يتنامى إلى أسماع كثير من الناس خبر فلان الميت ، و المنسوب إلى أهل العلم ، و أهل الفقه في الشرع ، و الضلاعة في اللغة ، و المُكنة في علوم العقل ، و نحو ذلك ، فيتسابقُ أهل الفضلِ إلى إسداءِ واجبِ العلم و الإسلامِ بالترحُّمِ و التَّرَضِّي عنه .
و مما يُذكرُ في مناقبِ و مفاخِرِ ذلكم العالِم و الفقيه أنه ممن جمعَ مكتبةً عظيمة ، و أنَّ له تآليفَ كثيرةً ، و تصانيفَ كبيرةً ، منعَ من إظهارها في حياته أسبابٌ و عللٌ ، فيأمَلُ الناسُ خيراً في ذريته _ علواً و نزولاً _ أن يكونوا خلفَ خيرٍ لأبيهم في إخراج تلك الكتب ، و هذا المؤمَّلُ و المرْجوُّ مِن حُفَّاظ حقِّ العلم ، و الساعين في بِرِّ الأبِ بعد أفولِ نجمه .
إلا أننا نُصاب بأسَىً حين يبلغنا أن تلك الكتب مضى على موت صاحبها و مؤلفها سنينَ عدداً و لم يبدُ شيءٌ منها لعينٍ ترجوها ، و لا بلغَ أُذُناً همَّ إخراجٍ .
و هذه جنايةُ كثيرٍ من أبناءِ علماءِ زماننا هذا على كتُبِ أبائهم ، فحرموا الناسَ منها ، و منعوا العملَ على إخراجها ، فصارَ شأنهم احتكارٌ لِمُشاعٍ ، و منعٌ لمُباحٍ .
و علةُ أولئكَ في تصرُّفِهم أنها من جملةِ موروثاتِ أبيهم ، و أنه لا يحقُّ التصرُّفُ بشيءٍ منها إلا بطرفٍ آذن من ورثته ، و لو بلغ البُعدُ عشرات ، و أنَّ إخراجَ ذلك بغيرِ هاتيك السابلةِ المرقومةِ فإنه عملٌ باطلٌ ، و صنيعٌ مُتَبَّرٌ .
و يُرَوْنَ يَعِدُوْنَ بأنَّ ذلك قد قربَ عهدُه ظهوره ، و قابَ قوسينِ أو أدْنى من الخروج ، و تمرُّ السنين ذوات العددِ ، و المماطلةُ باقيةٌ على عروشها .
و هذا الوعد بالإخراجِ ، و المحفوف بالمماطلةِ مكيدةٌ لصيدِ مَن يعملُ على الكتابِ فيُؤْخَذُ منه للمراجعةِ و النظر ، و بعدُ الإذنُ ، فيكون جاهزاً للإخراجِ ، فيُعْتَذَرُ بكيتَ و كيتَ ، ثم يضيعُ عمله هباءً ، فيراه خارجاً باسمِ ابنٍ أو حفيدٍ ، لا يمُتُّ للعلم بِصِلَةٍ ، و لو زوراً .
و مِن عجيبٍ قولُ بعضٍ أنَّ الكتابَ إذا حُقِّقَ ، و اعتُنِيَ بِه ، فإنه لا يُسْمَحُ لأحدٍ بأَنْ يكتبَ مقدمةً و لا ترجمةً ، إلا ( أنا ! ) ، و إن كان الاعتناءُ مناسباً بمقامِ والدي فسيُخْرَجُ الكتابُ باسمي لا باسمِ غيري ، لأنَّه إرْثَ أبينا . !!
و هذه جنايةٌ كبرى أخرى .
و مع هؤلاءِ الأبناءِ تجاه جنايتهم على علوم الأباءِ وقفاتٍ :
الأولى : ليس ما كتبه الأبُ و حرَّرَه خاصاً بأبنائه دون عامةِ الناس ، بل لَم يكتُبْ إلا لِيَعُمَّ النفعُ بين جمهور أهل العلم و المعرفة .
و قد يكون في أبناءِ العالم _ إن لم يكُن كلهم _ مَن هو ليس إلى العلم في علوٍّ و لا نزولٍ ، و يتصرَّفُ تصرُّفَ الجاهل في كتبٍ ، و ربما تصلُ إلى حدِّ التلفِ ، و الله المستعان .
الثانية : الطرفُ المتكفِّلُ بإخراجِ كتابٍ مَّا يُنظرُ في حالِه :
فإنْ كان أمين الصنْعةِ ، موثوق العمل ، فما المانعُ مِن الإذنِ بإخراجه للكتابِ ، و الرضا به بعدُ ؟
و إنْ كان غيرَ ذلك _ كحالِ جملةٍ من مرتزقةِ الكتبِ ( المحققة !! ) _ فلا يؤذَنُ له ، إكراماً للعلم أن تصِلَهُ يدٌ ترنو للدنيا ، و تقصدُ الجاه و المالَ به .
الثالثة : أنَّ مِن جنايات الأبناءِ على أبائهم العلماءِ منعَ الناسِ من هذا الموروث العلمي ، و هذه تُلْحَقُ بجنايةِ كَتْمِ العلم عن أهله .
هذه جنايةُ الأبناءِ على علوم الآباء ، و إني أتساءلُ ما شِكايةُ الآباء من تلك الجناية ، فإنه مما لا شَكَّ فيه أنَّ لهم شكايةٌ كبرى ، و ربما يوم العرْضِ يكون العرْضُ لتلك الجنايات متبوعةً بشكاياتِ المجني عليهم .
و أذكرُ في ذلك واقعتين:
الأولى : أنَّ أحد المحققين اهتمَّ بكتابٍ لأحد كبار علماء هذا العصر ، و اعتنى به : تفريغاً من مسموعاتِه ، و ضبطاً لألفاظه ، و تعليقاً على مواطنِ مُشْكلاته ، و فتحاً لِمُغلقاته ، و عزواً لأحاديثه و آياته ، و لِيُقَدِّرْ القايءُ الكريمُ كم من جهدٍ أُمْضِيَ في ذلك .
فعرضَ الكتابَ على أحد أبنائه _ و هو عالمٌ فقيهٌ _ على أملِ الإذنِ ، فوعدَ خيراً ، و إذا به قد مرَّتْ عليه تسعُ سنواتٍ _ أو تقرُبُ _ و لم يأتِ الإذنُ ، و صدر الكتاب مطبوعاً بعناية آخر ؟!.
الثانية : أحد العلماءِ له مقالاتٌ مفيداتٌ ، جزلةٌ ، محقَّقةٌ ، محرَّرَةٌ ، منثورةً في مجلاتٍ كبرى ، و كتبٌ قديمةٌ ، عُدَّتْ في عِدادِ النادر المفقود ، سألتُ ابناً له _ و هو المُؤَمَّلُ بإخراج كتب أبيه _ فوعد خيراً ، و أنَّ العملَ جارٍ على قدمٍ و ساقٍ ! على إخراجها قريباً ، و هذه الـ ( قريبا ) صارت أكثر من خمسة عشر عاما .
هذا شيءٌ مِن تلك الجنايات ، و ضْربٌ من التسلُّط ( اللطيف ) على موروثِ علوم الآباءِ ، و لا يخسَرُ في ذلك إلا طرفان :
الأول : العالمُ الذي حرَمَه أبناؤه الأجرَ بِسَوْقه حال خروج الكتابِ ، و ديمومةِ الترحُّمِ عليه عند كل نظرةٍ فيه .
الثاني : أهل العلم المُتطلعين لتلك الكتب ، فاشْرَأَبَّتْ أعناقهم حتى انكسرتْ ، و هم ينظرون إلى جديد الكتبِ كالباحثِ عن ابنِ صُلْبِه .
و أما الأبناءُ ذوو الجنايةِ فإنهم حرموا أنفسَهم دعواتَ قومٍ هم خيرُ أهل الأرضِ في أزمانهم ، أعني بهم : العلماء و حملةَ العلم .
و حتى لا يُسارَ بالكلامِ في غيرِ مساره ، و يُطارَ باللفظِ في غير مطاره ، فإنَّه لا تزالُ بقيةُ خيرٍ في أبناءٍ هم خيرُ خلف لخيرِ سلفٍ ، سَعوا في الأرْضِ حثيثاً يتلمَّسُون أهل الأمانة في إخراج كتبِ آبائهم ، باذلين مِن أموالهم نفيسها في تحصيل ذلك ، فهؤلاءِ لن يضيعَ عملهم هباء ، و ما ضاعَ عملٌ صالحٌ ، فكثَّرَ الله في الأبناءِ مثلَهم ، و أرشدهم سُبْلَهم .