الحمد لله المستحق الحمدلآلائه، المتوحد بعزه وكبريائه، والصلاة والسلام على محمد خاتم رسله من أنبيائه،وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا.
أما بعد.
فإن الله تعالى أرسلرسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وجعل هذه الرسالة قائمة على أصلينعظيمين بهما قوام الدين، وصلب الإسلام، كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليهوسلم.
والسنة في أهميتها وحاجة الناس إليها لا تعدو أهمية من القرآن، وإنكانت ليست مثله في التعبد والتلاوة، إلا أنها تبين القرآن فتفصل مجمله، وتبينمبهمة، بل وتزيد عليه أحكاما شرعية كثيرة.
والسنة حظيت بالعناية والاهتماممن العصور الأولى، في التدوين والتدقيق والحفظ، إلا أنها في سالف الأمر زادالاهتمام بها تدويناً وحفظاً وضبطا وتنوعا.
لذلك كان الصحابة رضي الله عنهميحتاطون في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ويشددون في ضبطه، حتى إن عمر رضيالله عنه يمنع من التحديث بالحديث إذا لم يكن مشتهراً ومعروفا عند الصحابة كما فيحديث أبي سعيد في استئذان أبي موسى الأشعري على عمر رضي الله عنه.
وأخبارهمفي ذلك مشهورة معروفة. وما ذلك منهم إلا حفظاً لجناب الشريعة، وصوناً لها منالدخيل أو الوهم والغلط. فهم يريدون أن تروى أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم كماقالها، لا ينقصون ولا يزيدون فيها حرفاً، وقد كانت عائشة رضي الله عنها تختبر ضبطالصحابة لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسؤالهم عنه وطلب ضبطه، كما طلبت منعبد الله بن عمرو بن العاص.
كما قد تورع بعضهم من التحديث لعدم أمنهم منالتغيير في الحديث عند ذكره، وممن نقل عنه ذلك عمرو بن العاص ولما سئل قال سمعترسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار)، فقيل لهإنما قال: (من كذب علي متعمداً) بمعنى: أنه يجوز لك روايته والتوسع فيه إذا لم تتعمدالخطا، فقال: لا، هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلككله نشأ في عصر الصحابة ما يعرف عندنا بنقد المتون، فقد كثر ذلك عندهم رضي اللهعنهم لحاجتهم إليه لأن صحة السند مفروغ منها، حيث إن جميع الرواة الذين يروونالحديث في وقتهم عدول ثقات، لا شك في ذلك أحد.
ولعل أكثر من اشتهر عنه ذلكمن الصحابة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فإن الأخبار التي ردتها لنكارة متونهاكثير، لا تكاد تخفي على أحد، حتى إن الحافظ الزركشي جمع في ذلك كتاباً حافلاًأودعه عشرات الأمثلة، وسماه (الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة)،اختصره السيوطي فيما بعد وزاد عليه.
وممن نقل عنه نقد المتون أيضاً عمروابنه وابن عباس وعلي رضي الله عنهم. انظر كتاب مقاييس نقد متون السنة للدميني (ص/62).
ثم كانت هذه الطريقة هي طريقة من بعدهم من التابعين، فهذا الربيعابن خثيم (61هـ) رحمه الله يقول: (إن من الحديث حديثاً له ضوء كضوء النهار، نعرفهبه، وإن من الحديث حديثاً له ظلمة كظلمة الليل نعرفه بها) انظر معرفة علوم الحديث (ص/62).
ولما نقل لعروة بن الزبير (ت94) رحمه الله حديث (الصخرة عرش اللهالأدنى) أنكر ذلك وقال: سبحان الله يقول الله: (وسع كرسيه السماوات والأرض) وتكونالصخرة عرشه الأدنى انظر المنار المنيف (ص/86)، مما يعلم بذلك استخدامهم لنقد المتنعند الحكم على الحديث.
كما أن هذه الطريقة وجدت فيمن جاء بعدهم، فهذاالإمام أحمد رحمه الله يأمر بالضرب على حديث أبي هريرة (أهلك أمتي هذا الحي منقريش) قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: (لو أن الناس اعتزلوهم)، لأنه خلافالأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يعني قوله (اسمعوا وأطيعوا). واستدل الحافظأبو موسى المديني بهذه القصة على أن الإمام أحمد لم يورد في المسند إلا ما صح عندهواحتاط فيه إسناداً ومتناً. انظر مقدمة المسند لأحمد شاكر (1/24).
وهذاالإمام البخاري يعرض عن إخراج رواية (أفلح وأبيه إن صدق) مع إخراجه لأصل الحديث،لعلمه بمعارضتها الأدلة الكثيرة من تحريم الحلف بغير الله.
وقد استخدم بعضالمحدثين هذه الطريقة في نقد الأخبار دون النظر إلى أسانيدها، كالخطيب البغداديفأنه أبطل الكتاب الذي ادعى فيه اليهود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقطالجزية عن يهود خيبر، لأن فيه شهادة بعض الصحابة ممن لم يحضر خيبراً، أو ماتقبلها، انظر سير أعلام النبلاء (18/280).
حتى إنه بهذه الطريقة لم يسلم بعضألفاظ الصحيحين من نقد المحدثين، ومن ذلك حديث الإسراء في بعض ألفاظه (ليلة أسريبالنبي صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة، أنه جاءه نفر قبل أن يوحى إليه، وهونائم في المسجد الحرام..) وهذا يخالف المعروف عند المسلمين جميعاً أن الإسراء كانبعد البعثة، لذلك غلط المحدثون الراوي في هذا اللفظ، ولا يعني ذلك ضعف الحديث كلهأو أن في الصحيحين أحاديث ضعيفه، ولكن في الجملة لا يسلم من النقد لفظة أو لفظتينمن مجموع الأحاديث، كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية.
وممن اهتم بهذهالطريقة وبينها بياناً شافياً، بل ووضع قواعد لمعرفة الوضع والوهم والغلط في متونالأحاديث الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه العظيم (المنار المنيف).
ومنالمعلوم الذي يجب القول به أن منهج نقد المتون كان استخدامه من قبل المحدثين قليلابالنسبة لاستخدامهم لنقد الأسانيد والحكم على الرجال.
ويمكن أن يقال أن ذلكلعدة أسباب:
1-
إن اعتناء المحدثين بالإسناد ليس لذاته وانما لمصلحةالمتن، فمتى كان رواة الحديث من الثقات الاثبات كان الاطمئنان إلى صحة ما نقلوهأكثر.
2-
أن نقد السند طريقة مختصرة للحكم على الحديث لان الراوي المتكلمفيه يتوقع منه الغلط والوهم بل وحتى الكذب.
3-
أن نقد المتن قد تختلف فيهوجهات النظر لاسيما وهو مسلك وعر، ومنعطف زلق يحتاج عند استعماله إلى علم واسعوتيقظ تام، بخلاف الكلام في الرجال ونقد الأسانيد، وان كان في بعض حالات الأسانيدمن ذلك الأمر كالعلل الخفية.
ومن الأمثلة على اختلاف الآراء ما نقل عن ابنعباس رضي الله عنهما لما سمع أبا هريرة يحدث بحديث: (الوضوء مما مست النار)، أنتوضأمن الدهن؟ أنتوضأ من الحميم؟ فقال أبو هريرة: (يا ابن أختي إذا سمعت حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تضرب له مثلاً) سنن الترمذي (1/114).
وهنامسألة وهي ما هو الفرق بين نقد المتون عند المحدثين وبين نقده عند المستشرقين؟
خرج في هذا العصر ما يسمى بالمستشرقين وهم الذين يدرسون علوم الشرق (العربوالمسلمين)، فقرءوا القرآن وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وأرادوا أن يشككوافيه وفي نقلته طعناً منهم وصداً عن سبيل الله، فجعلوا يوردون الشبه في الأحاديث،ويخالفونها بعقولهم، زعما منهم أن ذلك نقدا وتمحيصا للأحاديث ومن هؤلاء المستشرقجولد سيهر ومن تبعه ممن ينتسبون للإسلام كأحمد أمين وأبي ربة والغزالي والترابيوغيرهم.
والفرق بين ما يوردون وينقدون وبين ما يورده الأئمة من النقد، أننقد المستشرقين هو شبه وظنون تحتاج إلى إجابة وإزالة إشكال، وقد تكون معروفة عندالمسلمين مسلما بها عندهم كالإيمان بالمعجزات والآيات على صدق رسول الله صلى اللهعليه وسلم أو أن الصحابة قد اعتنوا بالقرآن ودونوه، ولكن كما قيل:
ومن يك ذا فممر مريض يجد مراً به الماء الزلالا
أما نقد المتون عند الأئمة فهي واضحةجلية إذا عرضت على باقي النصوص والأدلة.
ومما يجدر التنبيه عليه أن نقد المتنيجب أن يرجع فيه إلى الإسناد، بمعنى أن كل علة ونكارة في المتن يجب أن يكون لهاأصلاً في الإسناد، لأن ناقل المتن وراويه إنما هو من سلسلة الإسناد، ويعرف ذلكبجمع طرق الحديث وبيان القول في الرواة لمعرفة من الذي يمكن أن يأتي منه الوهم،حتى أن بعض المحدثين يلجئون في هذه الحالة إلى التعليل بما ليس بعلة كالعنعنةواحتمال الخطأ والظن أن الحديث أدخل على الشيخ بلا دليل واضح على ذلك.
(حجتهم في هذا أن عدم القدح بتلك العلة مطلقاً إنما بني على أن دخول الخللمن جهتها نادر، فإذا اتفق أن يكون المتن منكراً يغلب على ظن الناقد بطلانه فقد يحققوجود الخلل وإذ لم يوجد سبب له إلا تلك العلة والظاهر أنها هي السبب، وأن هذا منذلك النادر الذي يجئ الخلل فيه من جهتها). انظر مقدمة تحقيق الفوائد المجموعةللمعلمي (ص/11).
وبعد هذا الاستعراض السريع لهذه المسألة المهمة، فإنه يجدربطالب العلم عند تخريج الحديث والحكم عليه مع الاعتناء بالسند الاعتناء بالمتن،والاهتمام بالنظر في ألفاظه مع محاولته إيجاد حكم على الحديث من الأئمة السابقين فينقده، لأنهم أعمق في هذا العلم، وأثقب نظراً وبخاصة المتقدمين منهم كالبخاريوأحمد وأبي ذرعة والدارقطني وغيرهم لأنهم أولو هذا المنهج وهذه الطريقة عناية تامةواهتماماً بالغاً، بخلاف غيرهم من المتأخرين كمن هم في عصرنا،فتجده يخرج الحديثتخريجا موسعا ويتكلم على رواته ثم يصدر حكمه فيه دون النظر إلى متنه حتى أن بعضهمنقل عد الحكم على الحديث الاكتفاء بالنظر إلى السند فقط دون النظر إلى المتن، ومنثم وجدت أحاديث كثيرة حكم عليها المتأخرون بحكم خالفوا فيه المتقدمين.
للشيخ سعد بن فجحان الدوسري
وصلى الله وسلم على النبي الامين وعلى اله وصحبه والتابعين
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
نقله لكم بالتصرف اخوكم ابي عبدالرحمن عبدالله الاثري المغربي