(بِسمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ):
ابتدأ بالبسملة اقتداءً بالكتاب العزيز؛ الذي بدأت كل سورة من سوره بالبسملة، وائتناسا بالحديث الشريف - إنْ صح -: ((كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لاَ يُبْدَأُ فِيهِ بِـ: بِسْمِ اللهِ -: فَهُوَ أَبْتَرُ))، واقتداءً بالسنة العملية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم – فقد كانت بُداءةَ مكاتباتِهِ - صلى الله عليه وسلم – البسملةُ؛ كما في كتاب هرقل، عند الإمام البخاري في بدء الوحي، وكتبه الأخرى إلى الملوك والأمراء داعيا إلى الله بأبي هو وأمي.
ولا داعي لإطالة الكلام على البسملة معنًى وإعرابا؛ فإن في الحواشي من هذا نَهَلا لعليل، وغَنَاءً لمستزيد، وحتى لا يخرج الكلام عن سياقه.
(نَحْمَدُك اللَّهُمَّ):
الحمد: الثناءُ بالجميل على وجه التعظيم والتبجيل، وليس الحمدُ مقلوبَ المدح؛ (كـ: جَذَبَ وجَبَذَ)؛ لكمال التصريف في الحمد والمدح.
وخرج بالجميل: القبيح؛ كالجبن والبخل.
وبالاختياري: غير الاختياري؛ كبياض اللؤلؤة.
وعلى وجه التعظيم: ما كان على غير وجه التعظيم؛ كأنْ يراد بالمدح السخرية والتهكم؛ نحوُ قوله تعالى:{ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الكَرِيمُ}، أوِ الخبرُ؛ كأن يقال تَلْقِينًا للجاهل: ((الله تعالى عالم وقادر))، أو التخصيصُ وتقليلُ الاشتراك؛ نحو: ((أبو حنيفة من الفقهاء))؛ فما عدا الجميل من المحترزات السابقة من قبيل المدح لا الحمد.
والجميل يشمل الذاتي؛ كالعلم والقدرة، والمتعدِّيَ؛ كالخلق والرزق؛ فيكون الحمد - على ذلك - معنًى عامًّا ينتظم الفضائل والفواضل، وعلى هذا جرى النظم القرآني؛ فمن الحمد على الفضائل:
ـ {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}[البقرة: 30]، فتقديس الملائكة – وهو مطلق التنزيه عن النقائص، وإثبات الاتصاف بصفات الكمال من الجمال والجلال - يفيد ارتباط التسبيح بحمده تعالى على الصفات الذاتية (الفضائل) لا المتعدية (الفواضل).
ـ {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ}[الفرقان: 58].
ـ {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا}[الإسراء: 111].
ـ {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[القصص: 70].
ـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}[سبأأ: 1]؛ بالنظر إلى اختصاصه تعالى بالحمد في الآخرة.
ـ {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[غافر: 65].
ومن الحمد على الصفات المتعدية (الفواضل) - وهو غالب الاستعمال القرآني لمادة الحمد – قوله تعالى:
ـ {الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة: 2]: فاقتران الحمد بالربوبية يفيد نَوْطَ الحمد بصفة من الصفات المتعدية؛ هي الخلق والحفظ والرعاية.
ـ {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[آل عمران: 188]: فإن في محبتهم المَحْمَدَةَ بما لم يفعلوا إثباتَ صحة إطلاق الحمد على الصفات المتعدية إلى الغير؛ إذ فيه التصريح بصحة إطلاق الحمد على الفعل.
ـ {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ}[الأنعام: 1].
ـ {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الأنعام: 45].
ـ {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ}[الأعراف: 43].
ـ {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء}[إبراهيم: 39].
ـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا}[الكهف: 1].
ـ {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[المؤمنون: 28].
ـ {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ}[النمل: 15].
ـ {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ}[النمل: 59].
ـ {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَ ا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}[النمل: 93].
ـ {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ}[العنكبوت: 63].
ـ {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ}[فاطر: 34].
ـ {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}[الزمر: 74].
ـ {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الجاثية: 36].
وعبر المصنف عن الحمد بصيغة المضارع: لأنه حقيقة في الحال بخلاف الفعل الماضي، والأصل الحقيقة.
وعدل إلى الجملة الفعلية ـ مع أن عادة القرآن في الحمد أن يأتي بالجملة الاسمية الدالَّة على الثبات والاستمرار ـ: إشعارا بتجدُّد الحمد، وهو الأليق بمقام العبد؛ لا سيما والحمد من العبد آلته اللسان؛ فهو أصرح في الدلالة على صدور الحمد من المتكلم، والحمد مطلوب التكرار حينا بعد حين، وقيل: اعتبر المصنف هذا الكتاب نعمة جديدة استدعت تجديد الحمد، فعبر عن الحمد بما يفيد التجدُّدَ والاستمرار.
والجملة الفعلية ها هنا من قبيل الإخباريِّ لفظا الإنشائيِّ معنًى؛ إذ المراد إنشاء الحمد، وهذا معنى قول المحلِّيِّ: ((المراد به: إيجاد الحمد، لا الإخبار بأنه سيوجد))، وما كان من الذِّكر إنشائيا لفظا، فإنه يترتب عليه الثواب بمجرد النطق به، بل ذكر الإمام القرافي أن هذا النوع من الأفعال لا يفتقر إلى نيةٍ؛ لأن هيئته متعيِّنَةٌ في القُرَب، والنية وظيفتها التفريق بين العادة والعبادة، أو التفريق بين مراتب العبادات، أما ما كان خبريا لفظا، إنشائيا معنًى، فإنه يستدعي نية القربة؛ ليترتب عليه المدح والثواب.
ومن لطائف ما يذكر في تفسير الحمد:
ـ أن حمد الله تعالى لا يكون إلا بتوفيق من الله للعبد إلى أن يَحمَدَهُ، وهذا التوفيق يستدعي من العبد الموفَّق إنشاءَ حَمْدٍ جديدٍ على هذا التوفيق، وكلما أنشأ العبد حَمْدًا لربِّهِ، نظر إلى حسن توفيق الله له إلى الحمد؛ فاستدعى منه حَمْدًا جديدا، وهكذا يحتاج العبد إلى أن يَستغرِقَ جميع ملكاته وكلِّيَّتَه في الحمد، ويكون الحمد - على هذا التأويل – هو الشيءَ الذي يصح إثبات التسلسل فيه، وقد قيل في هذا المعنى:
إِذَا كَانَ شُكْرِي نِعْمَةَ اللهِ نِعْمَةً *** عَلَيَّ وَفِي أَمْثَالِهَا يَجِبُ الشُّكْرُ
فَكَيْفَ بُلُوغُ الشُّكْرِ إِلاَّ بِفَضْلِهِ *** وَإِنْ طَالَتِ الأَوْقَاتُ وَاتَّسَعَ العُمْرُ
ولما كان شَغْلُ المَلَكات جميعِها والأعضاءِ كلِّها في جميع الأزمان والأماكن والأحوال بالحمد المستحَقِّ لرب العالمين أمرا متعذِّرًا -: أنعم الله على عباده برحمته ومنِّهِ وكرمه، فأرشدهم إلى جوامع الكلم المستغرِقَةِ لجميع المحامد؛ فأعلمنا بما أوحى إلى حبيبه وخليله – صلى الله عليه وسلم - أنَّ الذكر والتسبيح بالكلم الجوامع مغنٍ عن استغراق العبد نفسَهُ في الذِّكْرِ؛ فقد أخرج الإمام مسلم عن أبى سعيد الخدرى – رضي الله عنها - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رفع رأسه من الركوع، قال: « ربنا لك الحمد، ملءَ السموات والأرض، وملء ما شئت من شىء بعد، أهلَ الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، اللهم، لا مانع لما أعطيت، ولا معطِىَ لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجدُّ».
وفي مقام التسبيح أرشدنا إلى ما أخرجه الإمام مسلم أيضا عن جويرية – رضي الله عنها - أن النبى - صلى الله عليه وسلم - خرج من عندها بُكرةً حين صلى الصبح، وهى فى مسجدها، ثم رجع بعد أن أضحى، وهى جالسة، فقال: «ما زلتِ على الحال التى فارقتُكِ عليها؟ قالت نعم، قال النبى - صلى الله عليه وسلم - «لقد قلتُ بعدَكِ أربع كلمات ثلاثَ مراتٍ، لو وُزِنَتْ بما قلتِ منذ اليوم، لَوَزَنَتَهُنَّ : سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته».
وكذلك في مقام الثناء على الله بما هو أهله: فإن علم العباد قاصر، لا يطمع في إدراك حقيقة الكمال الإلهي، ولا سبيل لهم إلى الإحاطة بهذا الكمال؛ قال تعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء}، وقال أيضا: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا}، وقال تعالى: {وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}؛ فأرشدنا ربنا عز وجل بمَنِّه ورحمته وحُسْنِ توفيقِهِ إلى مجامع الثناء بإحالة الثناء إلى علم الله الشاملِ بجميع جهات كماله بجماله وجلاله، ((لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)).
وتصدير فعل الحمد في المتن بالنون له – عند الشرَّاح - تخريجان:
التخريج الأول: أن هذه النون نون الجمع؛ مع تأويله بإرادة نفسه ومَن معه مِنَ المخاطبين بهذا المتن من طلبة العلم والمستفيدين بهذا الكتاب من بعده، أو إرادة من كان مثله من العلماء الراسخين الكبار الذين اعتادوا البُداءَةَ بالحمد في مصنفاتهم، أو أنه أدخل نفسه في جملة الحامدين؛ وهذا كله أدعى إلى القبول لما يرجى من بركة الجمع، أو أنه أراد تنبيه المخاطبين والإلماعَ إلى أن حَمْـدَ الله تعالى من شأنه أن يتواطأ عليه العباد، ولا يتخلف منهم أحد.
التخريج الثاني: أن هذه النون نون العظمة، لإظهار لازم العظمة؛ الي هو وجوبُ حمد موجِدِها ومانحها، وتعظيم الله تعالى بتأهيله للعلم، من قبيل التحدث بنعمة الله تعالى عليه.
ولما كان العبد مخلوقا للعبادة، مشغولا باللَّهَجِ بالذِّكر والدعاء، والضراعة والإنابة، استلزم ذلك توظيف جميع أعضائه في عبادة ربه، وتوظيف القلب يكون باستحضار صفات الجمال والجلال في القلب ليكون القلب موجها للبدن وَفْقًا لمقتضى هذه الصفات العليا، وتوظيف اللسان يكون بالثناء على الله بصفات الجمال والجلال، وهذا هو الحمد، ويكون بتوظيف الأعضاء في العبادة، وهذا هو الشكر، ولهذا ارتبط الشكر بالحمد كثيرا في كلام الأئمة في شرح مقدمات الكتب، والشكر عندهم: صرف العبد ما أولاه مولاه من نداه في طاعة مولاه، غير فَرِحٍ بالنعمة، بل بالمنعِم بها.
وقوله: (اللَّهُـمَّ):
بصيغة الخطاب؛ أي: يا الله، والميم عند البصريين عوض عن حرف النداء المحذوف، ولذلك لا يجتمعان إلا شذوذا؛ ومن أمثلته قول الراجز:
إِنِّي إِذَا مَا حَدَثٌ أَلَمَّا *** أَقُولُ يَا اللَّهُمَّ يَا اللَّهُمَّ
ويجوز الجمع بينهما عند الكوفيين.
وقد يقال فيه: ((لاَهُمَّ))؛ ومنه قول عمرو بن سالم الخزاعي:
لاَهُمَّ إنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدَا *** حِلْفَ أبِينَا وَأبِيكَ الأتْلَدَا
وقول عبد المطلب [من الكامل]:
لَاهُمَّ إِنَّ العَبْدَ يَمْـ *** ـنَعُ رَحْلَهُ فَامْنَعْ رِحَالَكْ
وَانْصُرْ عَلَى آلِ الصَّلِيـ *** ـبِ وَعَابِدِيهِ اليَوْمَ آلَكْ
وعدل المصنف عن قول: ((نحمد الله)) مع كونها أخصر وكونِ الاختصار أنسَبَ للمتون؛ إيثارا لصيغة الخطاب؛ للتلذذ بخطاب الله بالكاف، وندائه بالميم.
(عَلَـى نِعَـمٍ):
نَكَّرَ النِّعَمَ للتعظيم؛ كقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ}، وقوله: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ}؛ أي: كثيرون عظماء، وقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا}، وصيغة النِّعَمِ من صِيَغِ جُمُوعِ الكثرة ليَجمع بين وصفَيِ الكثرة والعظمة في هذه النعم؛ فيكون أنسب إلى بساط الحمد والثناء.
والنِّعَم إما أن يراد بها: الأشياءُ المنعَمُ بها على العبد؛ كالعلم والدين والتوفيق، ومنه تأليف هذا الكتاب، وإما أن يراد بها الإنعام الذي هو الصفة الفعلية فيكون حَمْـدًا على الصفة من حيث متعلَّقُها، والأول أقرب إلى اللفظ، وأنسب لموقع الشكر ومقام الافتتاح، وبِساط التأليف، والثاني أنسب بموقع الحمد؛ لما فيه من عموم المتعلَّق.
(يُؤْذِنُ الْحَمْدُ بِازْدِيَادِهَا):
الإيذان: هو الإعلام، قال تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}، وقال تعالى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ}، ومنه قول الحارثِ بنِ حِلِّزَةَ اليَشْكُرِيِّ:
آذَنَتْنَا بِبَيْنِهَا أَسْمَاءُ *** رُبَّ ثَاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثُّوَاءُ
أي: أعلمتنا.
ولام الحمد إما أن تكون للعهد؛ أي: حَمْدُنَا السابق يؤذن بازدياد النِّعَمِ علينا، أو للجنس؛ أي: جميع النِّعَم من شأنها أن الحمد عليها يؤذن بازديادها على الحامد، ولا يخفى هاهنا الاقتباس من قوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُم ْ}.
وصيغة الافتعال في الازدياد دالَّة على المبالغة في تأكيد الحصول.