بسم الله الرحمن الرحيم

أجل... ولو مسماراً صدئاً... أو حصاة هشة... أو عوداً من الحطب...

فما الكل إلا جزيئات، وما التمام إلى إلا لبنات، وما السيل الهادر إلا قطرات ماء اجتمعن إلى مصب واحد فانهمرن كالصاعقات.

ألا رحم الله من يدق في نعوش الطغاة مسماراً... أو يرجم رموز الشر بحصيات ولو صغاراً... أو يزكي بعود حطب نار الغضب فيزيدها أواراً.

فبأي عذر يعتذر المحجمون؟

أتفقد جموع المضحين فأفتقد أحقهم وأولاهم بصفوفها الأولى... علماءنا... دعاتنا... أئمة الفقه والفتيا! أرى هناك من أهل الدين والنخوة من هم موضع تقديري وتبجيلي، ولكنهم يدركون معي أن لا غناء للناس عن أهل العلم طليعة لهم، وقدوة تلهب حماسهم، وثقلاً فقهياً يلزمهم الواجب ديانة والمفروض شرعاً.

أيحسبون أن دورهم مقصور على الكلمة؟ أو أن فتاواهم يمكن أن تكون موضع امتثال من الناس دون أن يتمثلوها هم، بل وأن يضربوا فيها روائع الأمثال؟

لو اقتصر على الكلمة أئمتنا...

فلم يمتحن أحمد في المحنة فيثبت، ولم يعذب مالك في الفتيا فيحتسب، ولم يُنف الشافعي فيصبر، ولم يُبعد العز فيُصِر، ولم يُسجن ابن تيمية فيواصل، ولم يقدم أحمد بن نصر إلى القتل فيُستشهد، ولم يُسق سيد إلى الإعدام فيضرب المثل... لو فعل أولئك العظام ذلك... إذاً لضاع الحق بين إحجامهم وإبطائهم وبين بغي السلاطين وتماديهم.

لو أنهم فرطوا فيما يحملون من أمانة متذرعين باتقاء قهر المتسلطين المتجبرين، وتفادي بغي الجلاوذة الظالمين... فلم يؤدوا ما حملوا من أمانات الله؛ {وَإِذْ أخذ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّه ُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ}، ودخلوا فيمن قال الله فيهم: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارَاً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظالِمينَ}... إذاً لما وصلنا الدين صافياً نقياً، ولفقدنا المثل المحتذى في حفظه وأدائه.

لو أنهم أفرطوا في اعتبار المصالح، حتى تجاوزوا حد الحقيقة إلى الوهم، والدين إلى الدنيا، والأمة إلى "نفسي نفسي"... إذاً لما حُميت لنا الأصول، ولما حفظت لنا السنة.

لو أنهم إذ أغروا بألقاب "الاعتدال" و "المعتدلة" و "المعتدلون" فاغتروا... إذاً لكان التساهل ديدنهم، والترخص منهجهم، والتمييع طريقتهم.

ولكنهم ما فعلوا... ومن فعل ذلك من معاصريهم هَلَكَ فما بكت عليهم السماء والأرض، ثم بلغنا أين نبذهم التاريخ، وكيف لعنتهم الناس، وبأي جزاء عاقبهم الله في الدنيا قبل الآخرة.

فأي قدوة وأي سلف يختار أئمتنا وعلماؤنا ودعاتنا وطلاب العلم فينا، وهم طليعتنا المرجوة، وشاطئنا المأمول؟

أليس قد تعين عليهم الصدع والإقدام؟

أليس واقعنا يفوق في انحرافه وضلاله واقع أسلافنا أضعافاً مضاعفة، بل لا وجه للمقارنة بين هذا وذاك؟

وهل يمكن الزعم بأننا اليوم أكثر حكمة وتأنياً من أسلافنا أولئك الذين أقدموا مدركين أنهم مقدمون على ما فيه تلفهم أو هلاكهم، ذلك مع كون السلطان آنذاك للإسلام، والحكم لله، والجهاد والغزو ماضيين مع برهم وفاجرهم؟

نعم... وقد وقعت ثم خيانات، لكنها لم تكن أبداً بهذا الحجم الذي تواطأ فيه جُل المستأمَنين، وانغمس في رجسه طوائف عريضة من الحكام والسلاطين.

كانت الخيانة إن وقعت يتمالأ على فضحها ومحاسبتها أهل المشرق والمغرب أجمعون، أفيستقيم أن نواجه خيانات اليوم على شناعتها وفجاجتها بهذه السلبية المقيتة، مكتفين بكلماتنا تلوكها ألسن، أو تسود بها صفحات... دون أن تستحيل إلى فعال؟!

لا والله لا يغني الكلام عن العمل، ولا سكب المداد عن بذل الدماء... فلتذهب مهج ذهابها هو الحياة... حياة هي الدين والشرف، والعزة والكرامة... وإلا فما معنى الحياة؟ وما قيمة العافية بلا دين وشرف وعزة وكرامة؟

ويقولون: واقع الأمة مزرٍ... وأبناؤها غير مؤهلين... والناس على لذاتهم ودنياهم عاكفون!

نعم... لقد ضعف في الناس وازع الإيمان، وحيل بينهم وبين الالتزام الحقيقي بالإسلام، وصرف كثير منهم إلى غير ما خلقه الله له، تجهيلاً أو تفسيقاً أو إلهاء... فانساقوا إلى غايات تافهة أو سافلة أو ظالمة، مجاراة للملأ والسادة، أو اتباعاً لمناهج مبتدعة منحرفة، أو تحيزاً لأحزاب ضالة عمية، أو ولاءً لأعداء الأمة وأشياعهم.

ولكن أليس إذا ضعف في الناس وازع الإيمان؛ عُوِضَ عن ضعفهم بعظمة المثال؟ وأي مثل أعظم وأبلغ من عالم عامل بعلمه، مبتلى في سبيله، باذلٍ دنياه ضريبة بخسة من أجله؟... وبأهل العلم أنيط الاقتداء... قال تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذيِنَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}، وأولوا الأمر هنا؛ هم العلماء، كما يقوله جمهور المفسرين.

هذه الطاعة التي أوجبها الله لأهل العلم إنما تجود بها النفوس أمام روعة المثال، حينما يكون للعالم نفوذ أدبي على تلك النفوس، نفوذ أدبي ساحر، وقبول قلبي آسر - وتلك هي حقيقة الولاية التي استحقوا بها أن يعدوا هم ولاة الأمر، كما قال الجمهور - ولا سبيل يُرجى لذلك إلا بأداء العالم الأمانة التي حملها ورعايته إياها حق رعايتها، على أن حجم النفوذ المنشود لا ينبغي أن يكون دون ما يُمَكِنه من التأثير والتحريك والتغيير.

والحق أننا لن نبدأ من الصفر، فإنه لم يزل في الأمة إجلال لأهل العلم والدين، - على الرغم مما ألحقه العلماء المفتونون بشخصية رجل العلم من عار، والصادقون منه براء - والناس لا يمنحون ذلك الإجلال إلا من صان نفسه عن المخالفة، فضلاً عن التهتك والانحلال، ونأت به أنفته عن غشيان أبواب السلاطين، فضلاً عن تملقهم والالتحاق ببطانتهم، وحملته نفس أبية على الصدع بالحق وإن كان مراً لا يخاف في جنب الله لومة لائم، فضلاً عن ترك السكوت على باطل أو الإقرار على منكر.

فلا تعجب وقد تأخر علماء الأمة أن يتأخر عمومها... ولا تعجب وقد قنع الدعاة بمنابرهم أن يقنع الناس ببيوتهم... ولا تعجب وقد حُبست كلمات المفتين في كتبهم أن تُحبَس ألسنة المستفتين في أفواههم.

ولئن كان المقدمونَ أشحاءَ بأرواحهم؛ فالناس بها لا جرم أشد شحاً... ولئن آثر السلامة من تُتوخى عنده القدوة؛ فالمقتدون لا جرم لها آثر، وعليها أحرص...

فيا علماء الدين يا ملح البلد من يُصلح الملح إذا الملح فسد

الكاتب : محمد مصطفى المقرئ