هذه هي الحلقة الثالثة كاملة، وقد تم نشرها على الموقع على هذا الرابط:
مناهـج المصنفيـن (3)
لكن تم تحرير مواضع منها بالحذف، فأوردها هنا كاملة:
مناهج المصنفين (3)
الحمد لله، والصَّلاة والسلام على رسول الله، سيِّدنا محمَّد - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وعلى آله وصحْبِه، وبعد،
فهذه هي الحلْقة الثَّالثة من موضوعِنا المتواصل "مناهج المصنّفين في ذِكْر أوجُه القراءات"، وقد عرضْنا فيما سبق أوَّلا لابتِداء حركة التَّصنيف في عِلْم القراءات، ومَن كانت لهم أسبقيَّة الكتابة في هذا العلم الجليل، الذي يشْرُف بشرَف موضوعِه شرفًا لا يُدانيه فيه غيرُه من العلوم.
ثمَّ عرضْنا بعد ذلك للمُكْثرين والمقلِّين من القراءات في تصانيفِهم، وأسباب ذلك حسْبما ظهر من كلام ابن الجزري - رحمه الله - ومن سِيَر وتراجِم هؤلاء المكْثِرين والمقلِّين.
وها نحن أولاء نصِل إلى هذه الحلقة، التي نتناول فيها الطَّريقة الَّتي يعرض فيها المصنِّفون أوجُه الخلاف بين القراءات؛ أي: ترتيب الكتاب من الداخل، وهذه الحلقة بهذا المفهوم هي الأكثر اقترابًا، أو هي الألصق بعنوان هذه الحلقات جميعًا، وبالله التوفيق.
يقول الدكتور إبراهيم الدوسري في مقدّمة تحقيقه لجزء من كتاب (المصباح) للشهرزوري - وهذا الجزء يشمل سورَتي الفاتحة والبقرة، ونُشِر بمجلَّة جامعة الإمام، العدد 31 - يقول:
أشير إلى مناهج المصنفين في ذكر أوْجُه القراءات، وهي على أربعة أنحاء:
1- ذِكْر كلِّ حرف في موضعه عند أوَّل ورودِه من القرآن الكريم على ترتيب السور، وبيان حكمه ونظائره، وربَّما أحالوا إليْه إذا تكرَّر، وخاصَّة إذا طال الفصل، وعلى ذلك المنهج سار الأقدمون أمثال: أبي بكر بن مجاهد في "السبعة" .
2- تقْسيم الكتاب قِسمين أساسين: الأصول والفرش، أما الأصول فضمَّنوه مسائل القراءات التي عليْها مدار القِراءات، كالهمز والإدْغام والإمالة وأضدادها، وجعلوه أبوابا، وأمَّا الفرْش وهو ما قلَّ دوْرُه من الحروف المختلَف فيها، وأغلبه لا يندرج في أبْواب الأصول، وجعلوه [كذا ولعلها: فجعلوه] بابًا واحدًا وقسَّموه على سور القرآن الكريم، وما ذكروه في الأصول لا يكرِّرونه في الفرش إلاَّ على وجه الإحالة فقط، وأوَّل مَن وضع هذا المنهج: علي بن عمر الدارقطني (ت 385 هـ)، وتابَعه على ذلك أكثر المؤلِّفين.
3- مثل المنهج الثَّاني إلاَّ أنَّهم يكرِّرون في الفرْش أوجُه القراءات عند أوَّل ورودِها - ولو باختصار - فجمعوا بين المنهجَين السَّابقين، وعلى ذلك المنهج سار المصنِّف في "المصباح".
4- جعْل الكتاب كلِّه أبوابًا أصوليَّة، فلم يُفْرد الفرْش بباب مستقل، فهو عكْس المنهج الأوَّل، وأوَّل من وضعه: هبة الله البارزي (ت 738 هـ) في كتابه "الشرعة"، ونظرا لصعوبته لم يتابعه أحدٌ فيما وقفتُ عليه. اهـ.
هذا هو كلام الدكتور الدوسري - حفظه الله - في بيان مناهج المصنِّفين في ذكر أوْجُه القراءات، أنَّها على أربعة أنحاء، ويبدو أنَّ هذا الكلام دائرٌ بين الدَّارسين على هذا النَّحو , ولا يعني دورانُه بين الدَّارسين أو خروجُه من باحثٍ كبيرٍ - كالدكتور الدَّوسري - أنَّه لا يُمكن التَّعديل فيه بالزِّيادة أو النُّقصان، بل إنَّ معظم التقسيمات القائمة على الاجتهاد والتأمل تحتمل مثل هذا: إمَّا دمجًا لبعض أجزائها أو تفريقًا، أو زيادة أو نقصًا .
والذي يعنيني هنا في هذا التَّقسيم الرباعي، أن أتوقَّف عند النَّوع الثَّاني والنَّوع الرَّابع، فأرى أنَّ هذا النَّوع الثَّاني يمكن تفريقه إلى نوعين متمايزينِ تمايُزًا واضحًا، وأرى أنَّ النوع الرابع يمكن التأريخ لأوليَّته بأسبق ممَّا ذكره الدكتور.
أوَّلاً: الكلام على النَّوع الثاني
قال الدكتور في بيانه: تقْسيم الكتاب قِسمين أساسين: الأصول والفرش، أمَّا الأصول فضمَّنوه مسائل القراءات التي عليْها مدار القِراءات؛ كالهمز والإدْغام والإمالة وأضدادها، وجعلوه أبوابًا، وأمَّا الفرْش وهو ما قلَّ دوْرُه من الحروف المختلَف فيها، وأغلبه لا يندرج في أبْواب الأصول، فجعلوه بابًا واحدًا وقسَّموه على سور القرآن الكريم.
أقول: الذي يُفْهَم من هذا الكلام أنَّ الكتب المصنَّفة على هذا النَّحو قد تمَّ تقْسيمها قِسْمَين، الأوَّل منهما هو قسم الأصول، يبتدئُ فيه المصنِّفون بعد ذكر الأسانيد مباشرة، وبعد الانتهاء منه يبدؤون في فرش الحروف.
ثمَّ قال: وأوَّل مَن وضع هذا المنهج: علي بن عمر الدارقطني (ت 385 هـ).
أقول: نعم قد نُقل عن كتابِ الإمام الدارقطني في القراءات أنَّه جُمِعَتْ فيه الأُصُول في أبواب عقدها في أوله.
قال الخطيب البغدادي في ترجمته: "انتهى إليه علْمُ الأثر والمعرفة بعِلَل الحديث وأسماء الرِّجال وأحْوال الرواة، مع الصِّدْق والأمانة والفقْه والعدالة، وقبول الشَّهادة وصحَّة الاعتِقاد وسلامة المذْهب، والاضطِلاع بعلومٍ سِوى علْم الحديث، منها: القراءات؛ فإنَّ له فيها كتابًا مُختصرًا موجزًا، جَمع الأصولَ في أبْوابٍ عقَدَها أوَّل الكتاب، وسمعتُ بعضَ مَن يعتني بعلوم القرآن يقول: لَم يُسْبَق أبو الحسن إلى طريقتِه التي سلكَها في عقْد الأبواب في أوَّل القِراءات، وصار القرَّاء بعدَه يسلُكون طريقتَه في تصانيفِهم ويَحْذون حذْوه".
ولا أعرف شيئًا الآن عن كتاب الإمام الدارقطني في القراءات، وليس هو من مصادر الإمام ابن الجزري في كتاب "النشر"، بل إنَّ الإمام ابنَ الجزري حين اختار طريقًا للدارقطني في رواية قالون من طريق أبي نشيط، لم يسندها إلى كتابه، بل أخذها طريقًا أدائيَّة.
ثم يقول الدكتور الدوسري: "وتابَعه على ذلك أكثر المؤلِّفين".
أقول: يعني بأكثر المؤلّفين عددًا كبيرًا من المصنِّفين، قدَّموا قِسْم الأصول في أوَّل الكتاب ثمَّ أعْقبوه بقِسْم الفرْش مرتَّبًا على السُّور.
ويدخل في هؤلاء المصنّفين المعنيّين - بحسب ما يُفْهم من إطلاق الدكتور الدَّوسري -: الإمام مكّيّ في "التَّبصِرة" ت 437 هـ، والإمام الدَّاني في "التيسير" ت 444 هـ، وابن سوار في "المستنير" ت 496 هـ، والشَّاطبي في "الحِرْز" ت 590 هـ، وابن عبد المؤمن في "الكنز" ت 740 هـ، وغير هؤلاء كثير.
وقد رأيت الدكتور حاتم الضامن في تحقيقه القيّم لكتاب "التيسير" للدَّاني، يقول قريبًا من هذا الكلام عن منهج الداني في "التيسير"؛ قال:
"وبعد هذا جاء باب ذكر الأسانيد التي أوصلت القراءة إلى المؤلف، ثم ذكر أبواب الأصول التي تتناول الأحكام العامة، وهي:
الاستعاذة، التسمية، الإدغام الكبير لأبي عمرو، هاء الكناية، ...، ....، ....، وبعد الانتهاء من ذكر هذه الأصول يأتي (باب فرش الحروف) ثم ينتهي الكتاب بـ (ذكر التكبير في قراءة ابن كثير)".
فتأكَّد لديَّ أنَّ هذا الكلام يتداوله الدَّارسون والباحثون.
لكنَّ هذا الكلام - عند التَّحقيق - ليس دقيقًا؛ فليس كتاب التبصرة، ثم التيسير، ثم الشَّاطبيَّة ممَّا ينطبق عليه هذا الكلام بالضَّبط، وكذلك ما كان موافقًا لهم في التَّرتيب.
إنَّما ينطبق هذا الكلام على كتاب ابن سوار "المستنير"، وكتاب ابن عبد المؤمن "الكنز"، وما أشبههما.
وبيان ذلك أنَّ كتاب التَّبصرة - وما تبعه - لم يُذكَر فيه أنَّه يبدأ بالأصول إلى أن ينتهي منها فيأخذ في فرش الحروف، بل أخذ في ذِكْر الاستعاذة، ثمَّ البسملة، ثمَّ اختلافهم في فاتِحة الكتاب أو سورة أمّ القرآن.
وليس في هذا الصَّنيع ما يوصَف أنَّهم بدؤوا بالأصول على التَّحقيق، وإلاَّ لَما ذكروا الاختلاف في (مالك يوم الدين) وفي كلِمة "سراط" و "السّراط"، فهذا من الفرش دون أدنى شكّ.
وزاد الإمام مكّيّ بيانًا للمنهج الَّذي يسير عليه، فقال بعد أن بدأ في سورة البقرة:
"اعلم أيُّها الناظر في هذا الكتاب أنَّ هذه السّورة - سورة البقرة - يتوالى فيها أحرُف وأصول كثُر دورُها؛ مثل هاء الكناية عن المذكر، والمد والقصر، واجتماع الهمزتين، والهمز وحكم الوقوف عليه وتسهيله، والوقف على هاء التأنيث، والروم ....، .....، .....، وما شابه ذلك،
وأنا - بعون الله - أذكر لك كلَّ أصل من هذا مفردًا، وأبيِّنه بحسب المقدرة، ثم نتبع ذلك الأحرفَ التي قلَّ دوْرُها سورةً سورة ....".
فهذا بيان شافٍ من الإمام مكّي بالمنهج الَّذي ترسَّمه في عرض أوجُه الخلاف.
وعلى هذا المنهج سار كتاب التيسير في القراءات السبع لأبي عمرو الداني، وكذلك النظم المشهور "حرز الأماني".
فبعد الكلام على الاستعاذة والبسملة يلقانا الكلام على أوجه الخلاف في "سورة أم القرآن" فيقول:
وَمَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ رَاوِيهِ نَاصِرٌ * * * وَعِنْدَ سِرَاطٍ وَالسِّرَاطِ لِ قُنْبُلا
بِحَيْثُ أَتَى وَالصَّادَ زَايًا أَشِمَّهَا * * * لَدَى خَلَفٍ وَاشْمِمْ لِخَلادِ الاوَّلا
عَلَيْهِمْ إِلَيْهِمْ حَمْزَةٌ وَلَدَيْهِمُو * * * جَمِيعًا بِضَمِّ الهَاءِ وَقْفًا وَمَوْصِلا
وبعد أن يَستكمل الكلام على ميمِ الجمع وأيضًا الهاء قبلها، انطلاقًا من ورود ذلك في سورة أم القرآن، وهو: "أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم"، يبدأ في "باب الإدغام الكبير".
أنا أظنُّ أنهم لو لَم ينظروا إلى ورود حرفٍ من الإدغام الكبير في أوَّل سورة البقرة؛ وهو: "فيه هُدًى" لَما بدؤُوا بباب الإدْغام الكبير، ولبدؤوا مثلا بـ "المدّ والقصر".
بل أخَّروا هذا الباب - المدّ والقصر - أيضًا من أجل الكلام على "هاء الكناية" لورود كلمة "فيه" في أوَّل سورة البقرة.
وعلى هذا الترتيب كثيرٌ من كتُب القِراءات، وهو ليس منطبقًا تماما على ما ذكره الدكتور الدوسري في النوع الثاني، ولا على ما ذكره الدكتور حاتم الضامن بخصوص كتاب "التيسير"، والله أعلم.
أمَّا المصنّفون الذين انتهجوا منهجًا يتطابق مع كلام الدّكتور الدوسري، فمنهم: أبو طاهر بن سوار في كتاب "المستنير"، وابن عبد المؤمن في كتاب "الكنز".
قال الإمام أبو طاهر بعد ذكر أسانيده إلى الأئمة العشرة: "فهذا جميع ما أذكره في هذا الكتاب عن الأئمة العشرة - رحمة الله عليهم، فلنذكر الآن الأصول في الإدغام والإظهار وغير ذلك، واختلافهم فيه على ما قرأته عنهم، والله عوني ......".
ثم أخذ في ذكر إدغام أبي عمرو الموسوم بالإدغام الكبير.
ثمَّ فصل في المتقاربَين، ثمَّ باب في النُّون والتَّنوين، وهكذا إلى أن ينتهي من الأصول.
ثمَّ فاتِحة الكتاب وفيها الكلام على الاستِعاذة والتَّسمية.
ثمَّ سورة البقرة، وهكذا .....
وقال الإمام ابن عبد المؤمن في "الكنز" بعد خطبة الكتاب:
"وأتوخَّى الإيجاز الَّذي لا يُخلّ، وأتعمَّد الإيضاح الَّذي لا يملّ، وأجعله ثلاثة أقْسام:
الأول: في المقدّمة؛ إذ بها يعرف ما يُذكَر بعد ويقرَّر.
الثاني: في الأصول الَّتي يكثُر دَورُها ويتكرَّر.
الثالث: في فرْش الحروف المبثوثة على ترْتيب السُّوَر".
وجعل القسم الأول في ثلاثة أبواب؛
الأول في أسماء الأئمَّة وبلادهم ورواتِهم وأسانيدهم.
الثَّاني في قواعد الكتاب.
الثالث في مخارج الحروف وصفاتها.
ثمَّ القِسْم الثَّاني في الأصول؛ وهي عشَرة:
الأصل الأول: في الإدغام والإظهار.
الأصل الثاني: في هاء الكناية.
الأصل الثالث: في الهمز.
الأصل الرابع: في المدّ والقصْر، والوقْف على السَّاكن.
الأصل الخامِس: في الإمالة.
الأصل السادس: في ترْقيق الرَّاءات وتفْخيمِها.
الأصل السَّابع: في تغليظ اللامات وترقيقها.
الأصل الثامن: في الوقف، وفيه أربعة أبواب.
الأصل التاسع: في الياءات.
الأصل العاشر: في الاستعاذة، والبسملة، والتكبير، والتهليل.
ثم القسم الثالث في فرش الحروف، أوله سورة الحمد.
وأظن هذا الكتاب "كتاب الكنز" من أحسن كتب القراءات ترتيبًا، وهو يصدق عليه ما ذكره الدكتور الدوسري في النَّوع الثاني.
وخلاصة هذا البحث أنَّ النَّوع الثَّاني الذي ذكره الدّكتور الدَّوسري - تقْسيم الكتاب قِسمين أساسين: الأصول والفرش - يمكن أن يفرق إلى قسمَين ظاهرين كما سبق بيانه، والحمد لله أوَّلا وآخِرًا.
ـــــــ
المراجع:
1- كتاب السبعة لابن مجاهد.
2- كتاب الغاية لابن مهران، ولم يتيسر لي إلا طبعة دار الصحابة.
3- كتاب التبصِرة لمكي بن أبي طالب، تحقيق المقرئ/ محمد غوث الندوي.
4- التيسير في القراءات السبع، تحقيق د. حاتم الضامن.
5- المستنير في القراءات العشر، ولم يتيسر لي إلا طبعة دار الصحابة.
6- الشاطبية، ضبط وتصحيح ومراجعة محمد تميم الزعبي، الطبعة الخامسة، 1431، دار الغوثاني. ونسخة دار الصحابة، كتبه محمد فؤاد زيدان، راجعه جمال محمد شرف.
7- الكنز في القراءات العشر، ولم يتيسر لي إلا طبعة دار الصحابة.