الفرق بين الفرض والواجب عند الأصوليين




للدكتور صالح محمد صالح النعيمي








بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله أحق الحمد وأوفاه،والصلاة والسلام على رسوله ومصطفاه محمد بن عبد الله وعلى اله وصحبه ومن والاه ، أما بعد :
فان معرفة الاصطلاحات المستخدمة من الأئمة الأعلام طريق الوصول لإدراك الصحيح لما يصدر عنهم من أقوال وفتاوى ، وأكثر الأئمة المتقدمين لم يذكروا مصطلحاتهم ولذا اجتهد أهل العلم في بيان ما استعمله كل عالم من المصطلحات الأصولية والفقهية ، وتحرير المصطلحات أمر في غاية الأهمية ، لكن رأينا من ينسب إلى العلماء أقوالا لم يقولوها ، وإنما فهمت من قول له ، ولم ينص عليها نصا قاطعا .
إذ يخطئ الباحث بتحميل مصطلحات متأخرة على أقوال المتقدمين قبل أن يشتهر ذلك المصطلح ، وهذه المشكلة موجودة في علم مصطلح الحديث ، كإعلان الأئمة بالإرسال وحكمهم على الحديث بأنه فيه علة ، أو ضعيف ، أو مرفوع اصح ونحوهما من العبارات المستعملة من المصنفين ، وقد لا تكون بالضرورة هي نفس المعرفة في كتب المصطلح " كمقدمة ابن الصلاح " وما بعدها من المؤلفات ، كما ان المصطلحات الأصولية لها نصيب من الخلط والخطأ من قبل الباحثين ، ،فقد يقرأ باحث أن الإمام احمد كره كذا فيحمله على الكراهة الاصطلاحية ، أو قال: هذا الأمر سنة أو ومستحب فيحمله على ما هو متعارف عليه اصطلاحا ، وعند التدقيق وضم كلامه في المسالة الواحدة إلى بعض نرى انه يروم معنى غيره ، ومن المسائل الأصولية التي وقع فيها الخلاف بين علماء الأصول مسالة التفريق بين الفرض والواجب ، وقد اشتهر أن الجمهور على أنهما اسم لمسمى واحد ، وان الحنفية يفرقون بينهما ، إلا أننا وجدنا أن الإمام احمد يستعمل اللفظين فهل كان يفرق بينهما ، ومتى على المأمور به فرض ومتى يقال واجب .
والمسالة وان كانت تحتاج إلى استقراء تام ومثله يحتاج إلى سعة في الوقت ، إلا أن محاولة الخروج بنتيجة في هذه المسالة ولو بالاطلاع على بعض المسائل ذات علاقة بذلك قد يوصل إلى النتيجة الصحيحة ،والبحث يتكون من الآتي : مقدمة ومطلبان ، ومن الله نستمد العون والتوفيق


والحمـــد لله رب العـــالمين











المطلب الأول
ماهية الفرض والواجب
الفرض لغةً: يستعمل لمعنيين :
أحدهما: التقدير، قال تعالى: (فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُم)، ويقال فرض القاضي النفقة أي قَدَّرَ.
والثاني:القطع، يقال: قرضت الفأرةُ الثوبَ، أي قطعته.
أما في الاصطلاح الشرعي: هو اسم لمقدر شرعاً لا يحتمل الزيادة والنقصان، وهو مقطوع به لكونه ثابتاً بدليل موجب للعلم قطعاً من الكتاب أو السنة المتواترة أو بالإجماع، وفي الاسم ما يدل على ذلك كله.
الواجب ، لغةً فيستعمل في شيئين:
أحدهما : في الساقط، ويقال: وجب الميت أي سقط، ومنه سمي القتيل واجباً، قال الله تعالى: (فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا)، أي سقطت.
والثاني: في اللازم، يقال: وجب عليه الدين، ووجب عليه الصوم والصلاة أي لزم المكلف أداؤه لا يخرج عن عهدته دونه – كأنه لازمه وجاوره.
وقيل: مأخوذ من الوجبة وهي الاضطراب سمي به لاضطراب في دليل ثبوته.
أما في الاصطلاح الشرعي: الواجب من حيث وصفه بالوجوب هو ما يثاب على فعله ، ويعاقب على تركه.

تحرير محل النزاع:
لا خلاف بين العلماء على أن الواجب والفرض متباينان من حيث المفهوم، كما مر تعريفهما لغة، ولا خلاف في أن ما ثبت بدليل قاطع يكفر جاحده ، وما ثبت بدليل فيه ظن : لا يكفر جاحده، ولا خلاف في أنه يطلق أحدهما مكان الآخر ، فالجمهور يطلقون على الفرض والواجب معنيين مترادفين على مسمى واحد، والحنفية يطلقون كل واحد مكان الآخر ، إذ يقولون : أن الوتر فرض عملاً لا اعتقاداً، ولا خلاف في وجوب العمل في كل منهما ويأثم تارك واحد منهما.

المطلب الثانـــي
دراســـة المسألــــة

إن منشأ الخلاف في هذه المسألة هو على مذهبين هما :
المذهب الأول : أن الفرض يرادف الواجب ، وهذا ما ذهب إليه إمام الكاملية تبعاً لجمهور العلماء لكونه سار على منهجهم حيث استدل على تأييد مذهبه، من الاستدلال باللغة ، لأنها من الألفاظ المترادفة كالحتم واللازم ، إذ الترادف من صفات الألفاظ والمصطلحات ، وقال الواجب لغةً : الساقط ، ولما كان الساقط يلزم مكانه سمي اللازم الذي لا خلاص منه واجباً ، ويرادف الواجب، الفرض.
المذهب الثاني : أن الفرض لا يرادف الواجب أي أن الفرض غير الواجب وهذا ما ذهب إليه الحنفية ، وقال الكلوذاني : هو ما ثبت بأعلى منازل الثبوت ، وحكي ابن عقيل الحنبلي رواية عن الإمام أحمد أن الفرض ما لزم بالقرآن ، والواجب ما كان بالسنة .

أدلة أصحاب المذهب الأول ومناقشتها :
أ – من الكتاب :
1 – قوله تعالى : (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجّ) .
وجه الدلالة : قالوا في هذه الآية ترادف بين لفظين هو كلمة ( فرض ) لكونها تستعمل لمعنى واحد هو الوجوب ، أي أوجب فيهن الحج، وقد أطلق الشارع اسم الفرض على الواجب في هذه الآية الكريمة ، إذن فالترادف وارد .
2 – قال تعالى : (فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا).
وجه الدلالة : إن حقيقة الوجوب في اللغة السقوط، يقال : ( وجبت الشمس) إذا سقطت ، ووجب الحائط إذا سقط، ولهذا قال تعالى: (فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا) ، وفي الشرع هو اسم لهذا المعنى ولكن مع زيادة تعبير فيه ، وهو أن يقال: ( للواجب ما تعلق العقاب بتركه ) ، فحقيقة ما وضع له اللفظ في اللغة موجود فيه لأن معناه أنه لزمه لزوماً لا ينفك منه ولا يتخلص عنه ، إلا بالأداء ، والواجب والفرض ، معناه واحد.

نُـوقِـش:
فقالوا: أن الفرض والواجب كل واحد منهما لازم إلا أن تأثير الفرضية أكثر، ومنه سمي الحز في الخشبة فرضاً لبقاء أثره على كل حال، ويسمى السقوط على الأرض وجوباً لأنه قد لا يبقى أثره في الباقي ، فما كان ثابتاً بدليل موجب للعمل والعلم قطعاً يسمى فرضاً ، لبقاء أثره، وهو العلم به، وما كان ثابتاً بدليل موجب لعمل غير موجب للعلم يقيناً باعتبار شبهة في طريقه يسمى واجباً.

والظاهر: أن الجمهور نظروا إلى كون الفعل لازماً على المكلف ، بغض النظر عن دليله من جهة قطعية أو ظنية ، فلم يفرقوا بين الفرض والواجب وجعلوه لفظان علاقتهما الترادف.
ونُـوقِـش:
أن الفرض لو كان ما يثبت بدليل قطعي به لوجب أن نسمي النوافل فرائض ، لأنها ثبتت بطريق مقطوع به ، ولما لم يجز تسمية النوافل فرضاً لثبوتها بطريق مقطوع به دل على أنه لا اعتبار بذلك( ).

ب – من السنة:

3 – وقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي: هل عليَّ غيرها؟ قال: (لا ، إلا أن تطوّع).
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل بين الفرض والتطوع، واسطة بل أدخل كل ما أخرجه من اسم الفرائض من جملة التطوعات، وبعبارة أخرى لم يجعل ? بين الفرض والتطوع واسطة، بل الخارج عن الفرض داخل في التطوع.
ونُـوقِـش:
قالوا: الفرض ما ثبت بدليل قطعي كالصلاة والزكاة والواجب ما ثبت وجوبه بدليل ظني، وهو ما ثبت بالقياس أو خبر الواحد ، كصدقة الفطر والوتر والضحى.
ونُـوقِـش:
فرّق الجمهور بين رتب الواجب حيث جعلوا الركن من الحج ما لم يجبر بالدم ، والواجب ما يجبر بالدم.

والظاهر: أن أصحاب المذهب الثاني ، فرقوا بين الفرض والواجب من جهة الدليل الذي ثبت به لزوم الفعل ، أي الحكم.

أدلة أصحاب المذهب الثاني ومناقشها،استدلو ا بالمنقول والمعقول
أولا: المنقول ،بآيات منها:
أ – قوله تعالى:(فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ).
وجه الدلالة: أن الفرائض سميت فرض لما فيها من تقدير الأنصب ، أو يقال: ((فرضت القوس)) إذا حزرت موضع الوتر فيها.
ب – قوله تعالى: (سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا)
وجه الدلالة: أن الفرض يحتمل معاني منها البيان، وهو تفسير معنى كلمة (فرضناها) التي تعني البيان، أي بيناها.
ج – قوله تعالى:(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَاد)
وجه الدلالة: أن كلمة (فرض) في هذه الآية الكريمة، تستعمل في الإنزال، أي أنزل عليك القرآن.
ثانياً: المعقول، بما يأتي:
أن لفظة الفرض والواجب عند أصحاب المذهب الثاني، دليل على التغاير بينهما، حيث قالوا: إننا نكفر الجاحد الذي ينكر حكم الفرض الذي ثبت بدليل قطعي، دون أن نكفر الذي ينكر الواجب الذي ثبت بدليل ظني، وهذا يؤدي إلى اختلاف في الأحكام ، فلا بد من اختلاف في الاسم بينهما.
مناقشة الأدلة:
ونوقش بأدلة منها:
أ - أن طريق التفرقة بين الأسامي في مسمياتها اللغة والشرع والعرف، أو العادة والقياس وقد طلبنا في اللغة ما يدل على التفرقة بين الواجب والفرض بما ذكروه فلم نجد إثبات ذلك لمقتضى اللغة بحال، ولا نعلم في الشرع نطقاً عن النبي ? ولا عن أحد من الصحابة ورد بالتفرقة بينهما بما ذكروه، والعرف والعادة لا دليل فيهما على ذلك، فلا وجه لإثبات ذلك من غير طريق هذه الجهات.
ب - أن القعود في الصلاة فرضاً عند أصحاب المذهب الثاني، وكذلك مسح ربع الرأس فرضاً، ولم يثبت بقاطع .
وقال القاضي: وجعلوا الوضوء من الفصد فرضاً مع أنه لم يثبت بقطعي، وكذلك الصلاة على من بلغ في الوقت بعد ما أدّى الصلاة، والعشر في الأقوات وفيما دون خمسة أوسق، وحكى الرافعي عن العبادي، فيمن قال: (( الطلاق واجب عليّ)) تُطلق، أو فرض لا تطلق، وليس هذا بمناف للترادف ، بل لأن العرف اقتضى ذلك، وهو أمر خارج عن مفهوم اللغة.
فالخلاف إذن لفظي، لأن القضية مجرد اصطلاحات، ولا مشاحة في الاصطلاح، لأن المعاني مفهومة من الاصطلاح ، والله تعالى أعلم بالصواب.

ناسف على عدم نزول الهوامش مع البحث لسبب جهلنا بالكيفية ... ومن الله التوفيق