التمحور: وهو الوقوف على مسألة أو مسألتين ، أو التعلق بشيخ أو شيخين ، أو الاهتمام بقضية أو قضيتين، يجمع لها الأدلة ، مما صح ولم يصح ، ثم يتحرك من خلال ذلك ، فيضرب أكباد الإبل لها، قاطعاً الفيافي والبلدان ، جاعلاً ذلك محوره وَدْيدنه ، صباحه ومساءه ، دعوته وعلمه ، ولاءه وبراءه ، يلهج بذلك لسانه ، وينقطع عندها علمه ، وتتوقف عليها دعوته ، فيصرف لـها وقته ، ويبذل لها جهده ، وربما ضيع فيها شبابه ، حتى لا يكاد الرجل أو الجماعة يعرف إلا بذلك ، فمنهم من جعل محوره التكفير .. ومنهم الجهاد .. ومنهم التبديع .. ومنهم التفسيق والهجر .. ومنهم السياسة والحكام والحكم .. ومنهم الرجال والشيوخ .. فلا هم له إلا الرجال ، مدحاً وذماً ، تزكية وطعناً ، ثم ولاءً وبراءً .
وكأن فرج الأمة بهذه المسائل، والنجاة عند الله لا تكون إلا بها ، ثم ترى –بعد ذلك- الجدال والخصام ، وضياع الأوقات والطاقات .
حضرت مجلساً كان فيه شاب قد ترك الأهل والأوطان ، وقطع الفيافي والبلدان إلى أحد الأئمة الأعلام ، وكان محور حديثه ، ومبتغى طلبه ، تكفيـر - أو على الأقل تبديع - أحد الدعاة المشهود لهم بالتوحيد والسنة ، غير أن لديه بعض أخطاء – وعلى الأكثر- انحرافات في المنهج .
وكان قد أتى الشاب ببعض كلام الداعية ، يحاول أن يحكم عليه من خلال فهمه هو لعباراته ، أو في أعظم الأحوال ، يريد أن يحكم على دين الرجل من خلال لفظة زلت ، أو عبارة قاصرة منه صدرت ، ولكن الإمام كان فطناً ، فرده خاسراً .
وكل متمحور حول قضيته ، يدعي أنه يأخذ بالإسلام جميعاً ، وأنه على الحق أبداً ، وحقيقة الأمر عند هؤلاء - في منهجهم - واحدة ، وإنما الاختلاف في نوع المحور ، لا في منهج التمحور وأسلوبه ، فمنهج الغلو في التكفير ، يوازي منهج الغلو في التبديع ، ومنهج الغالين في زيد ، هو عينه منهج الغالين في عمرو ، غير أنه اختلاف في الأسماء ، وتنوع في المسائل ، وقد تكون المسائل اجتهادية لا قطعية ، أو تمثيلية لا تأصيلية ، لا تحتاج كل هذا الوقت ، و لا صرف ذاك الجهد .
مفاسد التمحور :
وربما يكون المتمحور على حق في هذه المسائل ، ولكن الخطأ يكمن في التمحور حولـها ، والمفسدة بالانشغال بها ، عما هو أهم منها من العلم والدعوة ، بل عن العبادة والتقوى ، حتى لا تكاد تجد على اللسان لله ذكراً ، ولا ترى في الجبهة من أثر سجود تقرحاً ، وترى المتمحورَ حفظُه لكتاب الله قليل، ولسنة رسول اللهr ضحل ، وبضاعتهُ في الفقه مزجاة ، وقدرته على تـمييز الأمور، وإدراك حقيقتها كاسدة .
وقد قال شيخ الإسلام : ( يقال: ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر ، إنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين، وشر الشرين، ويُنشَد:
إن اللبيب إذا بدى من جسمه مرضان مختلفان داوى الأخطرا ))(1)
وقال العلامة ابن القيم :
((.. فحازم الرأي هو الذي اجتمعت له شئون رأيه وعرف منها خير الخيرين وشّر الشّرّين ، فأحجم في موضع الإحجام رأياً وعقلاً ، لا جبناً ولا بخلاً..))(2).
وتتلخص مفاسد هذه الفتنة في ثلاث :
- إشغالها صاحبها عن تعلم أصوله وتطبيقاته ، فهو يظن أو يخيل إليه : أن معرفته هذه المسائل ، تغنيه عن العلم ، أو تحدث عنده إشباعاً كاذباً في العلم .
- تقصير صاحبها في العبادات ، ونسيانه الدعوة .
- إضاعة الأوقات ، وهدر الطاقات في أمور لا تستحق كل هذا ، وإشغال المجالس عما هو أهم وأنفع من ذلك .
وسرعان ما يمل المترصدون وإن بقوا فتـرة يصرخون ، وإن غداً لناظره قريب .

من كتاب من فتن شباب الصحوة
(1)مجموع الفتاوى 20/54

(2)كتاب الروح ص237 ، ونقله عنه صاحب فيض القدير 5/402.