أثر الخادمة الأجنبية على الأطفال
اللغة رابط أساسي، يربط أفراد الأمة بعضها ببعض، وكلما ازدادت عناية أفراد هذه الأمة بهذه اللغة كانت الرابطة أقوى وأحكم، والأطفال جزء مهم في الأمة، وهم يحتاجون إلى اللغة؛ حتى يتواصلوا مع مَن حولهم، وكي يُفكّروا بها أيضًا. فإذا اعتنينا بلغة الطفل من خلال التواصل معه باللغة العربية ارتبط بمجتمعه، وظهر ولاؤه له واضحًا جليًّا، وسهل عليه التعبير بها عمّا تجيش به نفسه؛ لأنه – بذلك – سيفهم جيدًا المفردات وأساليب القول، وسيكون قريبًا من لغة القرآن. ومن المعلوم أنّ ثروة الأمم أطفالها؛ لذلك نراها تسعى إلى إكسابهم الثقافة والأدب الذي تريدهم أن يتمثّلوه في المستقبل من الآن. ولا يخفى دور الأسرة في عملية التّمثُّل و الإكساب هذه.
خطر تأثير الخادمة على الأطفال:
ونركّز الآن على جانب واحد من جوانب هذه العملية، يُؤَثّر تأثيرًا كبيرًا فيها، هو وجود غريبة عن الطفل لغةً، وثقافةً، وعادات، ودينًا أحيانًا، تخالطه وتلازمه وتحاوره. فكيف تصل الرسالة اللغوية عربية سليمة إذا كان من يحتكّ بطفلنا غير عربي، ولا يعرف من العربية شيئًا؟ ونحن هنا نشير إلى الآثار السلبية على مستوى اللغة فقط.
و أيّما أسرة أوكلت أمر صغيرها لغريبة عنه لغة وغيرها، فقد فرّطت وخانت الأمانة. وإن كان لابد منها فبمقدار ما تنتفي الضرورة والحاجة؛ فالغريبة لن تكون أبدًا بديلاً عن الأبوين على مستوى اللغة وما تحمله من مضامين.
الأطفال نعمة عظيمة رزقناها الله، لا يقدر قدرها إلا من حرمها أو فقدها، والنعمة تستحقّ الشكر الذي من أجلّ مظاهره حُسن تربيتهم ورعايتهم، وعماد التربية اللغة، واهتمام الوالدين بلغة أطفالهم ضرورة من ضرورات التربية، قديمًا وحديثًا. ونحن-المسلمين- يتحتّم علينا الاهتمام الكامل والواعي بلغتنا ولغة أطفالنا؛ لأن العناية باللغة من الدِّين. فهل نُفرِّط بديننا؟ وهل نترك بعد هذا أطفالنا لغريبة فكرًا وثقافة ودينًا ولغة غير فكرنا وثقافتنا وديننا؟
إذا وصلت هذه الرسالة إلى الأبوين، واقتنعا بها، فإن الحل سهل عند ذلك؛ لأنهما سيتصرّفان كما يتصرّف المريض الراغب في الشفاء، عندما يذهب إلى الطبيب الخبير، فيبدآن بسؤال أهل الخبرة والاختصاص، ويلازمان العلاج، فينجوان وينجو كل من يحملانه في سفينتهما.
إنّنا لا نريد لغات جديدة تفرضها علينا الخادمات، وآمل أن يأتي اليوم الذي نستطيع فيه أن نوصل لهن لغتنا الجميلة، وتتلاشى فيه تلك اللغة الركيكة المضحكة: (أنا ما في معلوم صديق)...! حتى أصبح الكبار والصغار يتخاطبون مع الخدم بتلك الكلمات الركيكة.
وبدل أن يتأثر الخدم تأثرنا نحن بهم !؟
مسؤولية الآباء: فعلى الوالدين مدّ جسور لغوية سليمة، ومتينة لأبنائهم، وتقديم الأرضية المناسبة لهم للانطلاق في قابل أيامهم، فالله سبحانه قد أودع ملكات كثيرة، وعظيمة في هؤلاء الأبناء، إن لم نستثمرها ونعمل على تنميتها، ورعايتها، فإنها سوف تذبل، وتضمحل دون شكّ، ولسوف نُسأل عن تقصيرنا في حق هؤلاء الأطفال رجال المستقبل ونسائه. وقد يكون من المناسب أن تتابعهم مربية عربية مسلمة موثوقة علمًا، وخلقًا وماهرة في لغتها، ولا يُعد هذا هدرًا ولا إسرافًا، بل إنه بناء واستثمار، وأنعم به من استثمار! ولا تخفى فوائد إشراف مربية متميزة لغويًا على أطفالنا، فمن هذه الفوائد: إعدادهم للمراحل التعليمية اللاحقة إعدادًا قويًا صحيحًا، ومنها إكسابهم لسانًا ناطقًا فصيحًا قادرًا على المحاورة بجرأة، ومن حيث إدراكهم السليم للعلوم والمفاهيم التي حولهم... والمعوّل عليه هنا هو الإرادة الحقيقية للوالدين، والرغبة الجادة في إنجاحهم. إن اهتمام الوالدين باللغة العربية السليمة اهتمام بالدين، والمسلم مطالب بالعناية بلغته ولغة أطفاله، والاعتزاز بها، والإعلاء من شأنها في كل حين، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فيبدأ بنفسه ويُثنّي بأولاده.
ومن العجيب في أيامنا هذه تهاوننا في لغتنا على أصعدة كثيرة، منها على صعيد الخدم في المنازل، فنحن إذا احتجنا إلى الآخرين تعلّمنا لغتهم، والخادمة بحاجة إلينا، وعليها أن تتعلم لغتنا، ولكن لهوان لغتنا علينا صرنا نتعلم لغتها، أو نحدثها بين بين؛ أي بلغة ليست بعربية ولا أجنبية! وهي تُحدّث أطفالنا بهذه اللغة الهجينة، وتشرف عليهم في دراستهم، وحل واجباتهم، ولربما حلّت لهم الواجب أحيانًا، وقد اطلعت على نماذج من ذلك بنفسي عندما كنت مدرسًا في إحدى المدارس الخاصة.
خطر تعلق الطفل بخادمته: معلوم أن حبك الشيء يعمي ويصم، ومن ذلك حب الصغير خادمته؛ إذ إنّ له مخاطر جسيمة، فالقصص الواقعية ليست قليلة، تلك التي مال فيها الصغير للخادمة أكثر من ميله لأمه؛ لأنها: أي الخادمة ترعاه ساعات طويلة، في حين أنه لا يكاد يرى أمه! وهو خلال تلك الساعات ينهل من هذه الخادمة، وما أرفعه من منهل!.
ومن المعلوم بداهة أن الخادمة لا تربي، وهي لم تدخل بيوتنا لتربي أصلاً، ولكن رويدًا رويدًا تنازلت الأم عن دورها إلى هذه الخادمة، وكلنا يعلم أن الشارع لا يربي، ولا ننتظر من أطفال الشوارع أدبًا ولا علمًا ولا نجاحًا، وفي ظني أنهما متشابهان: الخادمة والشارع، فترك الأطفال في الشارع خطر، ومأساة، وكذلك تركهم في أحضان الخادمة خطر ومأساة: يتلقّون عنها فكرها، وأسلوبها، ولغتها، فهي المسؤولة عنهم من لحظة استيقاظهم إلى عودتهم إلى النوم ثانية، وما يتخلل ذلك من أكل ولبس، وذهاب إلى المدرسة وعودة، وكأن أمهم للولادة فقط.
وكذلك في أوقات فراغهم ونزهاتهم فهي المسؤولة عنهم، تلاعبهم وتقص عليهم قصصًا ممسوخة؛ لتشغلهم، وتمضي الوقت بأقل إزعاج لها ولأمهم، كل ذلك بلغة ركيكة وقد تستعين بلغتها أحيانًا، فينتج هذا لغتين عند الطفل: لغة الخادمة، ولغة أمه وأهله، وهذا لا يخدم الطفل في شيء، بل يفسد عليه أشياء كثيرة؛ لأنه أسلوب دخيل مؤذٍ، فهو يُشكل بيئة غير صالحة لينهل منها الطفل، فيتأثر بطريقة كلامها ونطقها، وربما يتعثر في بعض الحروف بسببها، فضلاً عن استساغه سماع ما تحب بلغتها من أغان، وأفلام أجنبية، وغير ذلك. وقديمًا قالوا: العلم في الصغر كالنقش على الحجر. وقد قال ابن خلدون:«إن تعليم الصغر أشد رسوخًا وهو أصل لما بعده...». ولا يختلف أحد من المربين في ذلك.
حق الطفل على والديه: إن من حق طفلنا علينا أن ينعم بدفء كلمات أمه و أبيه، فهو الوضع الطبيعي في المنزل: الطفل حول أمه تحدثه كلما سنحت لها الفرصة، ولا تترك تصرفًا له إلا أثنت عليه إن كان صوابًا، أو أرشدته إلى الصواب إن كان خطأ.
كل ذلك بلغة الأم المؤثرة فيهم، والمتدرجة في الإرشاد. ولا يخفى على أحد أثر الأحاديث الودية في الأسرة، من حيث إسهامها في بروز جيل ذي شخصية قوية واعية، ومهما كانت الغريبة جيدة فلن تقوم مقام الأم، ولن تؤدي عشر ما تؤديه الأم؛ إذ ليست النائحة كالثكلى. فمخاطر الغريبة في المنزل كثيرة جدًا، ولعل أولى خطوات الوعي بهذه المخاطر هو التساؤل عن ماهية ذه المخاطر لمن لا يدركها، والوقوف عندها، وعلاجها، هروبًا من التبعات، وحملاً للأمانة على وجهها الأقوم، عملاً بقول المربي الصادق رسول الله صلى الله عليه وسلم : «والرجُلُ راعٍ على أهل بيته وهو مسؤولٌ عن رعيتهِ، والمرأة راعيةٌ على أهل بيت زوجها وولدِهِ وهي مسؤولة عنهم » وأثني بحديث رائع آخر، في بيان أثر الجو المحيط بالطفل، لمعلم الناس الخير سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم : «ما من مَولودٍ إلاَّ يولَدُ على الفِطرةِ، فأَبَواهُ يُهوِّدانه أو يُنَصِّرانهِ أو يُمجِّسانهِ..»
إن كل تقصير منا_ نحن الآباء_ نحو أولادنا عقوق سنجني مرارته، كذلك فإن كل اهتمام ورعاية لهم سنجني حلاوتها، فهم الثروة الحقيقية لنا ولأمتهم؛ لأنهم حقًا أغلى من الذهب الأصفر، والأسود، والأبيض...
وقفة لابد منها: هذا، ولم نفصّل القول- ما سبق ذكره -في لغة الأم؛ لأن ما يعنينا هنا بالدرجة الأولى لغة الخادمة وتأثيرها في أطفالنا.
ولكن بوقفة عجلى على لغة الأم التي هي العامية دون شك، تتضح الصعوبة التي تواجه أطفالنا عندما يلتحقون بالمدرسة، فلغة المنزل عامية، ولغة المدرسة الفصحى، والطفل لم يسمع الفصحى إلا قليلاً، من خلال بعض برامج الأطفال في التلفاز، هذا البعد عن الفصحى قبل المدرسة له تأثير سلبي في أطفالنا، من حيث نفورهم من المدرسة ولغتها، وهنا تأتي الخادمة لتزيد الطين بلّة، والهوّة اتساعًا، فهل نتدارك الأمور لنحافظ على لغتنا؟
اعداد: المستشارة التربوية: شيماء ناصر