الخاطرة الأولى من "صيده" الثمين :
ينبغي لكل ذي لب وفطنة أن يحذر عواقب المعاصي. فإنه ليس بين الآدمي وبين الله تعالى قرابة ولا رحم، وإنما هو قائم بالقسط، حاكم بالعدل.
وإن كان حلمه يسع الذنوب، إلا أنه شاء عفا فعفا كل كثيف من الذنوب، وإذا شاء أخذ وأخذ باليسير، فالحذر الحذر.
ولقد رأيت أقواماً من المترفين كانوا يتقلبون في الظلم والمعاصي الباطنة والظاهرة، فتعبوا من حيث لم يحتسبوا. فقلعت أصولهم. ونقض ما بنوا من قواعد أحكموها لذراريهم.
وما كان ذلك إلا أنهم أهملوا جانب الحق عز وجل، وظنوا أن ما يفعلونه من خير يقاوم ما يجري من شر، فمالت سفينة ظنونهم. فدخلها من ماء الكيد ما أغرقهم.
ورأيت أقواماً من المنتسبين إلى العلم أهملوا نظر الحق عز وجل إليهم في الخلوات. فمحا محاسن ذكرهم في الجلوات. فكانوا موجودين كالمعدومين، لا حلاوة لرؤيتهم، ولا قلب يحن إلى لقائهم.
فالله الله في مراقبة الحق عز وجل. فإن ميزان عدله تبين فيه الذرة، وجزاؤه مرصد للمخطىء ولو بعد حين.
وربما ظن أنه العفو - وإنما هو إمهال - وللذنوب عواقب سيئة.
فالله الله الخلوات. الخلوات.
البواطن البواطن. النيات النيات.
فإن عليكم من الله عيناً ناظرة.
وإياكم والاغترار بحلمه وكرمه، فكم قد استدرج.
وكونوا على مراقبة الخطايا مجتهدين في محوها.
وما شيء ينفع كالتضرع مع الحمية عن الخطايا، فلعله...
وهذا فصل إذا تأمله المعامل لله تعالى نفعه.
ولقد قال بعض المراقبين لله تعالى: قدرت على لذة هي غاية وليست بكبيرة.
فنازعتني نفسي إليه، اعتماداً على صغرها، وعظم فضل الله تعالى وكرمه.
فقلت لنفسي: إن غلبت هذه فأنت أنت، وإذا أتيت هذه فمن أنت ؟.
وذكرتها حالة أقوام كانوا يفسحون لأنفسهم في مسامحة كيف انطوت أذكارهم، وتمكن الإعراض عنهم.
فارعوت ورجعت عما همت به. والله الموفق.
********
الخاطرة الثانية :
رأيت أكثر العلماء مشتغلين بصورة العلم دون فهم حقيقته ومقصوده.
فالقارىء مشغول بالروايات، عاكف على الشواذ، يرى أن المقصود نفس التلاوة، ولا يتلمح عظمة المتكلم؛ ولا زجر القرآن ووعده.
وربما ظن أن حفظ القرآن يدفع عنه، فتراه يترخص في الذنوب، ولو فهم لعلم أن الحجة عليه أقوى ممن لم يقرأ.
والمحدث يجمع الطرق، ويحفظ الأسانيد، ولا يتأمل مقصود المنقول، ويرى أنه قد حفظ على الناس الأحاديث، فهو يرجو بذلك السلامة.
وربما ترخص في الخطايا ظناً منه أن ما فعل في خدمة الشريعة يدفع عنه.
والفقيه قد وقع له أنه بما قد عرف من الجدال الذي يقوي به خصامه، أو المسائل، أو المسائل التي قد عرف فيها المذهب قد حصل بما يفتي به الناس ما يرفع قدره، ويمحو ذنبه.
فربما هجم على الخطايا ظناً منه أن ذلك يدفع عنه.
وربما لم يحفظ القرآن ولم يعرف الحديث، وأنهما ينهيان عن الفواحش بزجر ورفق.
وينضاف إليه مع الجهل بهما حب الرياسة، وإيثار الغلبة في الجدل، فتزيد قسوة قلبه.
وعلى هذا أكثر الناس، صور العلم عندهم صناعة، فهي تكسبهم الكبر والحماقة.
وقد حكى بعض المعتبرين عن شيخ أفنى عمره في علوم كثيرة، أنه فتن في آخر عمره بفسق أصر عليه، وبارز الله به.
وكانت حاله تعطي بمضمونها أن علمي يدفع عني شر ما أنا فيه ولا يبقى له أثر.
وكان كأنه قد قطع لنفسه بالنجاة، فلا يرى عنده أثر لخوف ولا ندم على ذنب.
قال فتغير في آخر عمره ولازمه الفقر، فكان يلقى الشدائد ولا ينتهي عن قبح حاله. إلى أن جمعت له يوماً قراريط على وجه الكدية فاستحى من ذلك وقال: يا رب إلى هذا الحد ؟.
قال الحاكي: فتعجبت من غفلته كيف نسي الله عز وجل، وأراد منه حسن التدبير له والصيانة وسعة الرزق، وكأنه ما سمع قوله تعالى: " وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً " .
ولا علم أن المعاصي تسد أبواب الرزق، وأن من ضيع أمر الله ضيعه الله.
فما رأيت علماً ما أفاد كعلم هذا، لأن العالم إذا زل انكسر، وهذا مصر لا تؤلمه معصيته.
وكأنه يجوز له ما يفعل، أو كأن له التصرف في الدين تحليلاً وتحريماً.
فمرض عاجلاً ومات على أقبح حال.
قال الحاكي: ورأيت شيخاً آخر حصل صور علم فما أفادته.
كان أي فسق أمكنه لم يتحاش منه، وأي أمر لم يعجبه من القدر عارضه بالاعتراض على المقدر واللوم.
فعاش أكدر عيش، وعلى أقبح اعتقاد حتى درج.
وهؤلاء لم يفهموا معنى العلم، وليس العلم صور الألفاظ، إنما المقصود فهم المراد منه، وذاك يورث الخشية والخوف، ويرى المنة للمنعم بالعلم، وقوة الحجة له على المتعلم.
نسأل الله عز وجل يقظة تفهمنا المقصود، وتعرفنا المعبود.
ونعوذ بالله من سبيل رعاع يتسمون بالعلماء، لا ينهاهم ما يحملون، ويعلمون، ولا يعملون، ويتكبرون على الناس بما لا يعملون.
ويأخذون عرض الأدنى وقد نهوا عما يأخذون.
غلبتهم طباعهم، وما راضتهم علومهم، التي يدرسون.
فهم أخس حالاً من العوام الذين يجهلون " يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون " .


رحم الله ابن الجوزي وغفر له ..