنزلة الكتاب والسنة أي أنه مصدر معصوم , ولازم هذا أنه لا يخطئ , وقد تقرر أن الصحابي قد يخالفه صحابي آخر فيكون أحدهما مخطئاً ولو كان الصحابي معصوماً لما قال قولاً مخالفاً للحق ولما اختلف الصحابة , وهذا من أقوى ما تمسك به القائلون بأن قول الصحابي ليس حجة وكثير منهم من المتكلمين .
    والجواب على هذا أن يقال : إن القول بحجية مذهب الصحابي ليس معناه أنهم حجة لذاته فليس قول الصحابي حجة لذاته وإنما لما انضاف إليه من أن قوله الذي لم يخالفه فيه صحابي آخر هو صورة من صور نقل إجماعهم فرجعت الحجية إلى إجماعهم لا إلى ذواتهم وأفرادهم . أفاد هذا الإمام ابن القيم في كتابه " إعلام الموقعين " وهو رد على ابن حزم وعلى بعض المتكلمين كالغزالي .
    تنبيه :-حجية قول الصحابي من باب الظن الغالب ويتفاوت في درجة هذا الظن الغالب لكن أقله أقل الظن الغالب وقد يصل إلى درجة القطع بحسب القرائن .
    مسألة :-إذا اختلف الصحابة في مسألة على قولين أو أكثر فنرجح بين أقوالهم بأن نأخذ الأشبه بالكتاب والسنة والقياس الصحيح فإن الحق في أحد أقوالهم ولا يتعداهم إلى غيرهم . ذكر هذا الشافعي والإمام أحمد , مع التنبه إلى أن الخلاف بينهم قليل فالأصل في أقوالهم أنها غير مختلفة لذا إذا استطعت أن تجمع بين أقوالهم بأن لا يكون بينهم خلاف هو أولى من إثبات الخلاف بينهم . أفاد هذا ابن تيمية في " شرح العمدة " وأشار إليه ابن قدامة في : " المغني " .
    أمثلة على اختلاف الصحابي:
    المثال الأول :اختلف الصحابة في زكاة الحلي المستعمل من الذهب والفضة فذهب خمسة من الصحابة إلى أنه لا زكاة في الحلي المستعمل كعائشة وأسماء وأنس وجابر وابن عمر وخالف اثنان من الصحابة وهما عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم جميعاً فلابد من الترجيح بين هذين القولين .
    _ والأشبه بالكتاب والسنة – والله أعلم – هو قول الخمسة , وذلك أن هدي الشريعة وطريقتها : أن ما أُعِدَّ للاستعمال والقُنْية لا زكاة فيه كدابَّة الرجل ومنزله وهكذا , وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ليس على المسلم في عبده وفرسه صدقة " , والحلي المستعمل هو من جنس ما اتخذ للقنية فعليه لا يزكى .
    المثال الثاني :-اختلف الصحابة في صلاة الرواتب في السفر على قولين :
    القول الأول :تصلى الرواتب مطلقاً سواء راتبة الليل أو النهار , وهذا قول جماهير الصحابة كابن عباس وغيره.
    القول الثاني :تصلى راتبة الليل دون راتبة النهار وهذا قول عبد الله بن عمر .
    _ والأشبه بالسنة هو القول بأنها تصلى راتبة الليل والنهار مطلقاً في السفر لأنه على قول عبد الله بن عمر لا تصلى راتبة الفجر , وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلاها في سفر كما في حديث أبي قتادة في " صحيح مسلم " وحديث أبي هريرة في " صحيح مسلم " , فعليه تكون السنة صلاة الرواتب مطلقاً في السفروعلى هذا أئمة المذاهب الأربعة .
    والقول بأنها تصلى راتبة الفجر دون بقية الرواتب قول محدث بعد الصحابة .
    المثال الثالث :-اختلف الصحابة عند قضاء الحاجة في استقبال القبلة واستدبارها , والذي رأيته ثابتاً عنهم قولان :
    القول الأول :-أن الاستقبال والاستدبار لا يجوز في البنيان والصحراء كما هو قول أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه .
    القول الثاني :-أنه جائز في البنيان دون الصحراء كما هو قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما , والأشبه بالسنة هو قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بال مستدبر القبلة في البنيان , أما من فرق بين الاستقبال والاستدبار إلى آخر الأقوال الثمانية فهي – فيما رأيت – محدثة بعد الصحابة .
    مسألة :-إذا اختلف الصحابة ولم نقف على دليل يرجح قول أحدهم فإنه إذا كان في أحد المختلفين أحد من الخلفاء الراشدين فإن قول أحد الخلفاء الراشدين مقدَّم على قول بقية الصحابة , لما ثبت عند الترمذي وغيره من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ " وقول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما مقدم على قول عثمان وعلي رضي الله عنهما , لما ثبت في " صحيح مسلم " من حديث أبي قتادة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن يطع الناس أبا بكر وعمر يرشدوا " , ذكر هذا التفصيل الإمام ابن القيم في كتابه ( إعلام الموقعين ) , وذكر نحواً منه الإمام ابن رجب في كتابه ( جامع العلوم والحكم ) , ونص الإمام الشافعي والإمام أحمد على تقديم قول الخلفاء الراشدين على غيرهم .
    أمثلة :-
    المثال الأول :-اختلف الصحابة على قولين في قراءة الجنب للقران من حفظه فذهب ابن عباس كما هو معلق في ( صحيح البخاري ) إلى أن الجنب يقرأ القران قال : " لا بأس للجنب أن يقرأ القران " وخالفه عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما عند البيهقي في كتابه ( الخلافيات ) بإسناد صحيح , وهذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما خرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح قال : " أما الجنب فلا ولو آية " .
    والصواب في هذه المسألة عدم قراءة الجنب لأنه قول بعض الخلفاء الراشدين.
    المثال الثاني :-اختلف الصحابة على قولين في قتل الساحر :
    القول الأول :-أن الساحر يقتل مطلقاً من غير استتابة وهذا قول عمر كما خرجه أبوعبيد في كتاب ( الأموال ) وهو قول جندب الخير , كما رواه البخاري في ( التاريخ الكبير ) وهو قول حفصة .
    القول الثاني :-أن الساحر لا يقتل ونَسَبَ الشافعيُّ هذا القول إلى عائشة رضي الله عنها وأرضاها , كما أخرجه عبد الرزاق .
    والصواب أنه يقتل من غير استتابة لأن هذا قول عمر وهو من الخلفاء الراشدين.
    فائدة :-من اعتبار فهم السلف اعتبار أقوال وأفهام التابعين فإنه إذا كان أرفع ما في الباب قول التابعين , ُقدِّم قولهم واحتُجَّ به , ويدل على هذا صنيع الإمام أحمد في الفقه في مسائل كثيرة , وقد قال الإمام الشافعي : " قلت في هذه المسألة تقليداً لعطاء " , ونسب الإمام ابن القيم هذا القول _ أي الاحتجاج بفهم التابعين في تفسير القران _ إلى الإمام الشافعي والإمام أحمد , والقول بحجية قول التابعين إذا لم يُعلم بينهم خلاف قول صحيح وذلك أن كل دليل يدل على حجية الإجماع يدل على هذا , وأيضاً كل دليل يدل على عدم إحداث قول جديد يدل على هذا , وذلك أن من أراد أن يخالف قول التابعين في مسألة فقهية أو غيرها من مسائل الدين يطالب بالسلف أي بسلفه فيما اختاره من قول مخالف لهذا التابعي فإنه إن لم يُثبِت ذلك وقع في قول محدث , ومما يدل على عدم جواز الإحداث في الدين هو كل دليل يدل على حجية الإجماع , وكذا كل دليل يدل على حرمة الإحداث في الدين , وقد استدل شيخ الإسلام ابن تيمية على عدم جواز الإحداث في الدين بما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " .
    أمثلة:-
    المثال الأول:ذهب الإمام مجاهد بن جبر رحمه الله إلى أن تفسير قوله تعالى : { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا }. قال : المقام المحمود هو : إقعاد الله نبيه صلى الله عليه وسلم معه على العرش . وقد صحح هذا الأثر الإمام ابن تيمية كما في كتاب ( درء تعارض العقل والنقل ) , والذهبي في كتاب ( العرش ) بل قالوا : هو ثابت عن مجاهد بلا شك .
    وصنيع الأئمة يدل على تصحيحهم لهذا الأثر كالإمام أحمد وابنه عبد الله وغيرهما .
    ومجاهد ليس له مخالف من التابعين ولا من بعدهم من أئمة السنة الأولين, كما حكى الإجماع جمع من الأولين من أئمة السنة فعليه يكون قول مجاهد حجة.
    تنبيه :تفسير مجاهد المقام المحمود بإقعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ربه على العرش لا ينافي تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم المقام المحمود بالشفاعة إذ هو يشفع ويقعد على العرش فيقعد على العرش ثم يشفع صلى الله عليه وسلم كما يستفاد من كلام ابن جرير أنه لا تنافي بينهما , ومن كلام الشيخ محمد بن إبراهيم في " فتاواه ".
    المثال الثاني : دلت السنة على اشتراط الموالاة في الوضوء كما ثبت عند الإمام أحمد وأبي داود من حديث خالد بن معدان عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم "رأى رجلاً يصلي وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء فأمره النبي صلى الله عليه و سلم أن يعيد الوضوء والصلاة "
    تنازع العلماء في مقدار هذه الموالاة :
    _ منهم من قال إنها تقدر بالعرف .
    _ ومنهم من قال إنها تقدر بمقدار " أن لا يجف العضو الذي قبله " وهو الصواب لأنه قول قتادة –رحمه الله-.
    مسألة :ضعُفَ في هذا الباب الذي هو فهم الصحابة والسلف طائفتان :
    الطائفة الأولى : أهل الرأي واشتهر هذا الإطلاق على حماد بن أبي سليمان وأبي حنيفة وعلى الحنفية عموماً , وضعْفُ أهل الرأي في هذا الباب بسبب جهلهم بالآثار فتوسعوا في القول بالرأي .
    والرأي قسمان :
    القسم الأول :رأي مذموم , وهو الرأي المخالف للدليل من الكتاب والسنة أو فهم السلف ...الخ
    القسم الثاني :الرأي المحمود وهو الرأي الذي يؤيد الشرع من الكتاب والسنة أو الرأي الذي يقال في النوازل والمسائل التي ليس فيها دليل منصوص من الكتاب والسنة أو غيرها من الأدلة , هذا ملخص ما أفاده ابن تيمية في كتابه ( بيان الدليل في بطلان التحليل ) .
    الطائفة الثانية :وهم أهل الظاهر وإمام هذا المدرسة : داود بن علي الظاهري , وأكثر وأقوى من أشهرها ابن حزم لا سيما في كتابه ( المحلى ) وكتابه ( أصول الأحكام ) , وهذه المدرسة شدد السلف التحذير منها في الفقه ثم في الاعتقاد على داود وابن حزم , إلا أن خطأهم في الاعتقاد لا تمثله المدرسة الظاهرية فهو أخطاء أفراد وأساس أخطائها هو في باب الفقه , والسلف حذروا من الظاهرية في هذا الباب كما حذروا من أصحاب الرأي المذموم .
    _ وتحذير السلف منهم يرجع إلى أمور :
    الأمر الأول :الجمود على الظاهر وعدم النظر في المعاني , وهم بهذا جعلوا المقصود تبعاً والمتبوع قصداً , وذلك أن الألفاظ قوالب للمعاني والمعنى هو المقصود واللفظ مراد لغيره وهو بيان المعنى , حتى من تكلفاتهم في هذا الباب أن ابن حزم يقول : " لولا ما جاء من النصوص من الأمر بالإحسان إلى الوالدين لكان قوله تعالى : ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ الإسراء: ٢٣لا يدل على منع ضرب الوالدين وإنما على حرمة قول " أف " وحده " .
    تنبيه :ليس المذموم التمسك بالظاهر فإن أهل السنة مجمعون على التمسك بظاهر النص وأنه حجة ولهذا شنعوا على أهل التأويل , وإنما المذموم هو الجمود على الظاهر بحيث إنه إذا تبين أن النص يدل على معنى , ترك المعنى الذي يدل عليه النص وجمد على ظاهر اللفظ . ذكره ابن القيم في ( إعلام الموقعين ).
    الأمر الثاني :عدم اعتدادهم بفهم السلف , وهذا من أشد ما عند الظاهرية بل ترى ابن حزم يصرح بأنه لا خلاف بين الصحابة ثم بعد ذلك يخالف , ومن آثار هذا الأصل عندهم أنهم جوزوا إحداث قول جديد كما أن هذا هو مذهب داود والظاهرية من بعده كابن حزم , وقد أنكر هذا عليهم ابن رجب في ( فضل علم السلف على علم الخلف ).
    الأمر الثالث :عدم اعتداداهم بالقياس الصحيح , وأول من أنكر حجية القياس هو النظام المعتزلي كما ذكره ابن عبد البر في ( جامع بيان العلم وفضله ) وإلا فإن علماء الصحابة والتابعين لهم بإحسان مجمعون على الاحتجاج بالقياس كما نقل الإجماع المزني وغيره , وأدلة حجية القياس الصحيح كثيرة . ذكر هذا الإمام ابن القيم في كتابه ( إعلام الموقعين )
    وبسببه قال النووي : " لا يعتد بخلاف الظاهرية " , وهذا فيه نظر -كما سيأتي – أي في سبب عدم الاعتداد بخلافهم .
    تنبيه:شغّب الظاهرية على دليل القياس بأمور أشهرها أمران وطريقتان:
    الطريقة الأولى :أن الله أمرنا بالرجوع إلى الكتاب والسنة قال تعالى: { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } , ولم يأمرنا بالرجوع إلى غيرهما كالقياس وغيره .
    والجواب على هذا أن يقال : إن الذي أمرنا بالرجوع إلى الكتاب والسنة هو الذي أمرنا بالقياس , وذلك أن كل ما دل عليه الكتاب والسنة فهو حجة ومن ذلك القياس الصحيح لقوله تعالى: { فاعتبروا يا أولي الأبصار }, وكقول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما : " أن امرأة قالت : يا رسول الله إن أمي نذرت أن تحج ولم تحج حتى ماتت أفأحج عنها ؟ قال : أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته ؟ أقضوا الله فالله أحق بالوفاء " في هذا الحديث استعمل النبي صلى الله عليه وسلم دليل القياس .
    ثم إن لازم استدلال الظاهرية في رد الاحتجاج بالقياس الصحيح بقولهم إن الحجة في الكتاب والسنة فحسب د الاحتجاج بالإجماع وهذا من أقوال أهل البدع كما تقدم ذكره .
    الطريقة الثانية:النصوص الكثيرة عن السلف في ذم الرأي والقياس كما أخرج ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله عن ابن سيرن : أول من قاس إبليس وإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس . يريد قول إبليس : { خلقتني من نار وخلقته من طين } "
    والجواب على هذا أن يقال : إن إنكار السلف حق وهو إنكار للرأي المذموم والقياس الفاسد لا مطلق الرأي والقياس , إذ هم احتجوا بالقياس في مواضع كثيرة .
    الأمر الرابع:التوسع في الاستصحاب أي البراءة الأصلية فكثيراً ما يتوسع الظاهرية في هذا لذا كثيراً ما يردد ابن حزم: { وما كان ربك نسيا } , ذكر هذا الوجه ابن القيم في ( إعلام الموقعين )
    تنبيه :الاستصحاب حجة , فليس المذموم الاحتجاج به وإنما المذموم التوسع في الاحتجاج به فيقتصر الظاهري على دليل الكتاب والسنة وما عدا ذلك يرده احتجاجاً بالاستصحاب فسبب التوسع المذموم في الاستصحاب أي البراءة الأصلية هو إسقاطهم لدليل القياس وغيره من أدلة الشرع فإذا عارضت الظاهرية بدليل القياس الصحيح أو بفهم السلف أو بمعنى النص رد عليك بقوله تعالى: { وما كان ربك نسيا } .
    الأمر الخامس :جعلهم الأصل في الشروط في باب المعاملات هو الحظر فعليه لا يقبلون شرطاً في باب المعاملات كالبيوع إلا بشرط منصوص في الشرع وإلا جعلوه شرطاً ملغياً وهذا خلاف ما عليه الأمة قبلهم من أن قاعدة المعاملات هي : " أن كل شرط ومعاملة هي على الحل ولا يمنع شيء من ذلك إلا إذا خالف النص " أي جاء النص بإلغائه أو منعه , ذكر هذا الإمام ابن القيم في ( إعلام الموقعين ) .
    الأمر السادس :توسعهم في العموم , فالعموم حجة بالإجماع وليس المذموم الاحتجاج بالعموم وإنما المذموم هو التوسع في الاحتجاج بالعموم فيقدمون العموم على السنة التركية وهو ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم أو صحابته من العبادات مع توفر الدواعي وانتفاء الموانع .
    لهذه الأسباب والأمور الستة صار مذهب الظاهرية مذهباً مذموماً في باب الفقه , ومما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في المجلد الخامس من ( منهاج السنة ) : " كل قول تفردت به الظاهرية فهو خطأ " وذلك أنهم إذا انفردوا بقول فقد صار قولهم قولاً محدثاً لأن الظاهرية متأخرون , وقد أشار إلى هذا الوجه ابن رجب في ( شرحه على البخاري " .

    المقدمة الرابعة

    التقليد : وهو أخذ قول العالم من غير معرفة لدليله.
    وهو في الأصل مذموم إذ الأصل أننا مطالبون باتباعالدليل لقوله تعالى: { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول }, وقوله : { ماذا أجبتم المرسلين }.
    والناس في هذا الباب على طرفي نقيض, هذا من حيث الجملة:
    _ فطائفة حرمت التقليد مطلقاً.
    _ وطائفة أوجبته حتى أغلقت باب الاجتهاد.
    فالطائفة الأولى هم الظاهرية ومن تأثر بهم.
    والطائفة الثانية هم متعصبة المذاهب .
    _ والوسط الذي عليه أئمة السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان أن حكم التقليد يختلف باختلاف الناس:
    _ فتارة يحرم , وهذا هو الأصل .
    _ وتارة يجوز.
    _ وتارة يجب.
    أما الصورة التي يجب فيها فهو في حق العامي الذي لا يستطيع إدراك الدليل ووجه الدلالة قال الله فيهم : { فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } .
    أما الصورةالتي يحرم فيها التقليد فهو لمن استطاع معرفة الدليل وبانت له الحجة فليس له أن يدع البرهان والدليل لقول أحد كائناً من كان وهذا بإجماع أهل العلم , قال الشافعي :" أجمع العلماء على أن من استبانت له سنة النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد كائناً من كان "
    أما الصورةالتي يجوز فيها التقليد فهو لمن كان عنده آلة اجتهاد ولكن ضاق عليه الوقت ولم يتيسر له النظر في المسألة فإنَّ له أن يقلد فيها , هذا ملخص ما قرره ابن عبد البر في ( جامع بيان العلم وفضله ) وابن القيم في كتابه ( إعلام الموقعين ) .
    تنبيهان :
    التنبيه الأول :الناس من حيث الجملة مع النص والدليل أقسام ثلاثة :
    القسم الأول :أهل الاجتهاد وهم الذين ينظرون في الأدلة ويرجحون بقواعد أهل العلم وعندهم آلة الاجتهاد , وهذا القسم هو أعلى هذه الأقسام وأفضلها , قال تعالى:{ لعلمه الذين يستنبطونه منهم }.
    القسم الثاني :أهل الإتباع وهم الذين يأخذون بقول العالم مع معرفة دليله من غير نظر وترجيح بين الأدلة .
    القسم الثالث :هم أهل التقليد وهم الذين يأخذون قول العالم الذي يثقون به من غير نظر في دليله , وهذا القسم الثالث ليس عالماً بالإجماع كما قاله الإمام ابن عبد البر , ولو عرف جميع أحكام الشرع.
    فائدة :لا فرق في التقليد بين المسائل الفقهية والمسائل العقدية والذين فرقوا بينهما هم المتكلمون لا سيما الأشاعرة الذين حرَّموا التقليد في باب الاعتقاد بل منهم من كفَّر المقلد في بعض مسائل الاعتقاد , والصواب أنه لا فرق بينهما وأن الشريعة واحدة في باب الاعتقاد والفقه , وهذا ما قرره ابن تيمية في كتابه ( النبوات ).
    _ وأخطأ بعض أهل السنة وظن حرمة الاعتقاد بغير دليل في مسائل أصول التوحيد , واستدل بأن الكافر يقول في قبره إذا سئل عن ربه ونبيه وفي رواية المنافق يقول : " هاه هاه سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته " قال : فدل هذا على وجوب معرفة الدليل في أصول مسائل التوحيد وأن التقليد فيها محرم , وهذا الذي قرره خطأ مخالف لما عليه أهل السنة وما ظنه دليلاً لا دلالة فيه , وذلك لما يلي :
    الأمر الأول :أن مقتضى هذا الدليل أن المقلد في هذه المسائل يكون كافراً لا آثماً وهذا خلاف ما قرره من أنه يكون آثماً لا كافراً.
    الأمر الثاني :أن سبب الإجابة في القبر في هذه المسائل الثلاث ليس العلم أو عدمه ولا إدراك الدليل أو عدمه
    وإنما توفيق الله له بسبب إيمانه وإسلامه , لذا لو أن كافراً حفظ الأدلة قبل أن يموت لم يستطع الإجابة .
    التنبيه الثاني :الاجتهاد لا يحدد بزمن لأن الشريعة دعت إليه ولم تحدد له زمناً فمن زعم أنه انغلق باب الاجتهاد في قرن كذا , أوفي قرن كذا فقد قال ما ليس له به علم وادعى ما لا دليل عليه , ثم إن لازم هذا الدور وذلك أن أول من قال بإغلاق باب الاجتهاد قوله هذا اجتهاد فهو اجتهد بأن حكم بأن الاجتهاد انغلق بابه وانتهى زمانه فعلى هذا اجتهد وليس أهلاً للاجتهاد .
    _ ثم إن الاجتهاد يتجزأ وهذا هو قول المحققين من علماء الأصول ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم فقد يكون الرجل مجتهداً في مسائل دون مسائل وأبواب دون أبواب والشرط لكل مجتهد أن تكون عنده آلة اجتهاد وهو أصول الفقه.

    المقدمة الخامسة:

    العلم مر بمراحل , كان في السابق كتاباً وسنة وبعد وقت الصحابة صار كتاباً وسنة مع أقوال الصحابة , وبعد وقت التابعين صار كتاباً وسنة وأقوال الصحابة والتابعين , فهو في ازدياد وكل ازدياد للعلم تصعيب للعلم , وهذا الازدياد من حيث الجملة نوعان :
    النوع الأول:علوم آلة ووسائل لإدراك العلم , كعلم اللغة , وأصول الفقه , ومصطلح الحديث , ثم مع مرور الأيام أُدخِل في علم أصول الفقه ومصطلح الحديث ما ليس منه لا سيما علم أصول الفقه , فقد كثُرت فيه المباحث الكلامية .
    النوع الثاني :أقوال لأهل العلم , إذ الحق والصواب واحد , وكل ما زاد على هذا القول الواحد فهو مما أُدخِل في العلم , وسبب زيادة الأقوال أن العلماء يتفاوتون في مداركهم , وأنه كلما بعُد عن نور النبوة وعصر النبوة قلّ هذا النور فيلتبس الحق , فيقول العالم قولاً خلاف الحق , وهذا معنى القول المأثور عن علي رضي الله عنه : " العلم نقطة كثرها الجاهلون " .
    وفي مقابل هذا كله ضعفت المدارك من الحفظ والفهم , فقد كان العرب الأوائل أهل حفظ وأهل فهم , هذا بطبيعتهم كيف وقد ازداد في حق الصحابة والتابعين الهداية بنور الوحي فسهل الله عليهم تسهيلاً شرعياً لإدراك العلم الشرعي .
    ويستفاد من هذا عدة فوائد :
    الفائدة الأولى :أن العلم قد مر بمراحل .
    _ منها أنه لم يكن العلم إلا كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم , ثم ازداد فانضاف إليه كلام الصحابة , ثم ازداد فانضاف إليه كلام التابعين , ثم ازداد فانضاف إليه كلام أتباع التابعين , ثم ازداد فدونت المسائل وهو أن يُسأل العالم فيجيب فكثرت هذه المسائل فصعبت الإحاطة بها فاختُصرت هذه المسائل إلى أن وصل العلم في باب الفقه إلى متون مختصرة .
    وفي باب العقائد ازداد الكلام في مسائل العقائد بسبب المخالفين , فكلما بعُد الزمان والعهد عن الزمن الأول كثرت البدع واشتدت فاحتاج العلماء للرد على هذه البدع وتأصيل قول أهل السنة في بيان خطأها , بالإضافة إلى أنه قد يزِل عالم سنة في باب الاعتقاد فيجتهد العلماء في بيان خطأه حتى لا يتبع , وقد يكون له أتباع فيكثر الرد عليهم , فعليه اتسع كلام أهل العلم في باب الاعتقاد فدونت كتب السنة وهي التي تجمع كلام أئمة السلف في مسائل الاعتقاد إلى أن دونت هذه المتون المختصرة كلمعة ( الاعتقاد ) , ( والواسطية ).
    فعلى هذا إذا أراد طالب علم أن يدرس العلم سواء في باب الاعتقاد أو الفقه أو غيرهما فعليه أن يعرف مراحل وصول العلم إلينا فيسلك الجادة التي سلكها العلماء بأن يدرس المتون الفقهية بدليلها ثم يترقى إلى أن يجتهد فينظر في الأقوال وفي الأدلة , ومن طالبَ طلاب العلم بأن يتركوا دراسة هذه المتون سواء في باب الاعتقاد أو الفقه فقد أضر بهم وذلك لأمرين :
    الأمر الأول: أنه لم يراع كثرة العلم عن ما كان عليه .
    الأمر الثاني:أنه لم يراع ضعف مدارك الناس وأنها ضعفت عن ما كان عليه الأولون , لذا كثيرٌ ممن يخالفون جادة أهل العلم المسلوكة في دراسة العلم ضعُف في تحصيل العلم .
    الفائدة الثانية :أن ما أُحدث من مدارس وقاعات , وعند الأولين من الرباط لتعلم العلم ليس من البدع , ومن ذلك ذكر الشروط والأركان والواجبات والمستحبات في مسائل الفقه , ومن ذلك تقسيم كتب الفقه إلى أبواب وفصول بل وتدوين العلم وكتابته سواء كان من كلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان أو مسائل الفقه .
    والسبب في عدم كون هذه من البدع أنه يشترط في الحكم على وسيلة بأنها بدعة أمران :
    الأمر الأول :أن يكون المقتضي موجوداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم .
    الأمر الثاني :أن لا يكون هناك مانع يمنع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من اتخاذ هذه الوسيلة .
    فإذا اجتمع هذان الأمران فإن اتخاذ هذه الوسيلة التي لم يتخذها النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه يكون من الوسائل البدعية , وإذا اختل أحد هذين الأمرين فلا تكون هذه الوسيلة بدعة . قرر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه ( اقتضاء الصراط المستقيم ) و ( القواعد النورانية ) ومواضع من ( مجموع الفتاوى ).
    إذا تبين هذا فإن ما سبق ذكره مما زيد في العلم ليس بدعة لأن مقتضي هذا الفعل لم يكن موجوداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لسببين :
    السبب الأول :كثرة العلم .
    السبب الثاني :ضعف المدارك . وقد نص على ضعف مداركنا من جهة الحفظ الإمام ابن القيم في كتابه ( إعلام الموقعين ) والشاطبي في كتابه ( الموافقات )

    المقدمة الخامسة

    طلب علم الفقه عن طريق المتون الفقهية أنفع بكثير من طلب علم الفقه عن طريق أحاديث الأحكام وليس هذا لأن كلام الرجال أجل من كلام النبي صلى الله عليه وسلم - والعياذ بالله - وإنما لأسباب :
    السبب الأول :أن كتب أحاديث الأحكام ذكرت نوعاً واحداً من الأدلة وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم , فليس فيها ذكرٌ لدليل القران ولا الإجماع ولا القياس الصحيح ولا قول الصاحب إلخ , بخلاف المتون الفقهية فإنها ذكرت عدة مسائل وأحكام من دليل القران والسنة والإجماع والقياس الصحيح إلخ , فهي أشمل في ذكر المسائل مع التنبيه إلى أن الماتن قد يذكر قولاً مرجوحاً لظنه أنه راجح كما أن الناظر في الحديث قد يفهم فهماً مرجوحاً لظنه أنه الراجح .
    السبب الثاني :أن المتون الفقهية تذكر المسائل مرتبة , فتجمع المسائل المتعلقة بالمياه في باب المياه , وكذا المسائل المتعلقة بالزكاة في كتاب الزكاة وهكذا , أما أحاديث الأحكام فإنها ليست كذلك , فمثلاً قوله صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عند الأربعة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه :" هو الطهور ماؤه الحل ميتته " هذا الحديث فيه ذكر لأحكام مياه البحر وأحكام صيد البحر فإن هذا الحديث ذكر الأحكام المتعلقة بالمياه والأحكام المتعلقة بباب الصيد والذبائح , لذا من درس الفقه على طريقة أحاديث الأحكام فإن المسائل لا تكون مرتبة ولا واضحة كمن يدرسها على طريقة المتون الفقهية .
    السبب الثالث :أن المتون الفقهية أجمع لمسائل العلم من أحاديث الأحكام من جهة أنها تذكر مسائل كثيرة , وذلك لأن أدلة المتون الفقهية متنوعة ولأن فيها ذكراً لما أفتى به العلماء في النوازل في زمانهم .
    السبب الرابع :أن المتون الفقيهة أدق في بيان الحكم المراد , فيعبرون بقولهم يجوز وله معنى عندهم , ويقولون يستحب , وله معنى عندهم , وهكذا , بخلاف المتون الحديثية , فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر الحكم وأهل العلم يتفقهون في هذا الدليل وفي غيره من الأدلة , لذا العمل مباشرة بما ظهر من الدليل دون النظر في الأدلة الأخرى وفهم السلف لهذا الدليل هذا خطأ .
    السبب الخامس :أن المتون الفقهية مرتبة في ذكر الشروط والواجبات والمستحبات , ففي الوضوء مثلاً ذكروا فروضه ثم المستحبات , وهذا الترتيب لا يوجد في أحاديث الأحكام .
    تنبيهان :
    التنبيه الأول :كثيرٌ من الناس في دراسة المتون الفقهية على طرفي نقيض :
    الطرف الأول :غالٍ فيها , وهو المتعصب لها ويتكلف تأويل الأدلة لتوافق ما ذكر الماتن وهذا خطأ كبير وهو سبب للفتنة والهلاك .
    الطرف الثاني :وهم الجافون عن المتون الفقهية والمزهدون فيها والمعيبون لدراستها وهذا خطأ على ما تقدم ذكره , وكثيراً ما يشنع هؤلاء على الرجل إذا انتسب إلى مذهب كأن يقول : أنا حنفي , أو مالكي , أو شافعي , أو حنبلي , والتشنيع على الإطلاق لا يصح وذلك أن من انتسب إلى مذهب :
    _ من غير تعصب له .
    _ ولحاجة دعت إلى ذلك .
    بهذين القيدين فإنه لا يشنع عليه لأن هذا من باب الإخبار كما يخبر الرجل أنه من القبيلة الفلانية أو الأرض الفلانية , وقد أفاد معنى هذا الكلام شيخ الإسلام ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " ونحن في هذا الزمن – والحمد لله – لا نحتاج للانتساب إلى أحد هذه المذاهب الأربعة إلا عند مواجهة طوائف من أهل البدع يريدون التشنيع علينا بأننا أتينا بمذهب جديد فنبين أننا تفقهنا على أحد هذه المذاهب الأربعة تأليفاً للهم وللناس , وهذا ما فعله الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله .
    التنبيه الثاني :لا يصح الإفتاء والتعبد بما ذكرته المتون الفقهية , بخلاف أخذ فتوى العالم الموثوق سواءً كان حياً أو ميتاً , وذلك لأن أصحاب المتون الفقهية يكتبون ما هو راجح في مذهبهم بحسب ما يظهر لهم من أقوال أصحاب المذهب وإن كان قد يتعبد الله بخلاف ما كتب أما العالم الموثوق فإنه يذكر ما يراه راجحاً ومراداً لله ورسوله .



    يتبع إن شاء الله .

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    المشاركات
    152

    افتراضي رد: مقدمات في دراسة الفقه

    المقدمة السابعة

    عند دراسة طالب العلم للمسائل الفقهية لا بد وأن يراعي أموراً:
    الأمر الأول : فهمُ المسألة وتصورها , وهذا مهم للغاية فإنه على ما يقول علماء أصول الفقه : " الحكم على الشيء فرع عن تصوره " فإن تصور المسألة معين لإدراك الترجيح في هذه المسألة , مع التنبه إلى أن تصور كثير من المسائل هو بالنظر في كتب الفقه المطولة وبالنظر في أكثر من كتاب مطول , فإن كلام العلماء في هذه الكتب يفسر بعضه بعضا ً , ولا بد أن يكون القارئ لكلام الفقهاء دقيقاً فإن عباراتهم دقيقة , فإذا قالوا : يجوز فإنهم يعنون ما يقولون , وإذا قالوا : يستحب فإنهم يعنون ما يقولون , وهذه من مزايا كتب المذاهب الأربعة فإن أصحابها اعتنوا بها وكثرت كتبهم فإذا عبر أحدهم بلفظة : " يجوز " بدل لفظ " يستحب " فإنهم يبينون ذلك ويتعقبونه .
    الأمر الثاني :معرفة الدليل على هذه المسألة , وهذا أيضاً من أهم المهمات إذ ما لا دليل عليه ليس معتبراً , والكتب المطولة تعتني بذكر الأدلة لا سيما من أصحاب كل مذهب ويذكرون التعليل لكن عنايتهم بالدليل أكثر , أما كتب الحواشي على هذه المتون الفقهية فإنها كثيرة الاعتناء بالتعليل , ولا شك أن الاعتناء بالدليل أفضل لأن التعليل أمر مستنبط فهو اجتهادي , وكثيراً ما يلجأ إليه صاحب المذهب لنصرة مذهبه .
    الأمر الثالث : وجه الدلالة من الدليل , والمراد بذلك معرفة منزع الاستدلال بهذا الدليل , وهذا مفيد حتى إذا وقفت على وجه الدلالة استطعت إذا كنت ذا آلة واجتهاد أن توافق أو تخالف .
    الأمر الرابع :معرفة صحة ثبوت هذا الدليل سواء كان حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أو أثراً أو إجماعاً أو قياساً , وإذا لم يثبت الدليل من السنة النبوية أو الأثر بأن كان ضعيفاً فإنه لا يحتج به , وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية الإجماع على أنه لا يحتج بالحديث الضعيف .
    مع التنبه إلى أن التصحيح والتضعيف أمر نسبي في كثير منه , فقد اختلف العلماء في كثير من الأحاديث ما بين تصحيح وتضعيف ؟ فعليه من كان ذا آلة اجتهاد في التصحيح والتضعيف فليدرس الحديث والأثر ومن لم يكن كذلك فليقلد من يثق به.
    _ ومن القصور أن يشتغل الطالب في أول طلبه للعلم بالتصحيح والتضعيف فهو وإن كان مهماً إلا أن الاشتغال به في بداية طلب العلم من تقديم المفضول على الفاضل .
    ففي أول طلبه للعلم يشتغل بالتوحيد وتعلمه ويدرس الفقه وأصول الفقه سواء , ثم يدرس مصطلح الحديث وكيف يصحح الحديث أو يضعفه فإنه كما قال الإمام الشافعي : " من نظر في الحديث قويت حجته " .
    تنبيهات :
    التنبيه الأول : ليس الحق محصوراً في أئمة المذاهب الأربعة بالإجماع كما حكى الإجماع شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى , فضلا أن ينحصر الحق في أحد هذه المذاهب الأربعة .
    التنبيه الثاني :اعتني بأقوال أئمة المذاهب الأربعة ما لم يعتن بأقوال غيرهم من الأئمة في باب الفقه ومن ههنا يكون لها مزية بالنسبة لنا لأن هناك فرقاً بين قول إمام اعتنى به أصحابه وبينوا مراد بأن جمعوا بين أقواله , وبين إمام لم يعتن به , فإن الصنف الأول أي المعتنى به تقل الشواذ عنده لأن أصحابه يجمعون أقواله ويبينون المراد منها حتى لا ينسب قول شاذ إليه , ولابن رجب رسالة في هذا الصدد .
    التنبيه الثالث :فرقٌ بين قول أئمة المذاهب الأربعة وقول أصحابهم في المذاهب الأربعة , فقد يكون المذهب الحنبلي أو الشافعي مثلاً على قول , ويكون قول إمامهم مخالفاً لما قرروه في المذهب فلا يلزم من كون المذهب قرر حكماً أن يكون هذا قول إمام المذهب , على أن بعض أصحاب المذهب قد ينسب قولاً إلى الإمام أحمد أو الشافعي أو مالك وهذا القول ليس مما نص عليه وإنما استنبطوه من بقية أقواله , وبعبارة أخرى خرَّجوا هذا القول بالنظر إلى بقية أقواله ثم ينسبونه سواء هم أو من بعدهم إلى هذا الإمام , وكم نُسِبت من رواية إلى الإمام أحمد وهي في الأصل خُرِّجت من كلامه وأقواله , وهذا خطأ كما بينه شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم رحمهما الله تعالى .
    التنبيه الرابع :الأنفع لطالب العلم حتى يصل إلى الراجح بعد تأصيله في دراسة الفقه وأصول الفقه هو أن ينظر في الكتب المطولة المعتنية بالدليل وأن يحرص في نسبة الأقوال ومعرفة الأقوال بالنظر إلى أقوال أئمة الإسلام كالإمام مالك والشافعي وأحمد والثوري والليث بن سعد وغيرهم , لا أن يشتغل بكتب الحواشي على متون المذاهب الأربعة , فترى بعضهم يشغل نفسه في بيان الراجح عند المذهب وهذا وإن كان مفيداً أحياناً , لكنه في الجملة من تقديم المفضول على الفاضل , بل من المفترض أن يشتغل بالوصول إلى مراد الله ورسوله في مسائل الدين والفقه لا إلى الراجح عند أصحاب المذاهب , ولا الاشتغال بتعليلاتهم العقلية والتي قد تكون كثيراً من باب بيان دليل صاحب المذهب وإن كان المعلِّلُ نفسه قد لا يوافق على صحة هذا التعليل .
    التنبيه الخامس :ينبغي أن تتخذ المتون الفقهية على أنها فهرس لمسائل الفقه ومعنى هذا : أن يجعل المسائل التي يوردها الماتن للتذكير والتنبيه على مسائل العلم في هذا الباب , فإذا اطلع على هذه المسائل تصورها , ثم نظر في دليلها , ثم في وجه الدلالة , ثم في صحة هذا الدليل وبعد ذلك بمقتضى علم أصول الفقه وما آتى الله الإنسان من فهم لتطبيق علم أصول الفقه يتبين له رجحان هذه المسألة فيعمل بها ويدعو إليها , أو يتبين له أنها مرجوحة فلا يدعو إليها ولا يتعبد الله بها , وإنما بمعرفة أن هذه المسألة مما يسوغ الخلاف فيها يجعله يعذر مخالفه فيكون الفقيه السني وسطاً في مسائل الفقه المرجوحة في نظره , وذلك أنه لا يعمل بها وفي المقابل لا يشنع عليها وذلك لأنها مما يسوغ الخلاف فيها , علماً أن هذا هو حال أكثر المسائل الفقهية التي يوردها فقهاء المذاهب الأربعة في متونهم فهي مما يسوغ الخلاف فيه , وقد يوجد فيها ما لا يسوغ الخلاف فيه لكنه قليلٌ للغاية بالنسبة إلى ما يسوغ الخلاف فيه مما يذكره الفقهاء في متونهم .
    التنبيه السادس :المسائل المختلف فيها نوعان :
    النوع الأول :مسائل يسوغ الخلاف فيها , وهي التي تسمى بالمسائل الاجتهادية , وهي المسائل التي لا تصادم النص ولا تخالف الإجماع .
    النوع الثاني : المسائل الخلافية , وهي التي تصادم النص من كل وجه وتخالف الإجماع .
    ذكر نحواً من هذا شيخ الاسلام ابن تيمية في كتابه ( بيان الدليل على بطلان التحليل ) وابن القيم في كتابه ( إعلام الموقعين ) وابن مفلح في كتابه ( الآداب الشرعية )
    فائدة : مصادمة النص قد يكون في كثير من أحيانه بالنسبة للمجتهد نسبياً , فإذا رأى أكثر من مجتهد مسألة معينة قد يكون عند أحدهم هذه المسألة مصادمة للنص , ويقول الآخر ليست مصادمة للنص بل النص يدل عليها , ويقول الثالث : هذا الدليل لا يدل على هذه المسألة لكن المسألة ليست مصادمة للنص , وهذا كثيرٌ في مسائل العلم , لذا الذي يضبط هذا الباب هو النظر في صنيع العلماء فإن كانوا يوردون هذه المسألة في كتب الفقه ويناقشونها تأييداً أو مخالفةً ويجعلون الخلاف فيها خلافاً معتبراً فتكون هذه المسألة من المسائل التي يسوغ الخلاف فيها .
    فائدة :قد يكون في المسألة إجماع بين الصحابة وإذا نظرت في أقوال أهل العلم بعد الصحابة رأيت فيها خلافاً بل قد ترى كثيراً من كتب الفقه المعتمدة المطولة تجعل القول الذي يخالف قول الصحابي _ الذي لم يخالف _ قول الجمهور , لذا من نظر في كلام أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم فوقف على إجماع للصحابة ثم رأى أهل العلم يذكرون خلافاً في هذه المسألة فإنه يكون وسطاً , وذلك بأن يعمل بإجماع الصحابة , وفي المقابل يعذر المخالفين بأنهم لم يقفوا على هذا الإجماع فيكون إجماع الصحابة في هذه المسألة دليلاً كبقية الأدلة من كلام الله ورسوله , والدليل قد يخفى على العالم المجتهد فإذا خفي عليه ولم يعمل به وتبنى قولاً يسوغ الخلاف فيه فإنه يعذر ولا يوصف بأنه تبنى قولاً شاذاً لأنه أخذ قولاً يجعله العلماء مما يسوغ الخلاف فيه .
    أمثلة على ما تقدم ذكره :
    المثال الأول :أجمع الصحابة على أن تارك الصلاة كافر , حكى الإجماع جمع من أهل العلم كالمروزي وابن تيمية , وإذا نظرت في كتب الفقه وجدتهم يذكرون في المسألة خلافاً , بل وجدت كثيراً من أهل العلم ينسبون القول بعدم كفر تارك الصلاة إلى جماهير أهل العلم .
    المثال الثاني :اختلف العلماء : هل يشترط في استقبال القبلة استقبال عينها أم يكفي جهتها ؟ وهذا الخلاف معتبر في كتب الفقه وقد ذكر شيخ الاسلام كما في ( شرح العمدة ) وابن رجب كما في ( فتح الباري ) أنه لا خلاف بين الصحابة في أن الذي يشترط هو استقبال جهة القبلة لا عينها .
    تنبيه : سبب عدم الاحتجاج بالإجماع القديم عند من لم يأخذ به من أهل العلم في بعض المسائل يرجع في الغالب إلى أمرين :
    الأمر الأول :أنه لم يعلم بهذا الإجماع فيكون مما خفي عليه كما يخفى على كثير من أهل العلم أدلة السنة في كثير من المسائل وهذا يتضح بالنظر في كتاب ( رفع الملام عن الأئمة الأعلام ) لشيخ الإسلام ابن تيمية .
    الأمر الثاني : أنه قد تروى آثار عن الصحابة يظن بعضهم صحتها ولو صحَّت لثبت أن بينهم خلافاً لكنها لا تصح فعليه يبقى إجماع الصحابة صحيحاً كمثل مسألة كفر تارك الصلاة , روي عن ابن مسعود رضي الله عنه ما يدل على أن تاركها لا يكفر , لكن هذا لا يصح عنه , فعليه يكون الإجماع بين الصحابة صحيحاً في كفر تارك الصلاة .


    يتبع - إن شاء الله-

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    المشاركات
    152

    افتراضي رد: مقدمات في دراسة الفقه

    المقدمة الثامنة

    الأدلة الشرعية :
    _ منها ما هو مجمع عليه .
    _ ومنها ما هو مختلف فيه .
    _ وبعض الأدلة مجمع على أصلها ومختلف في بعض تفاصيلها , كدليل " سد الذرائع "
    والأدلة الشرعية متعددة ينبغي لطالب العلم أن يعرفها :
    الدليل الأول :
    كتاب الله
    وهو أصل هذه الأدلة , وقد أمر الله بطاعته في مواضع كثيرة كقوله تعالى: { يا أيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول }, إلا أن دليل القران كثيراً ما يكون حمّال أوجه أي : يحتمل أكثر من معنى , لذا جاء عن علي رضي الله عنه أنه قال لابن عباس رضي الله عنهما لما أراد أن يناظر الخوارج قال : " لا تناظرهم بالقران , فإن القران حمّال أوجه , ولكن ناظرهم بالسنة " والسبب في كون القران حمّال أوجه : أن الله جعله الأصل وجعل ما عداه مبيناً له , كما قال تعالى: { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } , والقران محفوظ , لقوله تعالى: { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون }, قال الإمام الشافعي في كتاب ( الرسالة ) : " قد حفظ الله القران وكل ما يحتاج إليه في فهم القران فهو محفوظ كالسنة " اهـ بمعناه .
    والقران كله متواتر , ومعنى التواتر في القران غير معنى التواتر عند المحدثين وعلماء المصطلح وذلك أن معناه عند القراء : ما جمع شروطاً ثلاثة :
    الشرط الأول : صحة السند ولو كان فرداً , ثبت في ( سنن سعيد بن منصور ) عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال : " القراءة سنة " وفي ( الصحيحين ) أن أبا بكر رضي الله عنه لما كلف زيد بن ثابت رضي الله عنه بجمع القران فإنه لم يثبت إلا ما ثبت سماعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , وهذا الشرط هو الشرط الأساس وما عداه فرعٌ له .
    الشرط الثاني :أن توافق لغة العرب ولو وجهاً , وهذا الشرط تبعٌ للشرط الذي قبله , وذلك أنه إذا صح الإسناد فهو _ ولا بد _ أن يوافق لغة العرب ولو وجهاً , ولا يصح لأحد أن يعترض بأن هذا مخالف للغة العرب لأن لغة العرب واسعة ولا يحيط بها إلا نبي أو رسول كما قاله الإمام الشافعي في كتابه ( الرسالة )
    الشرط الثالث :أن يوافق الرسم العثماني ولو احتمالاً , وذلك أن الرسم العثماني هو العرضة الأخيرة , أي العرضة الأخيرة التي عرض فيها جبريل القران على النبي صلى الله عليه وسلم , وكانوا إذا كتبوا يكتبون بلا تنقيط , فإذا قرأت في الرسم العثماني الذي كتبه زيد بن ثابت وجدت كتابتهم غير منقطة ولا مشكلة فمثلاً يكتبون قوله تعالى : { جزاء بما كانوا يعملون }.
    بدون تنقيط ولا تشكيل , وإذا كتبوا قوله تعالى: { وما الله بغافل عما تعملون }, فإنها تحتمل قراءة " تعملون " وقراءة " يعملون " , وهذا الشرط شرط أساس في إثبات القراءة المتواترة لا في إثبات صحة القراءة , وذلك أنه إذا صح الإسناد وخالفت القراءة الرسم العثماني صارت قراءة صحيحة يحتج بها لكن لا يصح _ على أصح أقوال أهل العلم _ أن يقرأ بها في الصلاة كقراءة ابن مسعود " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " فزاد لفظة " متتابعات " فهذه القراءة حجة لكن لا يقرأ بها في الصلاة ولا تكون قراءة متواترة , لأنها خالفت الرسم العثماني .
    فائدة : نزل القران بسبعة أحرف , وأصح الأقوال الكثيرة في الأحرف السبعة : أنها ما كانت من اختلاف العرب في لغتهم كقول " أقبل _ وهلم " فبعض العرب يقول : " أقبل " وبعضهم يقول : " هلم " هذا هو القول الثابت عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .
    وكان سبب نزول القران على الأحرف السبعة تيسير القرآن وتسهيله وذلك بأن يوافق لسان كل قوم فإن قبائل العرب تختلف في لغتها وأفصحها قريش وبها نزل القران فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم _ وكان قرشياً _ ازدادت قوة لغة قريش وضعفت بقية اللغات ولما كثر المسلمون من العجم تعلموا لسان قريش لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتكلم بلسان قومه فكان بقاء الأحرف السبعة شاقاً ومشككاً , والعلة التي من أجلها أنزل القران على سبعة أحرف قد زالت فلأجل هذا جمع عثمان رضي الله عنه القران على حرف واحد وهو لغة قريش , وهذا من فقهه العظيم رضي الله عنه , هذا ما قرره ابن جرير وغيره .
    فائدة :ليست الأحرف السبعة هي القراءات السبعة بالإجماع كما حكى الإجماع شيخ الإسلام ابن تيمية , لأن أول من جمع القراءات السبع هو أبو بكر بن مجاهد .
    فائدة :الاختلاف بين القراءات السبع اختلاف تنوع واختلاف بيان لا اختلاف تضاد كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية كما في ( مجموع الفتاوى ) .
    الدليل الثاني :
    السنة النبوية :
    والمراد بالسنة أي أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته فهي حجة وقد أمر الله باتباع نبيه في القران كثيراً , قال الإمام أحمد : في بضعٍ وثلاثين موضعاً , وقال الإمام ابن تيمية في أربعين موضعاً , ومن ذلك قوله تعالى: { يا أيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول } , وقوله: { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك في ما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما }, ويُشترط في السنَّة التي يُحتج بها أن تكون صحيحة وثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم , حكى الإجماع على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية .
    والسنة هي تفسير للقران وبيان له كما قال تعالى: { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } , ونص على هذا الإمام الشافعي في كتابه ( الرسالة ) , وقال شيخ الإسلام كما في ( العقيدة الواسطية ) : " والسنة تفسر القران وتبينه وتدل عليه " . بل ذكر غير واحد من العلماء أنه ما من حديث إلا وأصله في القران , والناس يتفاوتون في معرفة هذا .
    وبسبب كون السنة مفسرة ومبينة للقران فهي لا تكون ناسخة له كما نص على ذلك الإمام الشافعي والإمام أحمد ونصره شيخ الإسلام ابن تيمية .
    وكل ما صح من السنة يُحتج به في الدين كله في المسائل العملية وهي المسائل الفقهية وفي المسائل الخبرية وهي المسائل العقدية ولا يفرق بين خبر الآحاد ولا المتواتر في الاستدلال خلافاً لأهل البدع من المعتزلة الأشاعرة بل كل ما صح فهو حجة .
    تنبيهات :
    التنبيه الأول :معرفة صحيح الحديث من ضعيفه وأن يكون عند الرجل قدرة ومعرفة بدراسة الأحاديث هذا مطلب عظيم وهو درجة رفيعة ينبغي أن يُسعى إلى إدراكها , لكن طالب العلم في ابتداء طلبه ينبغي أن يشتغل بالأهم وهو علم التوحيد وما يحتاج إليه من الفقه وبعد ذلك يتعلم علم الحديث وعلم التصحيح والتضعيف , وبعضهم انشغل بمعرفة التصحيح والتضعيف عن التأصيل في علم التوحيد وعلم الفقه وعن أهم علوم الآلة وهو علم أصول الفقه , فصار بهذا مقدِّماً للمفضول على الفاضل .
    التنبيه الثاني :يخطئ كثيرٌ من الفقهاء وكثيرٌ ممن يكتب في الاعتقاد فيستدلون بأحاديث ضعيفة لذا ينبغي لطالب العلم أن لا يقبل أي حديث يراه في كتب الفقه ولا أي حديث يراه في كتب الاعتقاد بل لا يقبل إلا ما علم صحته , فإذا كان ذا قدرة على التصحيح والتضعيف فلا يقبل إلا ما استبان له صحته وإلا قلَّد من يثق به , وفي ظني أولى من يقلَّد في هذا الزمن هو الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني لا سيما وقد قرب الأحاديث وسهَّل الوصول إليها لمعرفة حكمها من جهة الصحة أو الضعف لكن لو تبين لطالب العلم أن الأئمة الأولين الذين هم فرسان علم الحديث قالوا قولاً وخالفهم الألباني فقولهم مقدم , كالإمام أحمد وعلي بن المديني ويحي بن معين والبخاري وأبي زرعة وأبي حاتم وأمثالهم , ولما ذكر الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في ( السلسلة ) حكم الإمام أبي حاتم الرازي على حديث , قال بعد ذلك :

    إذا قالت حَذامِ فصدقوها فإن القول ما قالت حَذامِ .

    التنبيه الثالث : لا يلزم طالب العلم في الاستدلال بالحديث أو بغيره من الأدلة أن يكون له سلف بخلاف الأحكام الشرعية فلا يقول قولاً إلا وله سلف كما تقدم بيانه لكن في المقابل ينبغي أن يكون حذِراً فإنه لا دليل يدل على أنه لا يجوز أن يستدل بدليل إلا وله سلف في ذلك فإن الأدلة كثيرة المعاني وقد يظهر لهذا ما لا يظهر لهذا كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما في ( صحيح البخاري ) : " أو فهماً يؤتيه الله من شاء " .
    التنبيه الرابع :تصحيح الأحاديث وتضعيفها أمر نسبي في كثير من صوره فمن ظهر له صحة حديث وغيره يضعفه أو العكس فلا يشنع بعضهم على بعض بالتجهيل أو التضليل لأنه أمر نسبي إلا أن بعض العلماء يُعرف بالنظر في تصحيحاته بأنه متساهل فينبغي الحذر من قبول تصحيح أمثال هؤلاء , وقد ذكر الشيخ الألباني أن السيوطي والهيثمي وأمثالهما متساهلون في باب التصحيح والتضعيف فلا يعوَّل على تصحيحهم وتضعيفهم لكن يستفاد منهم , وأيضاً يعتضد بكلامهم تبعاً لا اعتماداً .
    وذكر المعلمي في مقدمة تحقيقه لــ( الفوائد المجموعة ) للشوكاني أن كثيراً من المتأخرين متساهلون في باب التصحيح والتضعيف .
    التنبيه الخامس:
    للسنة إطلاقات :
    الإطلاق الأول :استعمال الشرع , وهو بمعنى الطريقة وقد تكون على المستحب أو الواجب , لأن الطريقة التي يسلكها النبي صلى الله عليه وسلم في عباداته ما بين واجب أو مستحب , فمثلاً طريقته في الصلاة أنه يركع فهذه طريقة واجبة , وطريقته في الصلاة أنه يقبض باليمنى على اليسرى وهذه طريقة مستحبة , والكل شرعاً يسمى سنة بإطلاق الشرع فعليه : إذا جاء في الشرع وصف هذا المأمور بأنه سنة فهذا لا يصرفه من الوجوب إلى الاستحباب لأن السنة شرعاً تطلق على الطريقة سواءً كانت مستحبة أو واجبة .
    مثال ذلك :
    جاء في الشرع الأمر بالختان , وجاء وصفه بأنه سنة من سنن الفطرة , فوصفه بأنه سنة لا يصرف الأمر من الوجوب إلى الاستحباب , وقد نبه على هذا جمع من العلماء كابن حجر في ( فتح الباري ) والشوكاني في ( نيل الأوطار )
    الإطلاق الثاني :إطلاق السنة عند الفقهاء , والمراد بها ما يقابل الواجب وهي : ما يثاب فاعلها امتثالاً ولا يستحق العقاب تاركها .
    الإطلاق الثالث :عند علماء الأصول وهو ما يقابل القرآن وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله وتقريره.
    الإطلاق الرابع :السنة عند المحدثين وهي: قول النبي صلى الله عليه وسلم وإقراره وصفته الخَلقية والخُلقية.الإطلاق الخامس:السنة عند علماء الاعتقاد وهي: ما يقابل البدعة. ومنه ما خرّج الخمسة إلا النسائي عن العرباض بن سارية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة " صحح الحديث الترمذي والبزار وأبو نعيم .
    الدليل الثالث :
    الإجماع :
    وهو من أعظم أدلة أهل السنة , وقد سبق ذكره بما يكفي إن شاء الله .
    الدليل الرابع:
    قول الصحابي : وهو أيضاً من أعظم الأدلة لأنه فرع عن الإجماع لكنه إجماع الصدر الأول , ثم من قوم لهم مزية علماً وتقىً فهم أفضل الخلق من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقد تقدم ذكره بما يكفي إن شاء الله .
    الدليل الخامس :
    القياس :
    وهو من أدلة أهل السنة المجمع عليها , وقد تقدم ذكر أدلته وبعض ما يتعلق به بما يكفي إن شاء الله في إثبات أنه دليل .
    أما حقيقة القياس وتعريفه فهو يرجع إلى أن الشريعة محكمة لا تفرق بين متماثلات ولا تمثل وتسوي بين متفرقات , هذا من جهة . ومن جهة أخرى أن للأحكام الشرعية عللاً شرع الحكم من أجلها فالحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً , والأصل أن تكون العلة في الأحكام الشرعية معلومة والأحكام التي هي غير معقولة المعنى والعلة خلاف الأصل كما ذكر ذلك ابن عبد البر في ( التمهيد ) وابن دقيق العيد في ( إحكام الأحكام ) فعلى هذا تعريف القياس هو :" إلحاق فرع بأصل في حكم لعلة جامعة بينهما ".
    من هذا التعريف يتبين أن للقياس أركانا أربعة :
    الركن الأول:الأصل .
    الركن الثاني:الفرع .
    الركن الثالث:العلة .
    الركن الرابع:الحكم, والمراد به حكم الأصل لا حكم الفرع فإنه نتيجة, ويتضح بالمثال:
    ثبت عند الخمسة من حديث أبي قتادة قال النبي صلى الله عليه وسلم في الهرة : " إنها ليست بنجس إنما هي من الطوافين عليكم والطوافات " اختلف العلماء في الفأرة هل هي طاهرة أو نجسة ؟ إذ هذا الحديث يدل على أن جميع غير مأكولات اللحم نجسة , كما ذكر ذلك الإمام الشافعي وشيخ الإسلام في ( شرح العمدة ) وإنما استثني من غير مأكولات اللحم الهرة لأنها من الطوافين علينا والطوافات , فإذا حاولنا معرفة حكم الفأرة يرجع إلى النظر إلى صحة قياسها على الهرة :
    فالركن الأول :وهو الأصل هو الهرة .
    والركن الثاني :وهو الفرع هو الفأرة .
    والركن الثالث :وهو علة الحكم الأول وهو كونها من الطوافين والطوافات .
    الركن الرابع :وهو حكم الأصل وهو طهارة الهرة .
    ينتج من النظر في أركان القياس أن الفأرة كالهرة من جهة اجتماعهما في علة كونهما من الطوافين فينتج من هذا أنهما طاهرتان. وهذا هو المسمى بالقياس .
    وبمعرفة ما تقدم يتضح أمرين :
    الأمر الأول : أنالقياس كاشف لحكم الله وليس مبتدأ حكماً كالقران والسنة .
    الأمر الثاني :أن القياس أمر اجتهادي وهو متفاوت في ظهور وخفاء صحته , فهو إذاً أمر اجتهادي يكثر الخطأ فيه , وقد ذكر الإمام أحمد أن من أكثر ما يخطئ فيه الفقيه هو القياس , فعليه لا يصار إلى القياس إلا إذا لم يوجد النص من الكتاب والسنة وقول الصحابي والإجماع , فلا يصار إليه إلا عند الضرورة إذا لم يوجد إلا هو من الأدلة , قال الإمام أحمد سألت الشافعي عن القياس فقال : " هو كالميتة لا يصار إليه إلا عند الضرورة " نقله ابن القيم في ( إعلام الموقعين ) وقرر هذا الشافعي في كتابه ( الرسالة ) , فعليه إذا خالف القياس نصاً شرعياً صار قياساً فاسداً , وهذا من أعظم شروط القياس وهو " أن لا يخالف نصاً شرعياً " ومن ذلك السنة التركية كما نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في ( الاقتضاء ). فائدة : سمى شيخ الإسلام ابن تيمية كما في ( مجموع الفتاوى ) وابن القيم كما في ( إعلام الموقعين ) القياس الصحيح بالميزان قال تعالى: { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط }
    تنبيه :يكثر في كلام العلماء أن القياس لا يدخل في العبادات ومرادهم بذلك : أي العبادات المحضة غير المعقولة المعنى أي لا تعرف علتها أما إذا عُرفت علة العبادة فإن القياس يدخل في هذه العبادة كمثل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في ( الصحيحين ) :" إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده " في رواية لمسلم ساق إسنادها دون لفظها وذكر لفظها ومتنها أبو داود في سننه أنه قال :" من نوم الليل " فمفهوم المخالفة أنه إذا استيقظ من نوم النهار ولو كان طويلاً فإنه يغمس يده بلا غسل , ومن الأدلة في رد هذا المفهوم أن يقال : إن الحديث معلَّل بعلَّة , وهذه العلَّة شاملة لنوم الليل والنهار فعليه هذا العموم المستفاد من العلة يسمى أصولياً عموماً معنوياً لأن العموم عمومان :
    1- العموم الأول في اللفظ وهو كالنكرة في سياق الشرط الخ , وله صيغ وألفاظ .
    2-الثاني العموم من حيث المعنى وهو المستفاد من العلة فكل ما يدخل في معنى العلة فهو داخل في الحكم .
    فائدة : ما من موجودين إلا وبينهما تشابه كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية كما في ( مجموع الفتاوى ) وابن القيم كما في ( إعلام الموقعين ) , فعليه ليس القياس إلحاق شبيه بشبيه على الإطلاق وإنما هو إلحاق أمر بأمر تشابها في العلة ومن ههنا قال ابن تيمية وابن القيم بعدم حجية قياس ( الشَبَه ) لأن لازم هذا أن يقاس كل شيء بكل شيء بجامع أنهما موجودان أو بجامع أنهما أشياء .

    الدليل السادس
    الاستحسان :
    وهذا دليل يذكره الأصوليون وهو من حيث الجملة أقسام ثلاثة :
    القسم الأول :استحسان شرعي ومنه قوله تعالى: { واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون } ,والمراد بهذا الاستحسان هو : العمل بما يدل عليه الدليل عند ظاهر التعارض كتقديم الخاص على العام وتقديم المطلق على المقيد والناسخ على المنسوخ وهكذا .
    القسم الثاني :الاستحسان العقلي أي المبني على العقل بلا دليل وهذا من الرأي المذموم وقد نقل الغزالي وغيره عن الشافعي أنه قال :" من استحسن فقد شر[2]ع "
    القسم الثالث :الاستحسان الوجدي أي شيء يجده الإنسان في نفسه ولا يستطيع أن يعبر عنه وهذا استحسان باطل وقد وصفه ابن قدامة بأنه هَوَس كما في ( روضة الناظر ) وأنكر هذا النوع الشاطبي كما في ( الاعتصام ).
    فائدة / وقد حقق أبو المظفر السمعاني في كتابه قواطع الأدلة دليل الاستصحاب في بحث مفيد نتيجته : أنه لا دليل يصح أن يسمى استحساناً وذلك أن هذا الدليل المسمى استحساناً يرجع إلى غيره .

    الدليل السابع :
    الاستصحاب :
    وهو أقسام ثلاثة :
    الأول :استصحاب الأصل ويسمى بالبراءة الأصلية وهذا من حيث الجملة مجمع عليه وهو : بقاء ما كان منفياً على النفي وما كان مثبتاً على الإثبات .
    الثاني :استصحاب النص وهو : استصحاب الدليل الشرعي فإن كان الدليل عاماً عمل به على عمومه وإن كان مطلقاً عُمِل به على إطلاقه .
    الثالث :استصحاب الإجماع وهو : الاحتجاج بالإجماع في صورة مجمع عليها في صورة مختلف فيها ويمثل على ذلك الأصوليون باستصحاب إجماع العلماء على بطلان التيمم عند وجود الماء خارج الصلاة ببطلانه عند وجود الماء داخل الصلاة فإن الحكم ببطلان التيمم لمن شرع في صلاته بعد وجود الماء مختلف فيه .
    وقد حقق أبو المظفر السمعاني في كتابه قواطع الأدلة دليل الاستصحاب في بحث مفيد نتيجته : أنه لا دليل يصح أن يسمى استصحابا ,ً وذلك أن هذا الدليل المسمى استصحاباً يرجع إلى غيره .
    أما القسم الأولفيرجع إلى البراءة الأصلية وإن سمي استصحاب الحال .
    والقسم الثانيفيرجع إلى العمل بالعمومات وبألفاظ الشرع , وممكن أن يقال يرجع إلى الاستحسان الشرعي .
    أما القسم الثالثفهو من حيث الأصل ليس حجة لأن هذه الصورة المتنازع فيها ليس مجمعاً عليها فالأصل أن لا يحتج باستصحاب الإجماع وإنما ينظر هل تدل الأدلة الأخرى عليه أم لا ؟ فسقط هذا القسم الثالث .
    وقد قرر قريباً من كلام أبي المظفر السمعاني الإمام ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين .
    الدليل الثامن :
    الاستصلاح :
    والمراد بالاستصلاح أي الاحتجاج بالمصالح المرسلة والمصالح من حيث العموم ثلاثة أقسام :
    القسم الأول : مصالح معتبرة وهي التي اعتبرها الشارع بنص خاص كتوثيق الديون بالشهادة والكتابة وتوثيق النكاح بشاهدي عدل قال تعالى: { يا أيها الذين ءامنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } , إلى قوله : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } , فهنا اعتبرت الشريعة كتابة الدَّين واستشهاد رجلين , أما في النكاح فقد ثبت عن عمر وابن عباس رضي الله عنهما أنهما قالا : " لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل ", فتثبيت هذه الأمور بالشهادة هو من المصالح المعتبرة لأنه ورد في إثباتها نص خاص .
    القسم الثاني : المصالح الملغاة وهي التي وَرَدَنا نص خاص بإلغائها مما ظنه الناس مصلحة , كمصلحة كسب المال عن طريق الربا كما قال تعالى: { وأحل الله البيع وحرم الربا }.
    القسم الثالث : المصالح المرسلة وهي التي لم يرد فيها دليل خاص باعتبارها مصلحة وإن كانت تدل عليها الأدلة العامة , وسميت مرسلة أي مطلقة لأنه لم يثبت دليل في اعتبارها ولا في إلغائها , وهذا الدليل دليل مهم ودقيق ويخطئ فيه كثيرون فينبغي الحذر الشديد عند تطبيق هذا الدليل .
    والأدلة على حجية المصالح المرسلة : هو كل دليل يدل على أن الشريعة قائمة على تحصيل المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها , والأدلة على ذلك كثيرة منها :
    الدليل الأول : قوله تعالى: { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم } , وجه الدلالة : أن الله نهى عن أمرٍ مطلوب في الشرع لأنه يؤدي إلى مفسدة أكبر . أفاد هذا شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه ( بيان الدليل على بطلان التحليل ) وابن القيم في كتابه ( إعلام الموقعين ).
    الدليل الثاني : ما ثبت في الصحيحين " أن أعرابياً بال في المسجد فزجره الناس فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم فلما قضى بوله أمر بذنوب من ماء فأهريق عليه " , وجه الدلالة : أن إنكار المنكر مصلحة لكن لما ترتبت عليه مفسدة أكبر نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه . ذكر هذا كثير من العلماء كالحافظ ابن حجر وغيره .
    الدليل الثالث : ما ثبت في البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لهدمتُ الكعبة وبنيتها على قواعدها الأربع ولجعلت لها بابين باباً يدخل منه الناس وباباً يخرجون منه " , وجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم تركها للمصلحة لأنه يترتب عليها جلب مفسدة أكبر .
    الدليل الرابع : العَقْد الذي عقده النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية والحديث في الصحيح من حديث المسور بن مخرمة وأنس وغيرهما , وفي هذا العَقد والصُّلح : أنه إذا جاء الرجل إلى النبي مسلماً فإنه يرده بخلاف العكس , وهذا لولا المصالح والمفاسد لكان محرَّماً لأنه مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم " أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً " لكن أجاز مثل هذا النبي صلى الله عليه وسلم مراعاة للمصلحة وذلك أنه دَرَءَ مفسدةً كبرى بمفسدة صغرى .
    _ ومن الأدلة استعمال الصحابة للمصالح المرسلة ومن ذلك :
    - جمعهم للقران .
    - كتابتهم له , كما فعل أبو بكر .
    - ومن ذلك أن عثمان رضي الله عنه أثبت رسماً واحداً للقران .
    - ومن ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وضع الدواوين والسجون .
    تنبيهات :
    _ التنبيه الأول : قد أرجع العز بن عبد السلام كما في كتابه في القواعد الفقهية الدِّين كلَّه إلى قاعدة واحدة وهي : أن الدِّين قائم على جلب المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها . ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام كثير في هذا كما في ( مجموع الفتاوى ) , وقد قرر هذا ابن القيم كما في كتابه ( إعلام الموقعين ) , وقرره الشاطبي كما في كتابه (الموافقات ).
    التنبيه الثاني : إذا تعارضت جلب المصلحة مع درء المفسدة فإن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح , لذلك دَرَءَ النبي صلى الله عليه وسلم مفسدة ارتداد الأعرابي الذي بال في المسجد ونفوره عن الدِّين على مصلحة حفظ المسجد ونظافته , لكن هذه القاعدة مقيدة بقيد دقيق ذكره السبكي في ( الأشباه والنظائر ) وذكره الشيخ ابن عثيمين في بعض فتاواه : وذلك إذا تساويا أي تساوى درء المفسدة مع جلب المصلحة أما إذا غلبت مصلحة جلب المصالح فإنها مقدمة على درء المفاسد .
    التنبيه الثالث : مما يعين كثيراً على التمييز بين المصالح المرسلة والمصالح الملغاة هو : أن ينظر في مقتضي جلب هذه المصلحة والمانع من فعل هذه المصلحة فإذا وُجد المقتضي لفعل هذه المصلحة عند النبي صلى الله عليه وسلم أو أصحابه ولا مانع يمنعهم فإن هذه المصلحة ليست مصلحة مرادة في الشرع فليست مصلحة مرسلة وإنما من المصالح الملغاة لأن هذه المصلحة لو كانت خيراً ومرادةً في الشرع لفَعَلَهَا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه . وقد أشار إلى هذا الضابط شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من ( مجموع الفتاوى ) , ومما ضربه على ذلك مثلاً الشاطبي في كتاب ( الاعتصام ) أن بعض العلماء إذا وقع غنيٌّ في كفَّارة ظِهَار أو جِماع في رمضان فإنه يأمره بالصيام ولا يأمره بما أمره الله به ونبيه بعتق رقبة فإن لم يجد صام , وذلك أنه يقول : إن أَمْرَهُمْ بالصيام أردع لهم وأزجر لكون الرقاب متيسرة لهم .
    ردَّ هذا الشاطبي وبين أن هذه من المصالح الملغاة لأنها خلاف ما يريده الله ورسوله, ولأنه أيضاً لا يسلَّم بأن المصلحة تقتضيه بل المصلحة تقتضي أن يُبدأ بعتق الرقبة لأن الشريعة تتشوف لعتق الرقاب لما فيه من نفع للمملوك .
    الدليل التاسع
    دليل سد الذرائع :
    وهذا الدليل مجمع عليه من حيث الجملة كما حكى الإجماع القرَّافي في ( شرح تنقيح الفصول ) والمراد بدليل سد الذرائع : سد كل طريق موصل إلى محرم .
    والأدلة كثيرة في الدلالة على أنه حجة حتى أنَّ الإمام ابن تيمية بسط الكلام وذكر الأدلة على دليل سد الذرائع فذكر ثلاثة وثلاثين دليلاً على وجوب سد الذرائع , أما الإمام ابن القيم ففي كتابه ( إعلام الموقعين ) أخذ كلام شيخه وزاد على الأدلة إلى أن أوصلها إلى تسعة وتسعين دليلاً .
    ومن الأدلة على وجوب سد الذرائع ما يلي :
    الدليل الأول : قوله تعالى: { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم } , وجه الدلالة أنه سد الذريعة إلى سبه بالنهي عن سب آلهة المشركين .
    الدليل الثاني: { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم }, وجه الدلالة أن الشريعة نهت عن النظر للحرام تطهيراً للقلوب حتى لا يقع الزنا .
    الدليل الثالث : قوله تعالى: { ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن } , وجه الدلالة : أنه نهى المرأة أن تضرب برجلها سدا لذريعة النظر للزينة التي تُوقع في الحرام والزنا .
    الدليل الرابع : قوله تعالى: { ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن } , وجه الدلالة أنه أمر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يحتجبن لأنه أطهر للقلوب .
    الدليل الخامس : ما ثبت في ( البخاري ) عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها " وجه الدلالة نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن وصف المرأة لزوجها امرأة أخرى حتى لا يكون كالناظر إليها .
    وسد الذرائع على أقسام أربعة ذكرها القرَّافي في ( شرح تنقيح الفصول ) :
    القسم الأول : وهي الموصلة إلى الحرام يقيناً , كحفر بئر في طريق المسلمين وهذا محرَّم بالإجماع .
    القسم الثاني : الذي لا يوصل إلى الحرام إلا نادراً كبيع , العنب لمن يتخذه خمراً . وهذا لا يمنع بالإجماع .
    القسم الثالث : ما يوصل إلى الحرام غالباً , وهذا يمنع باتفاق أئمة المذاهب الأربعة .
    القسم الرابع : ما يوصل إلى الحرام كثيراً لا غالباً , وسدُّ مثل هذا هو قول مالك وأحمد خلافاً للشافعي وأبي حنيفة .
    تنبيهات :
    التنبيه الأول : بما أن دليل سد الذرائع اجتهادي في تطبيقه على الواقع فلذا يقع الخطأ فيه إفراطاً وتفريطاً ومن الضوابط المعينة على معرفة سد الذرائع قاعدة المقتضي والمانع فما وجد مقتضاه وانتفى مانعه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ولم يسدوه فلا يجوز لنا أن نسده بل سدنا له من البدع كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في ( الاقتضاء ) , وررد ذلك كثيراً الشيخ الألباني في مسجلاته الصوتية .
    أمثلة على هذه القاعدة المهمة :
    المثال الأول : كان النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة يصلِّين في المسجد , لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله " أخرجه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما .
    فدلَّ على أنهنَّ كنَّ يصلِّين الفروض الخمسة في المسجد , وما وضع النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه حاجزاً بين الرجال والنساء عند صلاة النساء في المساجد , فمن أراد وضع الحاجز سداً للذريعة فقد أخطأ بدلالة المقتضي والمانع , فإن قيل إن الناس قد تغيروا و كثرت المعاصي . فيقال : إن ذنوب العباد ليست مبرراً لتغيير الشريعة بل الناس مأمورون بالرجوع إلى الله والتوبة , ذكر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية في ( اقتضاء الصراط المستقيم ) , ويؤكد كلامه أن الصحابة لم يسدوا ذرائع في زمانهم مع تغيُّر حال زمانهم بالنسبة إلى حال زمان النبي صلى الله عليه وسلم لا سيما بعد دخول العَجَم في الإسلام واتساع رقعته .
    المثال الثاني : ثبت في السنة ما يدل على أن النساء كنَّ يلبسن نقاباً كما أخرج البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين " فدلَّ هذا على أن النساء كنَّ ينتقبن فإذا أراد أحد أن يمنع النقاب سداً للذريعة فيقال بدلالة المقتضي والمانع : لا يصح أن تسد هذه الذريعة لأن سدها لو كان خيراً لكانوا أسبق إليه .
    التنبيه الثاني : حاول كثير من أهل الباطل إسقاط دليل سد الذرائع وهو من أشد الأدلة إحراجاً لدعاة الشهوات وللمنافقين من العلمانيين والليبراليين ولدعاة الإفساد من بعض الإسلاميين الذين قد شابهوا كثيراً من الليبراليين والعلمانيين في كثير من الأمور كـ( فهمي هويدي , وحسن الترابي , وسلمان العودة ) , وسبب سعيهم لإسقاط هذا الدليل أنه يحكم على المتجددات من الوقائع بالمنع والحرمة , وهذا ما لا يريده هؤلاء .
    أما المنافقون من العلمانيين والليبراليين فلأنهم لا يريدون الدين .
    وأما أهل الشهوات فلشهواتهم .
    وأما من هو من الإسلاميين _ إن صح التعبير _المشار إليهم فهو لأنهم يريدون إسلاماً قليل التكاليف ليُرضوا به الغرب من جهة , ومن جهة أخرى يجعلون الناس يتعلقون بهم ويرجعون إليهم لأنهم قد يَسَّرُوا وخفَّفُوا بزعمهم , ونتج من هذا ما يسمى بـ( فقه التيسير ) وهو على مراد هؤلاء مبتدَع لأنه قائم على أساس وهو : تقليل التكاليف التي جاءت بها الشريعة وتوسيع دائرة المباح مخالفة للشرع .
    ولهم طرق وأساليب في ذلك :
    الطريق الأول : إسقاط دليل الإجماع بحجة أنه لا ينعقد , فهم يقررونه صورياً لا حقيقياً فكلما احتُجَّ عليهم بدليل فيه إجماع ردوه بحجة أن الإجماعات لا تنعقد .
    الطريق الثانية : الاحتجاج بالخلاف , وذلك أنهم إذا رأوا في المسألة خلافاً أجازوها بحجة أن فيها خلافاً , والاحتجاج بالخلاف خطأ ومردود بدليلين :
    الدليل الأول : الأدلة التي تأمرنا عند الاختلاف أن نتحاكم إلى الكتاب والسنة كقوله تعالى : { وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله } .
    الدليل الثاني : أن الاحتجاج بالخلاف مخالف لإجماع أهل العلم كما حكى الإجماع ابن عبد البر في كتابه ( جامع
    بيان العلم وفضله ) , وابن تيمية في كتابه ( رفع الملام ) , فالخلاف ضعيف مفتقر إلى دليل لا أنه دليل .
    الطريق الثالثة : تتبع الرُّخَص , فمنهجهم أنهم يتتبعون الرُّخَص فما أن يجدوا في مسألةٍ قولاً لعالم فيه تسهيل ورخصة إلا وأخذوا به ودعوا الناس إليه وهذا مردود لأمرين :
    الأمر الأول : كل دليل فيه الأمر بالرجوع إلى الكتاب والسنة فيه ردٌّ عليهم لأن الشريعة لم تأمرنا بالرجوع إلى الرُّخَص .
    الأمر الثاني : أن هذا مخالفٌ لإجماع أهل العلم كما حكى الإجماع ابن عبد البر في كتابه ( جامع بيان العلم وفضله ) .
    الطريقة الرابعة : إسقاط دليل سد الذرائع , لما تقدم ذكره وتقدم ذكر الأدلة في حجيته وكذا إجماع أهل العلم .
    الطريقة الخامسة : التوسع في التمسك والتحجج بمقاصد الشريعة وروحها ومعانيها والاستدلال بالقواعد الفقهية في غير بابها , فكم استطاعوا بهذا أن ينقضوا شيئا كثيراً من الشريعة باسم المصالح وروح ومعاني الشريعة والقواعد الفقهية وقد ذكر ابن القيم في كتابه ( إعلام الموقعين ) , والشوكاني في كتابه ( أدب الطلب ومنتهى الأرب ) أن كثيراً ردوا كثيراً من الشرع باسم القواعد الفقهية فلا نقبل القواعد الفقهية إلا بالنظر في أدلتها , والقواعد الفقهية المبنية على الدليل الشرعي مفيدة للغاية لكن قد يستغلها من يريد أن يفسد الشريعة لأي دافع كان ومن ذلك التيسير , , فلذا ينبغي لطالب العلم أن يدرس القواعد الفقهية دراسة دقيقة بعد ضبطه للفقه وأصول الفقه ثم يكون وسطاً وذلك بأن لا يردُّ القواعد الفقهية ولا يقبلها مطلقاً بل يقبل ما دل عليه الدليل ثم بعد ذلك يحسن تطبيقها .
    الطريق السادسة : إسقاط دليل القياس عملياً وإن كانوا يقرُّون به نظرياً كالإجماع تماماً , وذلك أن القياس الصحيح مبيِّن لأحكام الله في الوقائع والمتجددات فعن طريقه يحكم على كثيرٍ من الوقائع والمتجددات بأنها محرمة
    الدليل العاشر:
    شرع من قبلنا :
    تنازع العلماء في شرع من قبلنا , وتحرير محل النزاع في هذا الدليل ما يلي :
    الأمر الأول : أن شرع من قبلنا إذا خالف شرعنا فليس حجة بالإجماع كما حكى هذا الإجماع شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره .
    الأمر الثاني : إذا وافق شرع من قبلنا شرعنا فهو حجة بشرعنا , وهذا أيضاً بالإجماع .
    الأمر الثالث : أن تكون واسطة النقل لشرع من قبلنا الكتاب والسنة لا ما يتناقله بنو إسرائيل ولا الذي يوجد في التوراة والإنجيل وهذا بالإجماع كما حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية.
    وأصح أقوال أهل العلم أن شرع من قبلنا شرع لنا , وعزا ابن تيمية هذا القول لعامة السلف وجمهور الفقهاء كما في كتابه ( اقتضاء الصراط المستقيم ) .
    وأقوى ما تمسك به القائلون بأنه ليس حجة الآيات التي فيها الرجوع إلى الكتاب والسنة , قالوا : فلم يأمرنا أن نرجع إلى شرع من قبلنا .
    أما الذين ذهبوا إلى أن شرع من قبلنا حجة فقالوا : إننا لم نحتج بشرع من قبلنا إلا لأننا وجدنا في الكتاب والسنة ما يدل على أن شرع من قبلنا حجة :
    الدليل الأول : قوله تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } , وجه الدلالة أننا إذا لم نجد في مسألة دليلاً من شرعنا ووجدنا دليلاً من شرع من قبلنا تحاكمنا به لأنه مما أنزل الله .
    الدليل الثاني : ما ثبت في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك " ثم تلا قوله تعالى { وأقم الصلاة لذكري } . وجه الدلالة أن قوله تعالى : { وأقم الصلاة لذكري } , خطاب لموسى عليه السلام , ومع ذلك استدل به النبي صلى الله عليه وسلم , وهذا في المسائل الفقهية وبهذا رد ابن قدامة وغيره على من يقول بأن شرع من قبلنا حجة في باب العقائد دون المسائل الفقهية كما في ( روضة الناظر ).
    الدليل الحادي عشر
    العُرف:
    والمراد بالعُرف أي ما تعارف عليه الناس , وأصل دليل العُرف مجمع عليه كما ذكره بعض الأصوليين , وقد دل القران والسنة على حجِّية العُرف , ومن الأدلة :
    الدليل الأول : قوله تعالى : { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } , وجه الدلالة الأمر بالعرف وهو داخل في المعروف الذي يتعارفه الناس .
    الدليل الثاني : قوله تعالى : { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } , وجه الدلالة أنه أجاز الإمساك للزوجة إن كان بالمعروف وهو ما تعارف عليه من الخير .
    الدليل الثالث : قوله تعالى : { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف } , وجه الدلالة كالدليل السابق . الدليل الرابع : ما ثبت في الصحيحين عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهند بنت عتبة لما قالت " إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من المال ما يكفيني ويكفي بنيَّ " قال : " خذي من ماله ما يكفيك ويكفي بنيك بالمعروف " , وجه الدلالة أنه جوَّز لها أن تأخذ بمقدار ما تعارف عليه الناس , فدل على أن العرف حجة .
    تنبيهات :
    التنبيه الأول : معرفة دليل العُّرف والتعامل معه من أهم ما يلزم الفقيه , ومن لم يعرفه شدَّدََ على الناس وضيَّق عليهم في أمر وسَّع الله لهم فيه وهو من المراد بقول ابن القيم كما في كتابه ( إعلام الموقعين ) أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان , وذلك أن أعراف الناس تختلف باختلاف الأماكن والأزمان , وذكر ابن القيم أن من لم يعرف المسائل التي تتغير بتغير الزمان والمكان فإنه يشدد على الناس ويحرم ما أباحته الشريعة .
    التنبيه الثاني : العرف يُرجَع إليه فيما دلت الشريعة بأنه يُحتج به فيه , لكن لا يصح بحال أن يُحتج بالأعراف في رد دلائل الكتاب والسنة , وكم هُدم من الدين بسبب أعراف الناس وعاداتهم .
    التنبيه الثالث : مما يرجع فيه إلى العرف
    _ العبادات غير المحضة ومعنى العبادة غير المحضة هي التي أرجعتنا الشريعة في صفتها إلى أعراف الناس كمثل صفة اللباس وإكرام الضيف والعزاء , وهكذا .
    _ أما العبادات المحضة وهي التي لم ترجعها الشريعة إلى أعراف الناس وإنما جاءت بصفة هذه العبادة فإننا نرجع إلى ما جاءت به الشريعة من صفات ولا نرجع إلى الأعراف .
    ومما يعين في التمييز بين العبادات المحضة وغير المحضة :
    أن العبادات غير المحضة تكون موجودة قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فيخرج النبي صلى الله عليه وسلم في قومه فيفعل فعلهم وقد ينهى عن بعض الصور التي يفعلونها كمثل إكرام الضيف كان موجوداً قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه نهى عن الإسراف والتبذير , فعلى هذا السنة في إكرام الضيف وفي الثياب أن تفعل ما يفعل قومك , وذكر شيخ الإسلام أن السُّنَّة في الِّلباس أن تلبس لباس قومك كما في ( مجموع الفتاوى ) .
    أما العبادات المحضة فتكون الشريعة جاءت بها كالزكاة والصلاة والصيام وهكذا , أو أن الشريعة وضحت صفتها.
    وبعد هذا نبدأ بشرح دليل الطالب .
    8/ 4 / 1431هـ

    [1] _ كان ابتداء الشرح يوم السبت 13/ربيع الأول /1431 بعد صلاة الفجر.

    [2] - قال الشيخ حفظه الله : الظاهر أنها بتخفيف الراء كمثل قوله تعالى: { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله }

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Mar 2010
    الدولة
    عمان-الأردن
    المشاركات
    497

    افتراضي رد: مقدمات في دراسة الفقه (الشيخ عبدالعزيز الريس)

    بوركت يمناك

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •