مذهب أهل السنة في الخلاف :
الخلاف أنواع :
1- خلاف الترف :
تعريفه : هو كل خلاف لا يترتب عليه عقيدة أو عمل ، أو ثمرة ، أو مخالفة نص .
مثاله : عدد أصحاب الكهف ومكانهم ؟–شجرة آدم التي أكل منها ؟ -الجنة التي خرج منها آدم ؟
قاعدته وحكمه لطلاب العلم : يجوز ولا ينبغي إذا ترتب على ذلك ضياع وقت ، فالحفاظ على الوقت أولى ، وحتى لا يتأسى الناس بهم .
حكمه للعوام -ولو كانوا مثقفين- : ينصحون بتركه، وإلا فيتركون ولا ينكر عليهم .. إذا كانوا سينشغلون بغيره من الحرام .
2- خلاف التنوع : هو كل خلاف يجوز فيه أكثر من وجه .
قاعدته وحكمه : يحرم الشقاق فيه ، ويختار المسلم منه ما يراه ، أو ما كان في مصلحته .
مثاله : تنوع القراءات تعدد أدعية الاستفتاح في الصلاة - اختيار الزواج أولاً أو الحج .
3- الخلاف المعتبر أو خلاف الفهم والاجتهاد :
تعريفه : هو كل خلاف صدر ممن اتصف بثلاث .
- أهلية الاجتهاد : وهي توفر شروط الاجتهاد فيه ، التي اتفق عليها أهل السنة والجماعة.
- أصوله صحيحة : أي : أصول دينه ، وأصول اعتقاده ، وأصول استنباطه ، على منهج أهل السنة والجماعة .
- مناط حكمه معتبر : أي أن يكون الحكم الصادر منه أو الفتوى ، مناطاً بما هو معتبر عند أهل السنة والجماعة ، من الكتاب أو السنة أو الإجماع ، فلا يخالف المجتهد إجماعاً ، ولا نصاً قد اتُّفق على معناه ، وأن يكون اجتهاده مبنياً على أصول الفقه المعتبرة ، لا أن يكون الحكم والفتوى معلقة بالمصالح و النتائج ، ومناطة بالواقع و تتبع الرخص ودعوى رفع الحرج والتسهيل . وما شابه ذلك .
مثاله : اختلاف الصحابة في صلاة العصر في بني قريظة - اختلاف العلماء في قراءة الفاتحة في الصلاة الجهرية -حكم وجه المرأة- الاختلاف في الأعيان تعديلاً وتجريحاً ، وما شابه ذلك .
قاعدته : نبيـن ولا نضلل ، نصحح ولا نجرح .
- أي نخطّئ ولا ننكر ، فإن الإنكار لا يكون إلا لمنكر ، وقد مضى مذهب السلف أن لا إنكار على مجتهد معتبر بالشروط السابقة.
-يُعذر أصحاب هذا الخلاف ، ولو كان في العقيدة ( )، وسيأتي شيء من التفصيل في نهاية هذا الباب .
- يبقى هذا الخلاف في دائرة الخلاف المعتبر ، ما لم يظهر نص يحسم الخلاف بالاتفاق .
-يشرع ترك الرأي للأعلم والأفضل ، أو لمصلحة عامة للمسلمين من وحدة الصف ، أو تآلف القلوب، أو درءاً لمفسدة كبيرة .
الموقف منه : يأخذ طالب العلم ما ترجح له .. وأما العامي : فيأخذ ما اطمأن إليه قلبه ، وقد يكون من عوامل الاطمئنان اتباع الأعلم ، أو الأكثر ، أو الأتقى ، أو الأحوط ، أو صاحب الاختصاص أو….
من صور الخلاف المعتبر:
الصورة الأولى : الخلاف بين أهل السنة أنفسهم :
اعلم -رحمني الله وإياك- أن أي خلاف اشتهر بين أهل السنة والجماعة ومضى ، دون إجماع منهم على رأي ، فهو من باب الخلاف المعتبر، الذي لا يجوز التنازع فيه ولا المفارقة لأجله ، ولا التحزب ، ولا الإنكار.
كالاختلاف في حكم تارك الصلاة ، وتارك جنس العمل ( )، وأول الخلق ، وعورة وجه المرأة ، وما شابه ذلك ، ومن فرق لأجل هذا أو اتهم ، أو نسب أحد الفريقين المختلفين إلى فرق الضلال ، فقد أبعد النجعة وظلم ، كمن يقول: من لم يكفر تارك الصلاة فهو مرجئي ، أو من كفر تارك الصلاة فهو خارجي.
الصورة الثانية : التأصيل والتمثيل :
إذا اتفق المجتهدون أو المسلمون في الأصول والقواعد ، ثم اختلفوا في تطبيقها ، أو إنزالها على الصور، أو ما يسمى التمثيل ، أو الفروع ، فلا يضرهم ذلك شيئاً ، ولا يجوز أن ينكر بعضهم على بعض ، فضلاً أن يعيب أو يشنع بعضهم ببعض .
توضيح ذلك : إذا اتفق المجتهدون في قواعد التكفيـر .. ثم اختلفوا في تكفير عين ، أو اتفقوا في معنى الابتداع .. ثم اختلفوا في مسألة ، بين بدعة أو سنة ، أو في تبديع عين ، فلا يجوز أن يكون هذا التمثيل محل جفاء ونزاع ، فضلاً أن يكون سبب خصومة وتفرق ، وقاعدة ذلك قاعدة الخلاف المعتبر : (( نصحح ولا نجرح ، نبيّن ولا نضلل )) ويأتي شرحها إن شاء الله تعالى .
أما الاختلاف في التأصيل فله مقام آخر .
الصورة الثالثة : الاختلاف في الأعيان :
اعلم -رحمك الله- أنه إذا صحت أصول المختلفين وتوحد منهجهم ، فلا يجوز -بعد ذلك- التفرق والشقاق والتحزب لأجل اختلافهم في الحكم على بعض الأعيان ، ولا يجوز عقد الولاء و البراء في هذا ، ولا يلزم منه تضليل المخالف ولا مفارقته ، لأن الاختلاف في الأعيان ، يدخل في باب الاختلاف المعتبر ، واختلاف التمثيل ، وإنما أفردته بالذكر لما حصل بسبب ذلك في زماننا من الفتن في الأعيان .. وإلا فهو محل اجتهاد ... ولكلٍ اجتهاده ، ومن جرح لأجل هذا ، وصنف فقد ضل وفرَّق ، وتحزب وتنطع ( ).
ومن ذلك : أن يكون اختلافهم في التجريح والتعديل متناقضا أشد التناقض ، كما اختلف سلفنا في تكفير بعض الأعيان ، وفي تبديعهم وتجريحهم ، فاختلفوا في الحجاج تكفيراً وزندقة ، واختلفوا في الجنيد وإبراهيم بن أدهم وعبد القادر الجيلاني ، وغير هؤلاء كثير ، تبديعاً وتفسيقاً .. بل اختلفوا في بعض الأعيان .. هل هم صحابة أم منافقون..؟! ومع ذلك لم يتخاصموا ولم يتفرقوا ، ولم يجرح بعضهم بعضاً لذلك ، ولم يُلزم أحدُهم قولَه أحداً ، ولا يلزم الآخرين التبرؤ منه ، ولا حجة بأحد على أحد ، ولا يحتج بعالم أو علماء مهما كانوا ماداموا مختلفين إلا أن يتفقوا ، فإن سعيد بن جبير ومن معه لما كفروا الحجاج ، لم يلزموا الحسن البصري وغيره التبرؤ منه ، ولا نادى بين الناس أن من لم يتبرأ من الحجاج فهو مبتدع .. ولا كفّر سعيد بن جبير الحسن ، وليس هذا المقام مقام ولاء وبراء ، كما يفعل بعض الحد ثاء ومن يؤازرهـم ، ومن خالف هذا المنهج فقد فرق ، وكان سبباً في إشعال الفتنة بين المسلميـن ، فتنبه لذلك وكن من الراشدين .
وإذاً اتفقنا في المعاني فلا مشاحة إذا اختلفنا بعد ذلك في الأعيان .. والاختلاف في الأعيان لا يفسد الإتفاق والمودة بين الإخوان .
ولقد وقع في زماننا هذا من التعصب للأعيان والتحزب لهم ، والتفرق من أجلهم ، والولاء والبراء فيهم، الشيء العظيم ، وجلب على المسلمين الشر الكبير ، كأن الإسلام مبني على الولاء والبراء في الأعيان .. فلاحق فيه ولا تأصيل ، ولا مبدأ فيه ولا دليل ، إلا هؤلاء الأعيان .. نعوذ بالله من من فقه الصبيان .
الصورة الرابعة : اختلافهم في تصور مسألة أو فهم واقعة ، ثم اختلافهم في حكمها .
تنزيل الأحكام على الوقائع ممن هم أهل لذلك ،واختلافهم في ذلك داخل في هذا الباب
واختلاف كثير من العلماء المعاصرين في أحكام كثير من الوقائع المعاصرة كحكم الإحرام من جدة ، والعقود المنتهية بالتمليك ، وحكم الجهاد في بعض البقاع كاختلاف الرسول وأصحابه في أسارى بدر .
الصورة الخامسة : اختلافهم في تفسير نص من الكتاب أو السنة ، أو تفسير نص لأحد الأعيان ، وأمثلة هذا كثيرة .
وهذه الصور كلها صور متداخلة ومتكررة ، أردنا زيادة التفصيل ، لزيادة التوضيح ، وهي تدخل في باب الخلاف المعتبر ، الذي لا يجوز الإنكار فيه و لا التفضيح ، ولا التنازع ولا التجريح ، مهما كانت شدة الخلاف ، ومهما كان موضعه ، ومهما كانت نتائجه ، وإنما الواجب فيه النصح والتوضيح ، والبيان والتصحيح .. فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان لا يرى التيـمُّمَ للجنب ، ولو ترك الصلاة عشر سنين .. وهذا خلاف بين الصحابة شديد . وهذا الإمام أحمد رحمه الله كان يرى كفر تارك الصلاة .. وبهذا يخرج -عنده- من المسلمين -عند غيره- كثيرون ، وهو خلاف شديد بين الأئمة ، وثماره كبيرة ومهمة ، ومع ذلك ، لم ينكر على عمر ، ولم يجرح أحمد ، ولا يجوز أن يلام أبداً ، بل أصحاب هذا الخلاف بين أجر أو أجرين .
الرابع من أنواع الخلاف -خلاف الخطأ : هذا النوع فرع من النوع السابق ، وفيه شيء من الدِّقَّة .
تعريفه :هو كل اجتهاد معتبر ثبت بعد ذلك خطؤه ، بدليل قطعي الثبوت ، قطعي الدلالة ، بحيث لو اطلع عليه المخالف تراجع .
وبتعبير آخر: سقوط مناط حكم المجتهد ، سقوطاً كلياً ، كاجتهاد خالد بن الوليد رضي الله عنه في قتل بني جزيمة ، والذي قال فيه رسول الله: (( اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد )) ، وكترك رفع الأيدي قبل الركوع وبعده عند بعض الأئمة ، وما شابه ذلك ، مما لم يظهر للمجتهد حين اجتهاده النص الذي يتبين به خطؤه ، ثم ظهر النص بعد ذلك جلياً، قطعي الدلالة ، قطعي الثبوت ، بحيث لو وقف عليه المجتهد، لتراجع عن رأيه ، وقولنا عنه : خطأ ، احتراماً للمجتهد وتقديراً لحقه .
قاعدته : المجتهد: يُخطَّئ ولا يُلام ، والمقلد يُنصح ويُعلم ويُبين له ، فإن أصرَّ على الخطأ تقليداً للمجتهد مع ظهور الدليل ، فقد وقع في الضلال .
5- خلاف الضلال :
تعريفه : هو كل خلاف سقط عند صاحبه أحد الشرطين الأولين في الخلاف المعتبر ، أو كان مناط حكمه فاسداً . والشرطان هما : أهلية الاجتهاد ، وصحة الأصول .
كأن يكون القائل: ليس أهلاً للاجتهاد ، أو تكون أصوله فاسدة ، أو يخالف نصاً صريحاً لا يحتمل التأويل، أو يبني اجتهاده على مالا يعتبر شرعاً ، كالفلسفة وعلم الكلام ، وسياسة الواقع وما شابه ذلك ، ومعظم هذا الصنف من أهل الابتداع والعواطف ، والحماسة والجهل ، وتتبع الرخص ، ولكنه ما يزال يدور في فلك الإسلام ، ويتذرع ببعض النصوص العامة .
مثاله : أقوال أهل البدع جميعاً التي خالفوا فيها أهل السنة –كالقول بعدم رؤية الله في الآخرة- والقرآن مخلوق – والتكفير بالذنب –تفضيل أحد على الراشدين –الغمز ببعض الصحابة –المرتد لا يقتل. –جواز الاختلاط .
قاعدته : نفارق ونضلل. وذلك بعد البيان والنصح.. والنظر في مفاسد ذلك ومصالحه.
6- خلاف الهوى والجهالة :
هذا الخلاف قريب من السابق أو نوع منه ، إلا أن أساسه الهوى والفساد ، بالاتفاق بين المسلمين ، وأما السابق ، فقد يكون محل قيل وقال بين أهل الحق وأهل البدع ، إذ قد يكون لهم شبهة في استدلالهم.
تعريفه : هو كل مخالفة لأهل الحق أو الدين ، في الدين والدنيا والإدارة ، أساسه الهوى ، والجهالة ، ليس له من الأدلة مستند ، ولا هو من الدين أصلا.
مثاله :
- الخارجون على الحاكم المسلم لمصالح شخصية ، أو عصبيات جاهلية .
- الحاكمون بغير ما أنزل الله من غير كفر أكبـر .
- الفتاوى التي تباع مما يخالف دين الله .
- ما يحصل من الاقتتال بين المسلمين بغير حق .
قاعدته : نعتزل ونضلل ، ونقف مع الحق ونجاهد معه ، بأموالنا وأنفسنا حسب استطاعتنا.
7- الخلاف الإداري :
تعريفه : هو كل خلاف في الرأي في أمور إدارية أو دنيوية ، وليست في الدين نفسه . ولا من خلاف الهوى .
أو هو: اختلاف وجهات النظر في تسيير الأمور لا دليل أصلاً في المسألة للحكم فيها ، أو الترجيح .
مثاله : الاختلاف في مكان بناء المسجد .. تعييـن وقت المحاضرة أو الدروس.. موعد السفر الجماعي.. توزيع الأعمال على العاملين.. تنظيم أمور الجمعيات والمراكز ، من تعيين الرئيس ، والهيئة الإدارية وما شابه ذلك .
أسبابه: تفاوت النظر في المصالح والمفاسد ، أو العناد ، والإصرار على الرأي ، لأن صاحبه يعتقد صوابه ، ويكون سببه حب الذات ، وسوء الأخلاق .
وكثير من خلافات المسلمين في جمعياتهم ومراكزهم ومساجدهم من هذا الباب ، وكثير من الانشقاقات الداخلية في الجماعات بسببه .
قاعدته : التطاوع .
وهو ترك الرأي -ولو كان صاحبه يعدّه صواباً- إلى رأي غيره -ولو كان يراه خطأ-
ولقد ترك رسول الله رأيه - الاجتهادي الإداري - أكثر من مرة ، لمن هو دونه ، و كان رأيه صواباً ، كما في غـزوة أحد، حين ارتأى أن يقاتل في المدينة ، ورأى الصحابة القتال خارج المدينة فطاوعهم ، رغم خطأ رأيهم، وحصل ذلك في غزوة الطائف، حين ارتأى الرحيل ، وتأخيـر القتال ، ورأى الصحابة القتال ، فطاوعهم رغم خطأ رأيهم . فهل لنا في ذلك عبرة .
واعلم أن في التطاوع -وإن كان قبولاً برأي يراه خطأ- خيراً كبيراً، ونفعاً عظيماً، ليس هاهنا مجال ذكره . وأن في العناد والإصرار على الرأي-وإن كان صاحبه يراه صواباً- شراً عظيماً، وفشلاً كبيراً ، قال تعالى : ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم [الأنفال: (46)] .
ولو أننا نتطاوع لكان خيراً لنا ، وأقوى وأحفظ لوحدة المسلمين وكلمتهم ( ).
حكم الاختلاف في العقيدة :
لا يجوز الاختلاف في أي أمر ثبت في الدين بيانه أو حكمه ، سواء كان في العقيدة ، أو في المنهج ، أو في العبادات ، أو حتى في السواك . فالاختلاف كله شر لا خير فيه .
ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ، وأولئك لهم عذاب عظيم [آل عمران: (105)]
وقال ابن مسعود : ( الخلاف شر ) أخرجه البخاري وغيره
ويزداد الخلاف شراً في العقيدة ، وفي الأمور التي يترتب عليها أثر عملي .
لكن ؛ هل كل خلاف يلزم منه تضليل أحد الطرفين ؟
كلا ؛ ليس كل خطأ أو خلاف في العقيدة بله غيرها، يكون أصحابه أو أحد الطرفين ضالاً ، فمنه ما يكون المخالف ضالاً ، ومنه ما يكون مخطئاً مأجوراً ، حتى ولو كان في العقيدة ، وقد اختلف السلف في أمور كثيرة، تدخل في باب العقيدة وفي غيرها ، ومع ذلك لم يضلل أحد الطرفين الآخر .
كالاختلاف في أول الخلق . هل هو القلم أو العرش ؟!
وهل الملائكة أفضل أم البشر ؟ وهل رأى رسول الله ربه ليلة الإسراء ؟!
وهل الجنة التي نزل منها آدم هي جنة الخلد أم جنة أخرى ؟؟
فأنت ترى أن هذه الخلافات في أمور عقدية ..ومع ذلك ، لا يجوز وصف أحد الطرفين بالضلال ، ولا يفعل هذا إلا غبي أو خبيث .
ومع التقرير بأن الخلاف في العقيدة -بعامة- أعظم أثراً ، وأكبر ضرراً ، ولكن ؛ ليس كل خلاف في العقيدة يكون أعظم من كل خلاف في العبادات وغيرها .
ألا ترى أن الخلاف في شروط الصلاة أكبر أثراً من الخلاف في أول الخلق ، وأن الخلاف في وقوع الطلاق، أعظم أثراً من الخلاف في نبوة أم موسى ، أو أم عيسى عليهم الصلاة والسلام .
ولو أن رجلاً مات وهو لا يعلم .. أرأى رسول الله ربه أم لم يره ، لا يضره ذلك في دين ولا عمل ، ولا حساب ولا سؤال شيئاً ، ولو مات وهو لا يحسن الوضوء، لأضر به ذلك ضرراً بالغاً .
ولو أن المترصدين أدركوا الفرق بين تَعَمُّدِ الخلاف، وبين جواز وقوعه ، لما اعترضوا وشنعوا، فإن ثمة فرقاً بين من يخالف النص بهوى وجهل، وهذا هو المحرم ، الذي تنصب النصوص عليه ، وبين ما يقع من المجتهدين من الخلاف في الفهم . وهذا الذي لا يجوز فيه الطعن بأحد الأطراف ، حتى وإن كان الخلاف في العقيدة ،( ) وقاعدة ذلك هو قاعدة الخلاف المعتبر :
- إذا كانت أصول المختلفين صحيحة .
- ومناط استدلالهم معتبراً .
- وهم من أهل الاجتهاد .
- وبذلوا الجهد في ذلك .
ثم اختلفوا .. فلا إثم على أحد منهم ، مهما كان موضع الخلاف وشدته .
وقد أفاد هذا شيخ الإسلام بقوله : (( فالصواب أنه من اجتهد من أمة محمد ، وقصد الحق ، فأخطأ : لم يكفر ؛ بل يغفر له خطؤه. ومن تبين له ما جاء به الرسول، فشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ، واتبع غير سبيل المؤمنين ، فهو كافر ، ومن اتبع هواه ، وقصّر في طلب الحق ، وتكلم بلا علم : فهو عاص مذنب ، ثم قد يكون فاسقاً ، وقد تكون له حسنات ترجح على سيئاته.. فليس كل مخطئ ولا مبتدع ولا جاهل ولا ضال ، يكون كافراً ؛ بل ولا فاسقاً ، بل ولا عاصياً )) [الفتاوى (12/180) ].
وليس في هذا تهوين من شأن العقيدة ، وإنما فيه تعظيم لشأن علماء السنة المجتهدين ، وحماية جنابهم من أن تطولهم ألسنة الحدثاء ، إذا ما سمعوا اختلافاً بين علماء السنة في العقيدة ، والله المستعان على هذه الفتن .
هل يجوز أن يلزم أحد أحداً باجتهاد أو رأي ؟
لا يجوز أن يلزم أحدٌ أحداً برأيه أو اجتهاده ، أو اجتهاد غيره ، مهما كان المجتهد أو المجتهدون على علم أو منزلة أو عدد ، وسواءً كان هذا الخلاف في العقيدة ، أو المنهج ، أو العبادات ، أو المعاملات ، أو الاختلاف في الأعيان .
ولا يجوز إلزامٌ إلا بآية قطعية الدلالة ، أو حديث واضح الدلالة ، وصحيح الثبوت ، أو إجـماع متيقن ، أو ما اشتهر من مذهب السلف واستقر عليه الأمر ، وماعدا ذلك ، فلكل اجتهاده ، في إطار النصوص ، والاجتهاد المعتبر ، ومن ألزم بغير ما ذُكِرَ فقد جهل وتعصب .
وربما يدفع بعضَهم الجهلُ والتعصبُ إلى إلزام إخوانهم آراءهَمُ ، أو اجتهاداتِ من يقلدونهم ، فمن التزم بأقوالهم فهو المهتدي عندهم ، ومن لم يلتزم كان -عندهم- ضالاً مبتدعاً ، يجب مفارقته ، ومفارقة من لا يفارقه ، والتبرؤ منه ، وممن لا يتبرأ منه ، فشقُّوا بذلك الصف ، وأحدثوا الفتن ، ولا يفعل هذا من كان عنده علم أو دين أو عقل ، والله المستعان .
هذا وقد حصل اختلاف شديد بين علماء الأمة في كثير من المجالات، حتى وصل إلى تكفير من ترك بعض الأعمال، كما اختلفوا في تكفير أعيان وجماعات .
فكفَّر طائفة من السلف تارك الصلاة ، وكفر طائفة منهم الخوارج ، وكفر طائفة منهم من قال بخلق القرآن ، ومع هذا الاختلاف الشديد ، لم يلزم أحدٌ أحداً برأيه ، ولا ضلله لمخالفته ، ولا فارقه لإصراره على رأيه ، ولا يعرف هذا سلفنا الصالح ، وأهل العلم ، وأهل الصلاح ، وإنما يفعل هذا أهل الفساد . ومن أجهل الجهل ، أن يفترق الناس لاجتهادات في أقوال أو أعيان . فلا حول ولا قوة إلا بالله ، مما يصنع أهل هذا الزمان.
من كتاب منهج الاعتدال للشيخ عدنان عرعور